في زمن الحرب: نساء غزة بين صدمة البقاء وثِقَل الغياب
بعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ما تزال النساء يواجهن واقعًا إنسانيًا بالغ القسوة؛ حيث تتقاطع الصدمات النفسية مع الفقد والدمار والنزوح المتكرر في ظل غياب مقومات الأمان الأساسية. ورغم اتساع دائرة المعاناة بقي ملف الصحة النفسية للنساء أحد أكثر الملفات إهمالًا من قبل المجتمع الدولي رغم كونه من أكثر الجوانب تأثرًا باستمرار الحرب على جميع سكان القطاع دون استثناء.
ضحى... جرح لا يندمل
في منزل متواضع وسط قطاع غزة تعيش ضحى فوزان (19 عامًا) مأساة لا تغيب عن ليلها ولا نهارها. الناجية الوحيدة من عائلتها بعد أن فقدت والديها وأشقاءها خلال استهداف إسرائيلي لمنزل عمتها في العام الأول من الحرب. ومنذ ذلك اليوم أصبحت الصدمة جزءًا من حياتها اليومية.
تقول زوجة عمها: "ضحى هي الناجية الوحيدة من العائلة بعد أن فقدت كافة أفراد أسرتها في لحظة واحدة. أمضت شهرين في المستشفى تكابد ألم الفقد وإصاباتها الخطيرة. وبعد خروجها لم تستوعب أنها عادت بلا أهل. الآن تعيش معنا، لكنها ما زالت في حاجة إلى رعاية صحية ونفسية".
أما ضحى نفسها فتتحدث بين البكاء والإنهاك: "أنا مش خايفة على حالي. كنت أحتضن إخواني الصغار عند كل قصف. الصاروخ أخذهم وتركَني. نفسي أشوفهم وأضمهم، نفسي أضم أمي وأبي لو للحظة. الحرب أخذت كل شيء. ليش أجت؟ أنا كل يوم بموت ألف مرة من وجع الفراق".
صرخة ضحى ليست سوى انعكاس لمعاناة آلاف الأطفال والنساء اللواتي فقدن ذويهن دون أن تتاح لهن حتى فرصة الوداع.
نساء يقاومن الخوف... ويعشن داخل الدمار
تتعرض النساء في غزة لضغوط نفسية متراكمة تتعلق بفقدان الأمان، وفقد الأحبة، وتكرار النزوح، وتدمير البيوت وغياب أدنى مقومات الاستقرار. وعلى الرغم من مرور عامين على الحرب فما تزال الصحة النفسية في ذيل الأولويات بينما تتصاعد
الأعراض النفسية لدى النساء بوتيرة مفزعة.
وئام... بين اليقظة الدائمة والخوف الذي لا ينام
تحكي وئام زايد (36 عامًا) التي تعيش داخل مخيم مخصص للأيتام وسط القطاع: "ما بنام، كل الليل براقب أولادي وهم نايمين بالخيمة. فقدت زوجي في أول يوم للحرب، تحملت مسؤولية أكبر من طاقتي، أصبحت الأم والأب، أولادي كل مرة بيسألوني:
'ماما رح نموت؟ ما بعرف شو أجاوب".
وتتابع وئام: "القلق أكل حياتنا... حتى لو سكت القصف، الخوف ما بيسكت، من يوم ما استشهد زوجي بسمع صوته كل ليلة. بخاف أغمض عيوني. الناس بتقول الحرب خلصت ... بس إحنا من جوّا مدمّرين ".
فاطمة... نزوح لا يتوقف
أما فاطمة زياد (42 عامًا) فاختصرت معاناتها بجملة موجعة بعد أن اضطرت للنزوح أكثر من 13 مرة:
"كل ما نرتّب خيمتنا ونحاول نعيش، بقولولنا انقلوا. صرنا نعيش من صدمة لصدمة. حتى صوت الريح بخوّفني، فقدت عملي والآن أنا عاطلة عن العمل، تكاليف النزوح القسري أرهقتني، المصاريف كثيرة والجوع وغلاء المعيشة دمرونا".
