العرب والعالم

عاصمة الرشيد، الرقة السورية، صمود بانتظار الفرج

06 مايو 2021
من المغول إلى الدواعش والتحالف و"قسد"
06 مايو 2021

دمشق - عُمان - بسام جميدة:

"الرقة" تلك المدينة الوادعة الواقعة في شمال شرق سوريا، التي تتميز بغناها في الثروة الزراعية والحيوانية والمائية، حيث تحتضن أعظم السدود المائية في المنطقة إلا وهو سد الفرات الذي يغذي سوريا بالماء والكهرباء، كما أنها تشكل لوحة فسيفساء متميزة للمكون البشري الذي يعيش فيها منذ عشرات السنين. عاصمة الرشيد التي كانت ذات يوم منارة للأدب وعاصمة للدولة العباسية والتي تعج بالحضارة والتاريخ، لم يكن أحد يتنبأ بما ستؤول إليه أحوالها اليوم وهي على هذا الحال من الدمار وسوء الأحوال عقب الأزمة السورية التي أطاحت بمدن عديدة، ولم تلفح نارها مدينة الرقة إلا بعد شهور كثيرة وبقيت صامدة في وجع الحراك الذي طال معظم المناطق السورية، قبل أن تلجها الفصائل المسلحة وتستولي على القسم الأكبر منها، ولكن الطامة الكبرى التي غيرت وجه الرقة جذريا هو دخول تنظيم داعش إليها وجعلها عاصمة لدولة الخلافة عقب سيطرته عليها من عام 2013 ولغاية 2017 وخلال هذه الفترة شهدت المدينة التي اكتست بالسواد فظائع كثيرة بعد أن لبى مئات المتشددين من مختلف دول العالم دعوة أبوبكر البغدادي للقدوم إليها وجعلها منطلقا لخطط التنظيم المقبلة، وشهدت مدينة "الرافقة" كما كانت تسميتها أيام العباسيين حكما داعشيا، وشهدت ساحاتها الكثير من قطع الرقاب وعقوبات الجلد، كما دفنت في أرضها عشرات الضحايا بمقابر جماعية. ويروي أبو فاضل الرجل الخمسيني الذي لم يغادر الرقة وتنقل بين المدينة والقرى عدة مرات هربا من البطش الذي كان يجري ويقول: "لم يكتب لي الموت بعد، عشت طوال السنوات الماضية تحت وابل من القصف، الموت يطاردنا من مكان إلى آخر، تغيرت رايات المتحاربين هنا، وعشنا أياما مريرة، وشهدنا لحظات إعدام كثيرة لأسباب ليست وجيهه بتاتا، كنا نرضخ للأمر الواقع نتيجة التسلط الذي يمارس على الأهالي وليس باليد

حيلة، لا مجال للمقاومة، الموت مؤكد لمن يتأفف أو يتلفظ بأي كلمة، الصور التي تمر أمامي الأن كثيرة، جلها وحشية ودموية، والأنكى من ذلك إننا بتنا بلا مأوى بعد الدمار الذي أصاب المدينة، وحتى بعد أن تم طرد داعش من الرقة ليست الأمور على ما يرام وأصبحنا كمن يهرب من تحت الدلف إلى تحت المزراب" هكذا يختتم أبو فاضل حديثه ويلخص معاناة السنوات المريرة التي تمر على أبناء مدينة الرقة.

خروج التنظيم وسيطرة طقسد"

لم تخرج فلول داعش من الرقة طواعية، بل عمدت الى البقاء لأطول فترة ممكنة والاحتماء بالبشر والحجر مما حدا بقوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن إلى توجيه ضربات جوية متواصلة على مدى شهور لتأمين غطاء جوي لقوات سوريا الديموقراطية الكردية "قسد" لدخول المدينة والاستيلاء عليها من جديد، ونجم عن هذا دمار فظيع. وتقول منظمة العفو الدولية أن الدمار لحق بأكثر من 11 ألف مبنى هناك وقدرت حجم الدمار في الرقة بثمانين في المئة، ويشمل المدارس والمستشفيات والمنازل الخاصة وأحصت وجود 30 ألف منزل مدمر بالكامل و25 ألفاً شبه مدمر.

