العرب والعالم

وقود من الرماد.. عمال غزة يصنعون البقاء في أفران البلاستيك

24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025

وسط ركام البيوت المدمرة في شمال غزة، يسير محمود عرفان (25 عامًا) يحمل فوق كتفيه كيسًا مليئًا بقطع البلاستيك المهترئة. يقول بصوتٍ متعب ولكنه متمسك بالأمل: «نحن نجمع البلاستيك من البيوت المدمرة، ونأخذه لنصنع منه السولار. نعمل المستحيل في كل شيء ونمشّي حالنا». يصف محمود كيف يضع البلاستيك في قلب فرن بدائي بين الأنقاض، وكيف يشعر بالفخر أنه رغم الجوع والمجاعة، ينتج وقودًا «أفضل من السولار المستورد من مصر وإسرائيل» على حد قوله.

يضيف محمود لـ«عُمان» أن الدافع الأهم هو الاستقلال عن الخارج: «أسسنا هذا العمل كي لا نحتاج لدولة من الخارج تفرض علينا شروطها. نحن نوفر فرص عمل للناس، نُحيي الحركة التجارية، ونُبقي عجلة الحياة تدور». ورغم أن العملات المعدنية والورقية فقدت قيمتها مع الحصار الطويل، فإن تجارة السولار المصنع ما زالت تضمن تبادلًا نقديًّا في الأسواق.

يؤكد محمود أن التجربة ليست مجرد عمل اقتصادي، بل موقف سياسي أيضًا: «لن نهجر أرضنا، سنموت في أرضنا. بقينا في الشمال منذ الأيام الأولى للحرب، أكلنا طعام الحمير والكلاب والقطط، لكن لم ننزح. صامدون حتى النهاية». ويرى أن كل لتر سولار يُنتَج من البلاستيك هو بمثابة انتصار صغير على الحصار، وإعلان صمود أمام القصف.

ويختم شهادته بلهجة ممزوجة بالمرارة والفخر: «نحن نصنع الحياة من النفايات، ونقاوم بالمحركات الصغيرة كما قاومنا بالقلب الكبير».

صناعة البقاء وسط الحصار

منذ أن أغلق الاحتلال الإسرائيلي المعابر بشكل كامل في الثاني من مارس 2025، بات الحصول على الوقود أمرًا شبه مستحيل. توقفت محطات الكهرباء عن العمل، وتعطلت المركبات، وتكدست سيارات الإسعاف أمام المستشفيات. لكن من قلب هذه الأزمة خرجت مبادرة فردية وجماعية في آن: صناعة السولار من البلاستيك.

العملية بدائية، لكنها مكتملة الأركان: يجمع العمال البلاستيك والكاوتشوك من تحت الركام، يقطعونه إلى أجزاء صغيرة، ثم يحرقونه داخل أفران حديدية بدائية. من تلك الأفران تتصاعد أبخرة سامة، يتم تكثيفها عبر أنابيب حديدية إلى أوعية معدنية تُنتج سائلًا زيتيًّا يُستخدم كوقود. قد لا يحمل المواصفات الرسمية، لكنه يعمل، ويمنح المركبات والمولدات القدرة على الاستمرار.

هذا المشهد الجديد لم يكن اختيارًا، بل إجبارًا فرضته ظروف الحصار. كثير من العائلات تعيش اليوم على ما يقدمه هؤلاء الشباب. المستشفيات وجدت في السولار المصنع وسيلة مؤقتة لتشغيل مولداتها، والمزارع أُعيد إحياؤها ببعض قطرات وقود محلي. إنه اقتصاد النجاة، لا أكثر.