صابرين... أمومة على حافة الخطر
وفي مخيم آخر تقف صابرين (24 عامًا)، الحامل في شهرها الثامن بين الخوف والأمل: "المستشفى بعيد، والطريق خطر. بخاف أولد وأنا بالطريق. ما في أكل كفاية، وما في مياه نظيفة. الدكاترة قالولي لازم أرتاح... كيف أرتاح وأنا عايشة بين الخيام"؟
وتضيف بقلق أكبر: "كل يوم بنسأل: بنتي رح تعيش ولا لا؟ هل حتكون بخير والا حتعاني من مشاكل صحية بسبب آثار الصواريخ والروائح المنبعثة منها".
ووفق إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية؛ هناك أكثر من 60 ألف امرأة حامل في القطاع، وأكثر من 180 ولادة يوميًا وسط ظروف غير إنسانية فيما ارتفعت الولادات المبكرة بنسبة 30% و الإجهاض بنسبة 300% نتيجة الصدمة والخوف وسوء
التغذية.
د. سماح جبر: المعاناة النفسية للنساء أكبر
في لقاء خاص مع جريدة عُمان، تحدثت د. سماح جبر استشارية الطب النفسي ومديرة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة سابقًا عن صورة قاتمة للواقع النفسي للنساء في غزة مؤكدة أن حجم الصدمة غير مسبوق.
قالت د. جبر: "مشهد الصحة النفسية لدى نساء قطاع غزة يتجاوز قدرات أي نظام صحي في العالم. الحرب ما تركت زاوية من حياة الناس إلا ودمّرتها، والأذى النفسي حالة مزمنة ومتعمدة ومقصودة سياسيا، النساء هنّ الأكثر تضررًا، لأنهن بيحمِلوا همّ أنفسهن والشعور بالعجز عن حماية أطفالهم أمام آليات القتل، وبيتعاملوا مع الخسارات المتتالية بدون أي مساندات فعالة. كمان في خصوصية للمرأة في مجتمعنا حيث اعتاد النساء على الستر، مرة واحدة ومع انهيار جدران المنازل صار فيه حالة انكشاف تخل بالعادات وبالمنظومة القيمية للنساء.. طوابير الحمامات والازدحام في الخيم وطوابير الأكل كلها بتخرج المرأة عن دورها المألوف".
وعن أبرز المشكلات النفسية توضح: "الاستشارات اللي بتوصلنا من النساء يوميًا تعبر عن أشكال عديدة من المعاناة من أهمها، اضطراب الكرب الحاد والصدمة المستمرة نتيجة مشاهد القصف، فقدان الأحبة، انهيار البيوت، وعدم وجود أي إحساس
بالأمان، الحزن والحداد على فقدان الأحبة، القلق العام ونوبات الهلع وعدم المقطع على النوم خصوصًا عند سماع الطائرات أو الانفجارات أو حتى أي صوت عالي ، الاكتئاب الشديد المرتبط بالإحباط وفقدان السيطرة، وشعور النساء بأنهن عاجزات عن حماية أولادهن.
اضطرابات النوم: كوابيس متكررة، أرق، نوم متقطع، وخوف من حلول الليل ، اضطرابات جسديّة مرتبطة بالضغط النفسي: آلام مزمنة، تساقط شعر، مشاكل هضمية، واضطرابات في الدورة الشهرية ، حزن معقّد نتيجة الفقد المتكرر... أمهات فقدن
أكثر من ابن أو قريب، أو امرأة فقدت زوجها وأبوها وأخوها في فترة قصيرة، نساء حزينات على بتر أطراف أبنائهند، الإرهاق النفسي الشديد من ضيق العيش (Burnout) لأن المرأة في غزّة اليوم صارت أمّ، ومسعفة، وقيّمة على العائلة، ومُؤمِّنة
للطعام والماء... وكل هذا تحت القصف".
وتحذر من تحول هذه الأعراض إلى أمراض مزمنة مستقبلًا قائلة: "هذه المعاناة التي تتخذ هذه الأشكال اليوم قد تتحول إلى أمراض نفسيه مستقبلا فنحن نعلم جيدا أن العنف السياسي والخسارة تزيد من معدلات انتشار الأمراض النفسية".