المدينة تبدو كأنها مجرد حطام ومن بقي فيها من البشر التجأ لبعض المباني التي لازال شبه واقفة ولكن خطر الانهيار قد يحصل في أي لحظة، هكذا يروي لنا حمود وهو أسم مستعار لأحد القاطنين في الرقة، حيث يعمد أي شخص إلى محاولة إخفاء شخصيته الحقيقية خوفا من القتل، وحتى "الرقاويين" الذين هاتفتهم وهم خارج الرقة في دمشق أوغيرها من المحافظات طلبوا عدم ذكر أسماءهم الحقيقية، بسبب وجود أقاربهم في الرقة وتحت سيطرة قوات "قسد" التي تقوم بتفتيش حتى رسائل الواتس على الهواتف المحمولة، كما يقول حمود وهو يروي لنا ما يجري هناك، الأمور ليست في مصلحتنا نهائيا، الناس تعاني من الفقر والظلم وفقدان الأمن والأمان، كل شيء مباح في المدينة والريف، هناك ميليشيات وفوضى، ودمار، أصبحنا نخاف على أولادنا وبناتنا ونساءنا بعد أن فقدنا بيوتنا وأموالنا، لم تزيدنا الحرب سوى مرارة.

هكذا أصبحت الرقة

مدينة الرقة التي تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتبعد عن العاصمة دمشق حوالي 450 كم، وعن مدينة حلب حوالي 160 كم، وتبلغ مساحتها 19616 كم مربع وعدد سكانها أكثر من مليون نسمة، وكانت محور لكثير من الحراك التجاري السوري بين عدة محافظات كما أن لديها بوابة سورية تطل على تركيا عبر معبر مدينة تل أبيض، كما أنها تطل على الحدود العراقية عبر الصحراء المترامية الأطراف من ناحية تدمر، لم يعد يقطنها اليوم سوى أقل من مئتي ألف نسمة وذلك بسبب النزوح وممارسات الفصائل التي اجتاحتها ولجوء الكثير من المسلحين إليها.

لن تنفصل عن الوطن

نائب مجلس الشعب السوري فايز سليمان العبدالله تحدث إلينا واصفا واقع الحال بقوله "الرقة حاليا مدينة غريبة عنا بما نشاهده من وجوه غير معروفة لدينا، في السابق أمر من أمام الساعة أسلم على عشرات الأصدقاء في اللحظة الواحدة، كنا نعرف بعضنا البعض، ونعرف الجميع، لم ازر المدينة منذ سنة و3 أشهر الكل غرباء عن المدينة، كما أتكلم عن المواطنين العاديين، المدينة جمعت بقايا النازحين من محافظات القطر كافة، كما يتواجد فيها اغلب المطلوبين من الجماعات الإرهابية والمسلحين، وخاصة الدواعش وعائلاتهم، وكثير من قيادات الدواعش وعناصرهم هم اليوم المتنفذين في المدينة والقائمين على حواجز الميليشيات الانفصالية طبعا، من يعمل مع الميليشيات يحصل على رواتب عالية تكفيه لمعيشة جيدة، باقي المواطنين معيشتهم متدنية بسبب الغلاء فاحش بكل مناحي الحياة، الأكراد قلة قليلة جدا، من يقف على الحواجز هم أبناء القبائل العربية، والأغلب منهم يقف مقابل الدولار، وقسم آخر من المنشقين والفارين من الخدمة العسكرية من المحافظة وباقي المحافظات الأخرى.

ويتابع النائب فايز العبدالله قائلا: داعش ومن قبلها الفصائل المسلحة ساهمت بتدمير الرقة واستباحتها، ومذابح داعش لاتزال في الذاكرة بحق المدنيبن والعسكريين، مما كان سببا في جلب التحالف لضرب وتدمير الرقة بهذا الشكل الوحشي، المشهد مروع فعلا، داعش ارتكبت المذابح والقهر والظلم والاضطهاد، ودمر طيران التحالف المدينة بالكامل ولكن ليس الهدف "داعش"، الهدف هو تدمير الرقة دمرت الجسور والمؤسسات الحكومية والجامعات والدوائر الرسمية، لم تترك شيئا، البلد بات دمارا وكان الدواعش يهربون قبل القصف، كانوا يدركون ذلك.

* وماذا بعد ذهاب "داعش" وسيطرة "قسد" على المدينة وكيف بات الحال، رد النائب فايز قائلا: لم يكن الوضع بأفضل حال، وان ما يسمى "قسد" لا تعرف كيف تدير نفسها حتى تدير البلد، اليوم تعم الفوضى، وهي تفرض التجنيد الإجباري على أبناء العشائر، وتقيم الحواجز الطيارة وتداهم بيوت المواطنين لسوقهم للخدمة الإجبارية في ميليشياتها، هناك انفلات أمني كبير، وهي تغذي النعرات والفتن بين أبناء القبائل وحتى ضمن القبيلة الواحدة، المخدرات والأسلحة متوفرة بين أيادي المواطنين وتعمل على تغذية الفتن لتتمكن من السيطرة لمدة أطول على المدينة.

