العرب والعالم

في حضن الجوع والخوف.. رُضّع غزة يصرخون بلا حليب

15 يوليو 2025
15 يوليو 2025

داخل قسم الحضانة في مستشفى شهداء الأقصى، كانت ملامح السيدة «نجاة الخالدي» ــ وهي في عقدها الخامس ــ تجمع بين الانكسار والرجاء. تتابع حركة حفيدها الملفوف بأنابيب الأكسجين، ترقبه وكأن نبض قلبها معلق برئتيه الصغيرتين. قبل أسبوع فقط، لم تكن تتوقع أن تُضطر لحمل ابنتها في منتصف الليل بين ذراعيها إلى الإسعاف، تسبقها صرخات المخاض المبكر والخوف الممزوج برائحة الموت في سماء دير البلح.

صرخة جدة

نجاة تقول: «كانت الولادة معاناة، والطفل بعد الولادة معاناة أكبر». تنهدت ثم أردفت: «أنجبَت ابنتي في المستشفى الميداني الأمريكي، لكن لم يكن فيه أكسجين. اضطررنا إلى نقله فورًا إلى هنا. الولادة كانت مبكرة، وكان الطفل يعاني من صعوبات تنفس حادة». توقف صوتها لبرهة، قبل أن تضيف بحرقة: «نقلناه على أمل أن يجد فرصة حياة... لكنه الآن في سباق مع الموت».

المأساة لم تبدأ عند لحظة الولادة، كما تؤكد نجاة. ابنتها، التي تجاوزت منتصف شهرها السابع بقليل، دخلت في آلام الولادة بعد ليلة قضتها وسط أصوات الانفجارات التي هزّت حارات المدينة. «خافت حتى خارت قواها»، تشرح الأم: «رأت الجيران مقطعين، والدم في الشارع، ولا أحد قادر على الإنقاذ. سوء حالتها النفسية تسبب في حدوث المخاض مبكرًا».

تربط نجاة بين حالتها وحالات عشرات الحوامل في المستشفى ذاته. «كل الموجودين في قسم التوليد هنا، جاءوا من أجل الولادة مبكرًا. كله من الجوع ومن القهر».

تقول وهي تشير إلى غرفة مجاورة. تتابع: «ابنتي كانت تعيش على العدس والمعكرونة، لا فيتامينات، لا حديد، لا كالسيوم. حتى أدوية التثبيت لم تكن موجود». بصوتٍ مختنق ختمت شهادتها: «حفيدنا مش بس ناقصه حليب، ناقصه حقه بالحياة».

رحمٌ مذبوح

ليست قصة نجاة وابنتها استثناء، بل أصبحت عنوانًا عريضًا لمأساة نساء غزة تحت نير الحصار. منذ الثاني من مارس 2025، أغلق الاحتلال الإسرائيلي جميع معابر القطاع، مانعًا دخول الغذاء والدواء، وعلى رأسها الأطعمة الغنية بالحديد والبروتين، الضرورية لصحة النساء الحوامل والأطفال.

مع مرور الشهور واشتداد الحصار، بدأت المستشفيات ترصد ارتفاعًا حادًا في نسب الولادات المبكرة، والإجهاضات الناتجة عن سوء التغذية والخوف. الأطباء يتحدثون عن أجساد نساء لم تعد تقوى على حماية أجنتها. ومع استمرار القصف والجوع، باتت بطون الأمهات حقولاً للموت، قبل أن ترى العيون النور.

توزيع المساعدات في غزة لم يعد يسير في مسار آمن. فحتى حين تصل الشاحنات عبر مؤسسة «غزة الإنسانية» الأمريكية-الإسرائيلية، فإنها لا تنجو من نيران الاحتلال. منذ 27 مايو، قتل جيش الاحتلال نحو 800 مدني أثناء انتظارهم للطعام على أطراف المناطق المنكوبة، في مشهدٍ يُختصر بعبارة «رصاصة مقابل رغيف».

