العرب والعالم

غزة تُخنق وتحترق ..وكارثة إنسانية غير مسبوقة في المدينة المحاصرة

22 سبتمبر 2025
22 سبتمبر 2025

النزوح لم يعد حدثًا عابرًا، بل أصبح قدرًا مفروضًا. العائلات تبقى في حالة استنفار دائم، لا تعرف متى يُطلب منها الرحيل، ولا إلى أين؟ كثيرون يحملون

معهم حقيبة صغيرة تحتوي على أوراق ثبوتية وبعض الثياب، في حين يترك آخرون كل شيء خلفهم.

أم أحمد (35 عامًا) نازحة مع أربعة أطفال من شمال مدينة غزة، تروي: "نزحنا من بيتنا في الشمال إلى مدرسة مهدمة بمدينة غزة. بعد أسبوعين استُهدفت المدرسة، فاستشهد زوجي وأصبتُ مع أبنائي. خرجنا من المستشفى لنعيش في خيمة لم تصمد أمام الحر، والآن ننام على الأرض بلا غطاء. أبنائي يستيقظون ليلًا من البرد والخوف..كنا نظن أن النزوح مؤقت، لكنه أصبح حياتنا اليومية".

النساء يعانين مع أطفالهنّ بشكل خاص، إذ يواجهن صعوبة في توفير الحليب والأدوية، فيما تضطر بعضهن إلى المشي مسافات طويلة تحت الشمس الحارقة للحصول على ماء غير صالح للشرب في معظم الأحيان.

وتضيف أم أحمد: "علبة الحليب صارت أغلى من الذهب، أحيانًا أخلط لطفلتي الماء مع الدقيق كي تسكت من الجوع. لا أستطيع شراء الحليب حتى لو وجدت المال، لأنه غير متوفر أصلًا".

أما أبو إياد (52 عامًا)، الذي نزح سبع مرات خلال الحرب، فيقول: "كلما وصلنا مكانًا جديدًا نأمل أن نجد فيه الأمان، يأتينا أمر بالإخلاء أو يقصف المكان..حملت أطفالي على كتفي ومشيت بهم عشرات الكيلومترات. ليس لدينا المال الكافي للنزوح ولم تعد لدينا قوة للهرب، لكننا نُجبر على ذلك في كل مرة".

إلى ذلك كله، النزوح لا يقتصر على الخوف من القصف، بل يتضاعف بالغلاء الفاحش. أجرة عربة صغيرة لنقل عائلة واحدة قد تصل إلى آلاف الشواكل، وهو مبلغ يستحيل على النازحين دفعه. لذلك، يضطر معظمهم للمشي مسافات طويلة تحت الشمس أو المطر، يحملون أطفالهم وأمتعتهم القليلة.

أم ليان (40 عامًا) تقول: "كنت أدفع نصف دخلي الشهري قبل الحرب للعيش طوال الشهر. الآن لا أملك شيئًا، وأسعار المواصلات ارتفعت خمسة أضعاف. لا خيار لنا سوى المشي. أحيانًا نسير سبعة كيلومترات ونحن نحمل الأطفال على الأكتاف. الآن أصبحنا لا نملك ثمن المواصلات للنزوح، نمشي كيلومترات طويلة على الطريق. كيلوجرام الطحين صار حلمًا، وأسعار الأرز والزيت تضاعفت عشر مرات. حتى إن وجدت المال، لا تجد ما تشتريه".

النازح محمد (29 عامًا) يضيف: "كنت أعمل سائقًا، أعرف الطرق جيدًا. الآن أصبح الطريق إلى الجنوب رحلة موت. القصف قد يلاحقك في أي لحظة، والأسعار نار.

كثيرون يبيعون ما تبقى من ذهب أو أثاث ليدفعوا أجرة الطريق"، بالمقابل هناك طوابير طويلة أمام المخابز والتكيات لم تعد تضمن وجبة تسد الرمق. عائلات كثيرة لا تجد ما تأكله سوى الخبز اليابس إن توفر، أو العدس المسلوق بلا زيت ولا ملح.

