غزة.. حرٌّ قاتل يفاقم معاناة النازحين تحت الخيام
طفل صغير يلوذ بجدار خيمته، يلهث بحثًا عن نسمة هواء لا تأتي، ويمسح بيده العرق المتصبب من جبينه. بينما تبحث جدته عن نسمة أبرد تنعش جسده الواهن، تتعالى صرخاته المكتومة لتكشف معاناة طفولة أنهكها الحر، وزادتها الحرب ثقلًا فوق ثقل.
كانت أمنية عبد الرزاق، الستينية النازحة من بيت لاهيا، تجلس في ركن ضيق من خيمتها المتواضعة التي ضاقت بأجساد ستة عشر شخصًا. الهواء مشبع برطوبة خانقة، والعرق يتصبب من جبينها كأنها في فرن مغلق: «الحر ذبحنا» تقول وهي تتلمس صدرها المثقل بنوبات الربو التي لا تفارقها. تحتاج إلى جهاز أكسجين، لكن الكهرباء غائبة، والوقود شحيح. كل نفس بالنسبة لها معركة، كل شهيق جهاد، وكل زفير محاولة هروب من غبار الحرب ولهيب الصيف.
اختناق في الخيمة
ليست وحدها في هذا البلاء. أطفالها وأحفادها يتقلبون على أقمشة بالية تلتصق بأجسادهم من شدة التعرق. البثور تخرج على جلودهم الصغيرة، والحكة لا تفارقهم، بينما يتناوب البعوض والفئران والعقارب على مضايقتهم طوال الليل. ومع انعدام وسائل التبريد، لم يبقَ أمامها سوى بعض قطرات الماء تمسح بها وجوه الأطفال، علّها تطفئ شيئًا من الجحيم.
تتحدث أمنية، بوجه شاحب وملامح متعبة: «لقد صبرنا كثيرًا، لكن ما يجري لا يطاق. الخيمة لا ترد حرًا ولا بردًا، ونحن نعيش فيها كأننا في قدر يغلي».
كل مساء تتحول الخيمة إلى سجن خانق، فلا نوم ولا راحة، ولا بارقة أمل في غدٍ أفضل، ومع تلاصق الخيام في مساحة ضيقة، يزداد الحر لهيبًا، ويصبح التنفس مهمة مستحيلة.
(أمنية)، التي عاشت حروبًا متتالية منذ شبابها، ترى في هذه المرة معاناة مضاعفة: نار القصف من جهة، ولهيب أغسطس من جهة أخرى. تصرخ بصوت متقطع: «على العالم أن ينظر إلينا بعين الرحمة. كفى حربًا، وكفى لهبًا، فنحن لم نعد نحتمل».
صيف فوق الجراح
ليست موجة الحر مجرد طقس عابر في قطاع غزة، بل هي كارثة إضافية تلاحق النازحين الذين يعيشون منذ أشهر في خيام لا تصلح للعيش الآدمي. في كل شهر أغسطس، ترتفع درجات الحرارة لتصل ذروتها، لتكشف عن فصل جديد من المعاناة المزدوجة: حصار وحرب من الخارج، وحرارة ولهيب من الداخل.
الخيام رخيصة، أقمشتها رقيقة تمتص أشعة الشمس وتحتجزها، تحولت إلى أفران جماعية، يتكدس بداخلها آلاف الأطفال والنساء والمرضى. في ظل غياب الكهرباء، تنعدم أجهزة التبريد، ويُحرم الناس حتى من أبسط وسيلة لإنعاش أجسادهم بالمياه الباردة. وما يزيد الأمر قسوة، أنّ الحصول على المياه النظيفة بات تحديًا يوميًا، لا سيما مع تلوث الآبار وتدمير الاحتلال البنية التحتية للمياه.
تتحول ساعات النهار إلى امتحان قاسٍ على الصبر. يفر النازحون من الخيام بحثًا عن ظل نادر، ليعودوا ليلًا فيجدوا البعوض قد سبقهم، جاعلًا النوم مهمة مستحيلة. والحرارة الممزوجة بالرطوبة تُغرق الأجساد بالعرق، فيزداد انتشار الأمراض الجلدية، وتكثر حالات الإغماء بين الأطفال وكبار السن.
وسط هذه الظروف، يصبح الحديث عن كرامة إنسانية أشبه بالتمني. النازحون يعيشون بين نارين: نار الحرب التي لا تهدأ، ونار الصيف التي لا ترحم. وبينهما، يواصلون رحلة النجاة اليومية في ظروف شبه مستحيلة.
حرٌ لا يُحتمل
أبو خالد السمري، نازح خمسيني يقترب من عقده السادس، يتحدث بعينين غارقتين في القلق: «نترقب دائمًا أخبار وقف إطلاق النار، علّنا نجد فسحة راحة، لكن هذه المرة جاءنا شيء أصعب.. موجة حر لا نقدر على احتمالها».
يصف يومياته بين البعوض والذباب والقصف والحر، وكأن الحياة في خيمة النزوح امتحان مستمر. يضيف : «نهرب من الخيام نهارًا فلا نعود إلا ليلًا، لكن البعوض لا يتركنا، والحرارة تهاجمنا ليلًا ونهارًا».