أما عن الخدمات المتاحة فتقول: "نحن بنعرف إن تقديم خدمة نفسيّة في بيئة حرب مستمرة مش سهل. ومع ذلك في خدمات ضرورية وممكنة مثل الدعم النفسي الإسعافي الأولي (Psychological First Aid) في مراكز الإيواء. جلسات مجموعات للنساء
تعطيهن مساحة آمنة لمشاركة الألم وتبادل القوة بحيث تخرج المرأة من عزلتها النفسية، متابعة للنساء اللي فقدن أطفالهن أو أزواجهن لأنّ هذول هنّ أكثر الفئات عرضة للانهيار".
وتضيف حول دور المؤسسات: "في محاولات، نعم. في مبادرات، صحيح. أما عن دور وزارة الصحة الفلسطينية فأوضحت لما كنت في وزارة الصحة قمنا بتوسيع خدمات الصحّة النفسيّة في غزة رغم كل القيود، درّبنا كوادر محلية على التدخل في الأزمات.
دعمنا فرق الصحة النفسية اللي كانت تعمل في المستشفيات والمراكز والملاجئ.
حاولنا أن نضمن إن المرأة تحصل على خدمة محترمة تراعي خصوصيتها وكرامتها. لكن لازم أحكي الحقيقة: قطاع غزة كان أصلًا مرهق قبل الحرب، ومع الحرب الاحتياجات صارت أكبر من أي مؤسسة مهما كانت جهودها".
وبخصوص نسب الاضطرابات النفسية تشير إلى تقديرات أولية:
"الظرف الحالي ما بيسمح بمسوحات وبحوث كاملة، بس من المعطيات اللي عندنا ومن التجارب الإنسانية السابقة، إحنا بنقدّر إنه:
أكثر من 80% من النساء في غزة عندهن أعراض صدمة نفسيّة مستمرة.
حوالي 60-70% بيعانوا من كوابيس، أرق واضطرابات نوم.
ما لا يقل عن 30-40% عندهن علامات اكتئاب متوسط إلى شديد وبحاجة إلى تدخل مختص.
هذه تقديرات مبنية على تقارير الفرق الميدانية وأبحاث ما بعد الحروب".
وفي ختام اللقاء توجه د. جبر رسالة للنساء: "اعطي حالِك مساحة تتفحصي مشاعرك وتتنفّسي. وابحثي عن لحظات أمان بالرغم من المأساة مرات هذا الاشي بيكون من علاقه طيبه مع احد الاقارب او الاصدقاء مرات بيكون بكبايه شاي مع العائله مرات بيكون بملاعبه طفل او بلحظه سكون مع نفسها.
الألم لما بينحكى عنه بيفقد جزء من سطوته علينا. احكي مع حدا أو اكتبي عن مشاعر الصعبه والتجارب الاليمه اللي عشتيها. كمان مهم انه تتفحص كل امراه ما الذي ساعدها في اكثر الاوقات صعوبه... واخر كلمات بتحبي احكيها كمختصه ايضا ان هنالك حد لقديش الانسان بيقدر ينهض وحده ويساعد نفسه... مش بالضروره انهم يروحوا عن طبيب نفسي ممكن طلب المساعده من مرشد او من طبيب العائله اذا لازم الامر".
صدمة جماعية تتجاوز حدود الطب
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ التجارب التي يمر بها سكان غزة تتجاوز التعريف التقليدي لاضطراب ما بعد الصدمة، إذ لا يوجد "ما بعد”؛ فالخطر مستمر، والقصف والنزوح مستمران.
وتؤكد تقارير برنامج غزة للصحة النفسية (2024) على ارتفاع مستويات: الاكتئاب، القلق، العنف ، الكوابيس، الأعراض النفس-جسدية، العجز واليأس، فقدان الشعور بالأمان بين الفقد، والنازحين، والنساء اللواتي يحملن الأعباء النفسية والاجتماعية وحدهن، تبدو غزة اليوم منطقة تعيش صدمة جماعية مفتوحة. ومع ذلك تبقى النساء في خط الدفاع الأول عن بقاء العائلة رغم أنهن الأكثر هشاشة وتعرضًا للأذى.
ورغم الجهود المحدودة ما تزال الحاجة ماسّة إلى تدخلات نفسية عاجلة ومنظمة توازي حجم الكارثة الإنسانية التي تعيشها نساء القطاع منذ أكثر من عامين.