أبو محمود (45 عامًا)، أب لسبعة أطفال، يقول: "أقف ساعات في الطابور، وأحيانًا أعود بلا شيء. لم نتذوق اللحم منذ أشهر. نغلي أوراق الشجر أو نطبخ العدس إن وجدناه. ابني يسألني: 'بابا، متى سنأكل مثل قبل؟' ولا أجد جوابًا. عشنا أيامًا لا نعرف فيها طعم النوم. الخوف يلاحقنا في كل مكان، حتى ونحن داخل الخيمة..الليل مظلم وبارد، والأطفال يبكون من الجوع، وأحيانًا من الرعب عندما يسمعون أصوات الانفجارات القريبة".

بينما تضيف "أم محمد"، وهي سيدة مسنّة:"أشعر أن الحرب أخذت عمري وصحتي. نعاني سوء التغذية، أطفالنا أجسادهم ضعيفة، وأنا لم أذق اللحم منذ أشهر. نعيش على القليل من الفول والخبز اليابس إن وُجد".

وزارة الصحة في غزة أعلنت تسجيل 4 وفيات جديدة في يوم واحد منتصف الأسبوع المنصرم نتيجة المجاعة وسوء التغذية بينهم طفل، ليرتفع إجمالي وفيات سوء التغذية إلى 440 شهيدًا منذ مارس الماضي، من بينهم 147 طفلًا.

في الأثناء، تنتشر بين الأطفال بسبب شحّ المياه النظيفة وانعدام النظافة الكوليرا، فيما يضطر الأهالي إلى تقاسم وجبة واحدة على مدار اليوم.

منظمات الإغاثة تحذر من أن سوء التغذية بدأ يفتك بالأطفال، مع انتشار حالات فقر الدم، الهزال، وضعف المناعة، فيما أصبحت المستشفيات الميدانية تفتقر للأدوية والمعدات، فيما يموت المرضى بلا علاج.

الحاجة فاطمة (60 عامًا) مريضة سكري تقول: "أحتاج إلى الإنسولين يوميًا، لكنه اختفى. قدماي تتورمان وأشعر أن الموت يقترب. المراكز الصحية مغلقة أو بلا دواء. ماذا نفعل؟ نموت بصمت. أحفادي أصيبوا بالجرب والجدري. لا دواء، لا صابون، والحشرات والقوارض تملأ المكان. أشعر أن الأمراض ستقتلنا قبل القصف. فيما أكدت تقارير طبية محلية تزايد حالات الإسهال الحاد، التسمم، والتهابات الجلد، وسط غياب أي قدرة علاجية.

بدورها صرحت وزارة الصحة الفلسطينية أن الاحتلال الإسرائيلي يُفشل وبشكل متعمد محاولات منظمة الصحة العالمية لإدخال الوقود إلى مستشفيات محافظة غزة، ويمنع استخدام طرق بديلة لإيصال الوقود.

هذه الأزمة تُهدد بتوقف عمل مجمع الصحابة الطبي ومستشفى الخدمة العامة ومحطة الأكسجين المركزية وسيارات الإسعاف، ما يعني أن القطاع الصحي مقبل على كارثة غير مسبوقة.

وتؤكد منظمة "أطباء بلا حدود": "وصلنا إلى أسوأ وضع يمكن تصوره في غزة، إنسانيا وطبيا".

أما متحدثة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أولجا تشيريفكو، فقالت: "ما تقوم به إسرائيل في مدينة غزة فرض حكم بالإعدام على المدينة".

كما أن نسبة سوء التغذية بين الأطفال ارتفعت من 8.3% في يوليو إلى 13.5% في أغسطس.

في مدينة غزة وصلت النسبة إلى 19%، أي أن طفلاً واحدًا من كل خمسة أطفال يعاني من سوء التغذية، وأكثر من 23% منهم في حالة حرجة.

من جهة ثانية، حذرت الأونروا من اكتظاظ المخيمات وانتشار الأمراض، فيما وصفت منظمات حقوقية مثل العفو الدولية ما يحدث بأنه نزوح قسري مخالف للقانون الدولي، مؤكدة أن استخدام الجوع كسلاح حرب هو جريمة حرب.

ورغم الأرقام القاسية، تبقى خلفها وجوه بشرية لا تجد من يحميها: نساء يقطعن كيلومترات بأقدام حافية بحثًا عن ماء أو دواء، أطفال ينامون جوعى، وشيوخ رفضون مغادرة منازلهم المهددة لأنهم يفضلون الموت بين جدرانها على التيه في العراء.