أطفاله يصابون بأمراض جلدية لم يعرفها من قبل، في أيديهم وأرجلهم بثور وجروح، ولا يعرف هل السبب الحر أم الرطوبة أم قلة النظافة؟ يضيف بصوت يختلط باليأس: «أنا مقبل على الستين، ولم أرَ موجة حر كهذه. الخيام تخزن الحرارة بدلًا من حجبها، ولا مياه تكفينا لتبريد أجسادنا. نمسح العرق بأيدينا، ونغسل وجوه أطفالنا بما تيسر من ماء، لكنه لا يكفي».
ويؤكد أنّ النزوح لم يجلب لهم سوى سلسلة متراكمة من المعاناة، آخرها هذا الصيف الذي جعل الخيام كالأقبية المشتعلة. يقول: «كأننا نعيش في صحراء بلا ظل ولا ماء».
أجساد رقيقة تنهار
الأطفال وكبار السن هم الأكثر عرضة، يتنفسون بصعوبة ويئنون تحت وطأة حرارة لا ترحم. أجسادهم الهزيلة تعجز عن التكيف، في ظل غياب الكهرباء التي تحرمهم من نسمة هواء باردة أو جرعة ماء منعشة تخفف لهيب الأيام.
من خيمة أخرى في مخيم جباليا، تجلس أم أحمد سليمان لتصف معاناة لا تقل قسوة. خيمتها الصغيرة تضم خمسة عشر شخصًا، أقمشتها من النايلون تحبس الحرارة في الداخل، حتى باتت الخيمة أشبه بقدر يغلي.
تقول: «الأطفال لا يتحملون، ينهارون من الحر، لا ينامون ليلًا، وأحيانًا أجدهم نائمين على باب الخيمة من شدة الشوب».
تحاول أن تبرد أجسادهم بالقليل من المياه، لكنها غالبًا لا تجد ما يكفي. أحد أطفالها مريض بالقلب، يحتاج إلى دواء ورعاية خاصة، لكن الحر يزيد معاناته والحساسية الجلدية تنهش جسده. تصف حاله بدموع محتبسة: «قلبي يتقطع عليه، ولا أملك له سوى الدعاء».
تتذكر أيامها في بيتها قبل النزوح، حيث كانت المراوح تبعث هواءً باردًا والمياه متوفرة. تقول: «كنّا نعيش كالبشر، والآن نحن نعيش في فرن». بالنسبة لها، الخيمة ليست مأوى، بل اختبار قاسٍ للإرادة، ومعركة يومية مع الحر والأمراض.
ترفع صوتها بنداء للعالم: «نحن بحاجة إلى خيام مجهزة، أقمشة تقاوم الحرارة، مياه للشرب والتبريد. أطفالنا يموتون ببطء».
الهلال الأحمر يحذر
رائد النمس، المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة، حذر من التداعيات الخطيرة لموجة الحر على حياة النازحين، مؤكدًا أنّ الأزمة لا تتعلق بالطقس وحده، بل بظروف معيشية غير إنسانية تفتقد لأبسط مقومات الحماية.
وأوضح أنّ أكثر من تسعين بالمائة من سكان القطاع يعيشون في خيام لا تقيهم حرارة أغسطس اللاهبة، في وقت تغيب فيه الخدمات الصحية والبيئية. وقال إنّ المشهد في المخيمات يعكس مأساة متراكمة، حيث تتضاعف معاناة النازحين بأمراض جلدية وتنفسية، وبانتكاسات صحية متكررة خصوصًا لدى الأطفال والمرضى وكبار السن.
وأضاف النمس أنّ الاحتلال يتعمد تدوير حركة النزوح عبر القصف المستمر وإجبار السكان على التنقل بين المناطق، ما يفاقم معاناتهم ويعرضهم لأمراض مرتبطة بسوء التغذية وانعدام النظافة والحرارة المفرطة. وأكد أنّ هذا الوضع يضع حياة الآلاف على المحك.
وختم بدعوة عاجلة إلى المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للتدخل الفوري، وتأمين الحماية والرعاية للنازحين، وتوفير المياه الصالحة للشرب، والخيام الملائمة التي تحمي من تقلبات الطقس والأوبئة.
المعاناة اليومية لا تتوقف عند الحر، فالحرب المستمرة منذ عامين تجلب فصولًا متراكمة من الكوارث. قصف ودمار بالأمس، ونزوح وتشريد، واليوم حر قاتل يطرق الخيام. هكذا يعيش أهالي غزة بين أزمات متلاحقة، وظلمات بعضها فوق بعض.
هنا في غزة، يتقاطع لهيب الحرب مع لهيب الحر، فيرسم على وجوه الأهالي معاناة بلا نهاية. ما بين خيام ممزقة وأجساد متعبة، يختصر المشهد معركة حياة يومية، يتشبث فيها الناس بالبقاء، رغم أنف الحرب والحر معًا.