النساء في غزة، وفق شهادات قابلات وممرضات في المستشفيات الحكومية، لم يعدن قادرات على استكمال الحمل بتوازن صحي. بعضهن يلدن في الشهر السادس والسابع، وبعضهن يفقدن الجنين قبل أن يكتمل نموه. والمشترك بين الحالات، كما تؤكد ممرضة في قسم النساء بمستشفى شهداء الأقصى، هو «جوعٌ يفتك، وخوفٌ يَخرق الرحم».

أرقام تنزف

بيانات مكتب الأمم المتحدة للسكان، التي نُشرت مؤخرًا، كانت أشبه بصفعة للضمير العالمي. التقرير يشير إلى أن نحو 50 ألف امرأة حامل ومرضعة في قطاع غزة لم يتناولن الطعام الكافي منذ أيام، وأن الرضع المولودين في هذه الظروف يُهدَّدون ليس فقط بالولادة المبكرة، بل بأمراض مزمنة ونقص في النمو يستمر مدى الحياة خاصة في ظل عدم قدرة على النساء الجائعات على الإرضاع الطبيعي، وشُح حليب الأطفال العلاجي والدوائي.

أما منظمة الصحة العالمية، فعلى لسان مديرها تيدروس أدهانوم، أكدت أن شحّ الغذاء والوقود والأدوية يُعدّ من أبرز الأسباب التي تفتك بسكان غزة.

وخصّ بالذكر الأطفال الرضّع الذين لا يملكون مناعة تقاوم التدهور الحاصل. التحذير لم يكن مجازيًا: «الأرواح تزهق يوميًا بسبب الجوع وانعدام الحليب والمستلزمات الطبية»، قالها تيدروس، قبل عدة أيام، دون أن يتحرك أحد قيد أنملة.

حليب مفقود

في مستشفى الرنتيسي بمدينة غزة، كما في أغلب أقسام الحضانات بغزة، لا يتردد الأطباء في دقّ ناقوس الخطر. حليب الأطفال العلاجي والعادي، بأنواعه المختلفة، قد نفد تقريبًا. أطفال خُدَّج يولدون دون وزن، يُتركون بلا غذاء مناسب، والأمهات لا يملكن حيلة سوى البكاء خلف زجاج الحضانات.

«عبد الرحمن»، طفل وُلد في بداية الشهر السابع، يرقد منذ عشرة أيام في قسم الحضانة بمستشفى النصر. تقول والدته، السيدة «ميساء الحداد»: «ابني وُلد ناقص وزن. كنت لا آكل شيئًا طوال فترة الحمل سوى العدس وبعض المعلبات. لم أستطع الرضاعة بسبب سوء حالتي الصحية، ولم نجد حليب أطفال في أي مكان».

ميساء تتحدث عن رحلات بحثٍ مضنية بين الصيدليات والأسواق. «علبة الحليب إن وجدت بتكون بـ70 أو 80 دولار. من أين يمكنني الحصول على ثمنها؟ وأنا زوجي استشهد، ولا يوجد أي دخل؟».

تضيف: «كل يوم أرى عبد الرحمن يضعف، أكلمه وهو في الحضانة كأنه يسمعني، وأقول له اصبر. لكن حتى متى؟».

تشير ميساء إلى أن الحضانة لا توفر الحليب سوى مرة واحدة في اليوم، ويتم تقاسم العلبة الواحدة بين خمسة أطفال. «والله حتى حليب البودر للبالغين غير موجود، هذه المجاعة ستقتلنا جميعًا، نحن ومعنا أطفالنا».

أم تحت النار

إيمان عويضة امرأة ثلاثينية من مدينة غزة، وضعت توأمًا في الشهر الثامن. تقول إن الولادة كانت وسط الغارات، في وقت لم يكن فيه سوى قابلة عجوز تولدها في بيت مهدم. «ولدت بنتين، واحدة ماتت بعد ساعة من الولادة. لم نجد أكسجين أو حتى دفاية. البنت الثانية في الحضانة الآن».