لكن الثمن غالٍ. فإلى جانب الخوف من القصف وتهدم الأبنية فوق رؤوسهم أثناء جمع البلاستيك، هناك أيضًا خطر الأمراض الصدرية والحروق والانفجارات. ورغم ذلك، يقول أحد العمال: «الغزي يواجه الموت في كل اتجاه. إذا خرج بحثًا عن طحين، قد يُقتل. وإذا ركض خلف المساعدات، قد يسقط صريعًا. فلماذا لا نجازف هنا؟ على الأقل نصنع وقودًا يمد الحياة».

«الموت يتربص بنا»

سامر خليل، ثلاثيني يعمل منذ أشهر في هذا المجال، يصف يومه قائلًا: «هذا العمل يأخذ من صحتنا، لكنه يمدنا بالخبز. نعمل بين السموم والحريق، نُغطي وجوهنا بكمامات بسيطة، ونرتدي ملابس ثقيلة كي نحمي أنفسنا من الأبخرة، لكن النتيجة واحدة: أجسادنا مشبعة بالدخان».

يشرح سامر لـ«عُمان» أن الأمر يتطلب تنظيفًا طويلًا بعد ساعات العمل: «أجلس ساعتين أفرك جسدي بالماء كي أزيل رائحة البلاستيك. لكنها لا تزول. حتى يداي تظل مشققة، وسعالي لا يتوقف». ورغم ذلك، لا يرى سامر مخرجًا آخر: «من لا يعمل هنا، لا يجد قوت يومه. الموت يحيط بنا في كل زاوية».

يسترجع سامر لحظات الرعب حين يبحث عن البلاستيك في الأبنية المدمرة: «أحيانًا نهرب من طائرات الاستطلاع، وأحيانًا نخاف أن يسقط الجدار فوق رؤوسنا. لكننا نعود كل مرة، لأن عائلاتنا تنتظر ثمن لتر السولار الذي نبيعه».

سامر يرى في هذا العمل تضحية مزدوجة: «نحن نُضحّي بصحتنا، لكننا نُبقي الحياة تسير في غزة. سيارات الإسعاف تتحرك، المزارعون يسقون الأرض، وأصحاب التوك توك وعربات النقل ينقلون النازحين. نحن نصنع الحياة رغم أننا نموت ببطء».

«أنقذنا الأرواح»

على ميناء غزة أقيمت أفران السولار الصناعي شمال غزة، يقف يوسف حماد، المسؤول عن إدارة واحدة من هذه الأفران. يقول بحزم: «أعدنا تكرير البلاستيك كي ننتج سولار، ونشغل المستشفيات والسيارات، كي نبث بعض الحياة في القطاع». ويؤكد أن سيارات الإسعاف التي كادت أن تتوقف عن العمل عادت تتحرك بفضل السولار المصنع.

يوسف خلال حديثه لـ«عُمان» يصف العملية: «نفرز المواد البلاستيكية، نقطعها، نضعها في فرن حديدي أنشأناه من بقايا حديد البناء. نحرقها ثم نجمع الأبخرة ونكثفها حتى نحصل على السولار». ويشير إلى أن الفكرة وُلدت بعد أن أغلق الاحتلال المعابر، ومنع دخول الوقود بشكل كامل.

لكن وراء هذا الإنجاز تكمن مخاطر جمّة: «نمشي مسافات طويلة بين الركام لجمع البلاستيك. نخاف من الطائرات ومن انهيار الجدران. كل رحلة بحث عن البلاستيك قد تكون الأخيرة». ورغم ذلك، يرى يوسف أن ما يقومون به إنقاذ جماعي: «بفضل هذا السولار، أُنقذت أرواح كثيرة. أطفال وجرحى وصلوا إلى المستشفى لأن سيارات الإسعاف لم تتوقف».

يوسف لا يعتبر ما يفعلونه بديلًا عن الوقود الرسمي، لكنه يعتبره «جسر حياة» في لحظة قاسية. يقول مبتسمًا: «قد نكون وسط الدخان، لكننا نُضيء شمعة في هذا الظلام».