وأردف فايز، المشروع الانفصالي ل"قسد" لن يمر بتاتا في المنطقة لأن سوريا معروفة بوحدتها الوطنية وتماسك شعبها وتمسكه بالهوية السورية تحت راية وطن موحد بعيدا عن أي نعرات وتقسيمات أخرى، قسد لا تستطيع السيطرة على الرقة والجزيرة السورية ولولا الدعم الكبير التي تتلقاه من الولايات المتحدة وإسرائيل، لما تمادت إلى هذا الحد، ومن المستحيل إقامة كيان أو مشروع دولة في هذه المنطقة وهو مشروع غير قابل للحياة، حيث لا موانئ ولا حدود ولا علاقات خارجية ولا قاعدة شعبية ولا حتى دول الجوار ترغب في ذلك وتشجعه.

وسيطرة "قسد" على سد الفرات والمنابع المائية جعلها تتحكم بمصدر الكهرباء الرئيسي في الرقة وأريافها، وكذلك تتحكم وتحرم اغلب المناطق المروية المحررة من الماء والكهرباء وخاصة في الريف الشرقي المحرر، السبخة ومعدان حيث تقطع المياه والكهرباء في اللحظات الحرجة للموسم الزراعي وتبدأ بالابتزاز، في موسم القمح السابق قطعت الكهرباء عن محطة مغلة في منطقة معدان والتي تروي آلاف الهكتارات وقبل بدء الحصاد بحوالي 40 يوما وطلبت "قسد" من الحكومة تجهيزات للكهرباء في مناطق سيطرتها بمليار ليرة سوريا واستجابت الحكومة حرصا على فلاحينا وعلى موسمهم الزراعي ولكنها تعاود الابتزاز وتقطع الماء والكهرباء من جديد دون احترام لأي اتفاق وبذلك تحرم سوريا من الكهرباء والمواد الغذائية والثروة الحيوانية أيضا، كما أن الاثار لم تسلم من سرقات الفصائل التي عبرت هذه البلاد وقامت بالتنقيب والحفر العشوائي بل ودمرت الكثير منها.

*برأيك كيف يمكن ان تعود الرقة الى كما كانت عليه ..وهل ستبقى بيد "قسد"

الانفصالية ..وماهو السيناريو المتوقع لذلك برأيك، ودور الحليف الروسي في

عودتها ...؟

يجيب النائب قائلا: العودة لا محالة قادمة ولكن في الظروف الحالية من الصعوبة عودتها بالقوة العسكرية، ستعود بتفاهمات روسية أمريكية إيرانية تركية، وبإرادة وموافقة سوريا، والضغط التركي المتزايد على "قسد" هو من يجعلها تقبل دخول الجيش السوري كما حدث عندما سلمت "قسد" مناطقها للجيش خوفا من تركيا والميليشيات المساندة لها، والغليان الشعبي سيساهم بطرد كل الفصائل المسلحة ولولا بطش "قسد" بالمتظاهرين والمؤيدين لدخول الجيش لما خفف من ثورة أهل الرقة فالكثير منهم لا يزال في السجون، علما ان الكثير من الأكراد واهل الرقة مع الحكومة قلبا وقالبا ويؤمنون بوحدة سوريا أرضا وشعبا ويؤيدون عودة الرقة والجزيرة السورية لحضن الوطن، والجيش السوري متواجد في أغلب مناطق عين عيسى وشمال الرقة ومنطقة سلوك وسيكون في الوقت المناسب هناك لتحرير الرقة من قبضة الانفصاليين وتعود الرقة لحياتها الطبيعية.

مشروع فاشل

أبومحمد الرقاوي الذي يعمل مع إحدى المنظمات الإنسانية ولازال يعيش في مناطق

الرقة وآثر عدم الإفصاح عن أسمه وعمله الرئيسي قال عن مدينة الرقة، أنها عانت

معاناة كبيرة من الإرهاب بكافة أشكاله حيث تشير الإحصائيات إلى تضرر حوالي

12700 منزل بحسب إحصائيات الأمم المتحدة وهي تشكل حوالي 80% من بيوت مدينة الرقة.

لكن الإرهاب الفكري كان أقسى من تخريب البنية التحتية التي تهدمت بحجة تحرير الرقة من تنظيم "داعش" حيث قصف التحالف الجسور الرئيسية وقنوات الري والطرق

العامة والزراعية والأبنية العامة مثل دار الحكومة والمحكمة والجامعة والمدارس والمشافي العامة مثل مشفى الأطفال وكل ما يتعلق بالنفع العام بما يخدم الصحة والتعليم والقضاء والشؤون الاجتماعية.

لكن الطامة الكبرى هي تفشي الجهل حيث أغلقت بل حاربت كل المجاميع الارهابية التي مرت على الرقة؛ المدارس وحاربت التعليم وأغلقت المعاهد الخاصة وحاولت فرض مناهجها السقيمة وكانت النتيجة أن نشأ جيل كامل أمي لا يقرأ ولا يكتب وبالمقابل اضطر الكثير من أهالي الرقة إلى النزوح الداخلي لتعليم أبناءهم وما ترافق ذلك من أعباء مادية واجتماعية ونفسية لا زالت مستمرة حتى تاريخه.