تصف إيمان رحلتها من بيتها إلى المستشفى بأنها «حرب ثانية». تحاول التماسك وهي تروي: «حملت البنت في كوفية، ومشيت من الشيخ رضوان إلى المستشفى على قدماي، أربع ساعات وأنا أمشي، وفي يدي رضيعة على وشك الموت».

حين وصلت، وجدت المكان مزدحمًا بالأمهات والبكاء والأنين، تحكي المشهد خلال حديثها: «الممرضات كن تبكين، لا يوجد حليب، أو أكسجين، وابنتي كانت ترتعش، وتختنق أنفاسها شيئًا فشيئًا». تصمت قليلًا ثم تضيف: «أنا لم أذق طعم الأمومة الحلو، أنا عشت الجحيم».

صرخة طبيب

في خضم هذا الجحيم، يتحدث الدكتور خليل الدقران، المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى، بكلمات تتجاوز الطب وتقترب من النداء الإنساني. يقول: «لدينا في غزة أكثر من 60 ألف طفل رضيع يعانون من نقص حليب الأطفال. الحليب لم يدخل منذ شهور بسبب إغلاق الاحتلال للمعابر. الوضع كارثي».

يؤكد الدقران، في تصريح لـ«عُمان»، أن الأطفال الخُدَّج هم الأكثر تضررًا، إذ يعتمدون اعتمادًا كليًا على حليب الأطفال المخصص لحالاتهم، والذي بات مفقودًا بالكامل. «الحليب في الأسواق معدوم، وإن وجد فبسعر لا يمكن لأي أسرة دفعه. نحن أمام موت بطيء للأطفال».

يوضح الدقران أن هذا النقص لا يؤدي فقط إلى سوء تغذية، بل إلى انهيار المناعة، وانتشار الأمراض والأوبئة: «الموت ليس فقط من الجوع، بل من ضعف الجسد، ومن عدوى بسيطة لا يملك الرضيع مناعة تردّها».

ويتابع: «المجتمع الدولي يتفرج، والمنظمات عاجزة. نحن نناشد كل من لديه ضمير أن يتحرك. لا نريد شيئًا سوى أن ندخل الحليب إلى أطفالنا. هذا أبسط حقوقهم».

ثم يختم: «الاحتلال يتعمد قتل الأطفال بالتجويع. إنها ليست أزمة إنسانية فقط، إنها جريمة إبادة. فحين يُمنع الحليب عن رضيع، يُحكم عليه بالموت».

حياة مشلولة

يقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي الدكتور إسماعيل الثوابتة: الحصار المستمر على غزة لا يقتل فقط بالرصاص والقنابل، بل يقتل بالجوع، ويغتال الحياة من رحمها. فالحوامل تلدن في خوف، والأطفال يرضعون السراب، وأقسام الحضانة تحولت إلى مقابر مؤقتة. وبينما العالم يتفاوض على هدنة، تموت الحياة على جرعات في كل مستشفى وكل بيت.

ويُشدّد الثوابتة على أن الخطر الأكبر في الأيام المقبلة يهدد فئة الأطفال، بسبب ضعف أجسادهم وصعوبة تحمّلهم لآثار التجويع والحرمان من الغذاء والدواء. ويعتبر أن الاستمرار في إغلاق المعابر وحرمان سكان القطاع من الاحتياجات الأساسية لا يندرج فقط في إطار انتهاك الحقوق، بل يصعد إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية بحق المدنيين، وعلى رأسهم الأطفال.

ويشير إلى أن أطفال غزة باتوا يواجهون الموت ببطء شديد، بلا وسائل حماية أو رعاية، في ظل شحّ الغذاء وفقدان الحليب وغياب الرعاية الصحية. ويتهم سلطات الاحتلال بتعمّد استخدام التجويع كسلاح خفي وهادئ لقتل الطفولة في غزة، قائلاً إن ما يحدث هو «إبادة ناعمة» تُمارس ضد الأضعف بين السكان، دون أن يرمش جفن للعالم.