بين الدخان والرزق

على طرف سوق الزاوية بمدينة غزة، يصف سائق التوك توك محمد غنيم تجربته مع السولار المصنع: «لولا هذا السولار، كنت جلست في البيت. لا عمل ولا رزق». يشتري محمد لترين أو ثلاثة يوميًّا ليتمكن من العمل ونقل الركاب بين الأحياء. ورغم أنه يعرف أن هذا الوقود غير نقي، لكنه يقول: «البديل هو التوقف عن العمل والجوع».

محمد يلاحظ اختلافًا في رائحة الوقود: «رائحته قوية وتخنق، لكن المحرك يسير. أحيانًا يتعطل التوك توك بسبب الرواسب، فأصرف وقتًا ومالًا في التصليح. لكن في النهاية، العمل يستمر». ويشير خلال حديثه لـ«عُمان» إلى أن الركاب يعتمدون عليه، خصوصًا في ظل توقف سيارات الأجرة.

يختم محمد شهادته قائلاً: «أحيانًا أعود للبيت مريضًا من الرائحة والدخان، لكنني أعود ومعي ما أشتري به خبزًا لأطفالي. نحن عالقون بين الدخان والرزق».

أمراض مهنية جديدة في غزة

الدكتور علي المناصرة، اختصاصي أمراض صدرية في مستشفى الشفاء بغزة، يحذر من المخاطر الصحية لهذه الصناعة البدائية. يقول: «الأبخرة الناتجة عن حرق البلاستيك والكاوتشوك تحمل مركبات سامة خطيرة، منها الديوكسينات والفورمالدهيد، وهي مواد تهيج الجهاز التنفسي وتسبب أمراضًا مزمنة».

ويضيف لـ«عُمان»: «الأعراض تبدأ بسيطة: سعال، عطاس، حرقة في الحلق. لكنها مع الوقت تتحول إلى ضيق تنفس متكرر والتهابات رئوية حادة». يشدد الدكتور علي على أن الأطفال والمسنين أكثر عرضة، وأن تزايد الحالات في المستشفيات يعكس الخطر الكبير. «نحن نرى مرضى لم يكونوا يعانون سابقًا من الربو، أصبحوا اليوم بحاجة إلى أجهزة استنشاق دائم».

ويؤكد أن الوقاية شبه مستحيلة في الظروف الحالية: «الكمامات العادية لا تحمي من الجزيئات الدقيقة (PM2.5) التي تصل إلى أعماق الرئة. الحل الوحيد هو وقف التعرض أو تقليله بشكل جاد، وهذا غير ممكن في ظل اعتماد الناس على هذه الصناعة». ويرى أن هذه الأزمة قد تُخلّف جيلًا كاملًا يعاني من أمراض صدرية مهنية جديدة لم تكن معروفة في غزة من قبل.

ويختم بتحذير: «نحن أمام كارثة صحية بطيئة. كما أن الحرب قتلت الآلاف بالقصف، فإن هذه الأفران ستقتل آلافًا آخرين ببطء عبر أمراض الرئة والسرطان».

بين الضرورة والموت

بين محمود الذي يجمع البلاستيك من تحت الركام، وسامر الذي يغسل جسده من الدخان دون جدوى، ويوسف الذي يقود ورشة أفران بدائية، ومحمد الذي يقود توك توكه وسط رائحة الوقود، وبين تحذيرات الدكتور علي، تتجسد صورة غزة المحاصرة. وقود بدائي يُبقي الحياة تدور، لكنه يُغذي الموت البطيء.

إنها معادلة صعبة: بين الرغبة في البقاء وبين ثمن باهظ للصحة والبيئة. الغزيون لا يملكون رفاهية الاختيار، لذلك يواصلون إشعال أفرانهم فوق أنقاض مدينتهم، ليصنعوا وقودًا من الرماد، وليثبتوا أن الحياة يمكن أن تولد حتى من رائحة البلاستيك المحترق.