بعودة قسم من ريف الرقة الجنوبي إلى الام سوريا بعد معركة مع الإرهاب الداعشي وما تركه من تخريب، كان واضحاً أن تكلفة إعادة الإعمار كبيرة وبحاحة إلى دعم ووقت وجهد مضاعف في ظل العقوبات الجائرة التي تعاني منها سوريا.

يبقى الأمل في جهود أبناء الرقة لإعادة بناء ما خربه الإرهاب من بنية تحتية وفكرية وتغيير ديموغرافي قد ينصلح في قادم الأيام.

*وكيف ترى الوضع الحالي يجيب أبو محمد قائلا: الوضع الحالي غير مستقر لغياب سياسات جادة في إعادة البناء وغياب التعليم الرسمي وضبابية العلاقة بين الحكومة السورية و"قسد" التي ترتهن لإملاءات أمريكية واضحة ومباشرة وتعرقل كل جهود لتخفيف معاناة المواطنين.

والدليل هو تأثر الوضع بكل متغير سياسي في المنطقة ويشكل التهديد التركي من الشمال العامل الأكبر في توجيه هذه العلاقة .

"قسد" لا تملك كل الخيارات بيدها ولولا وجود منابع النفط لتغيرت الكثير من الأمور بالإضافة إلى الثروة الحيوانية والزراعية، بينما المواطن بالرقة بحاجة إلى هوية سوريا وجواز سفر سوري وشهادة تعليم سورية وعملة سورية ودواء سوري ومنتجات سورية، و"قسد" تجانب الحقيقة وتعلم حقيقة الأمر وتدركه ولكن تريد أن تستغل اكبر فترة زمنية للاستفادة المادية وإطالة عمر للأزمة لا أكثر.

الانفصال الذي تحلم به، مشروع ضخم جدا اكبر من "قسد" بحد ذاتها، ولا مجال لمقاربة تجربة كردستان العراق بشمال شرق سوريا هناك تجربة كانت تحت إشراف الحكومة العراقية وصار عمرها 40 عاما.

بينما هنا الجار التركي إذا قطع مياه الفرات ستنتفض الناس عليهم وتطالبهم بالماء، كما انه لا يوجد لديهم اي منفذ للتصدير أو الاستيراد، حتى علاقتهم باربيل علاقة تجارية، الأحزاب الكردية ذات أيديولوجيات متعددة تصل إلى حد الاقتتال لا ضابط لها، العسكرة المسيسة هي من تدير المنطقة.

فصول الرواية

لا تقتصر حكاية مدينة الرقة على ما ذكرنا، وما ذكر ضيوفنا، بل هي مأساة مدينة شهدت حربا عبثية طالت نفوس شعب هادئ وقانع لم يعرف من الحياة سوى بساطتها واعتمد أسلوب الحياة الريفية الجميلة، ولكن مقادير الحرب زرعت في نفوس أبناءها وأطفالها وبناتها كثير من الذعر والخوف، بل أن بعضهم تشرب تلك الأيديولوجيات العابرة، ولكنه أكتشف أنها زائلة، ولكنها حفرت عميقا في النفوس التي شهدت بأم أعينها عمليات القصاص والمجازر المجانية وهول القصف العشوائي.

ضحايا الرقة ليس هم الذين دفنوا تحت التراب، بل بمن بقي منهم أحياء ونالت منه صدمة ما رأى وسمع من عنف، وما قاسى من نزوح وهروب في الأراضي الصحراوية الشاسعة كي ينجو وأهله من بطش المتحاربين للسيطرة على المدينة وثرواتها، ومحاولة قلب الخريطة الجغرافية وأحداث تغيير ديموغرافي فيها.

ستدون ذاكرة الأطفال والفتيات والنساء والرجال معاناة مدينة كادت أن تصبح عاصمة لتنظيم داعش، ولكنها زالت، ومحاولات القوى الانفصالية الكردية مرة أخرى لانتزاعها من الحضن السوري دون جدوى، وسيكتب "الرقاويون" فصول حكاية مدينتهم كما كتبها من قبل الأديب والسياسي عبد السلام العجيلي أيقونة الرقة التي لايمكن أن يطمس آثارها مهما كان سلاحه مدمرا وفتاكا، وكما مر المغول عليها ودمروها ثم عادت للحياة من جديد، ستعود الرقة بهمة ابناءها الشرفاء والمثقفين وأصحاب المبادئ، هذا هو حال لسان أهل الرقة، وهذا هو حالهم اليوم.