سياسات ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة على الفضاء!
واشنطن"د. ب. أ": في الأسبوع الماضي وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرا تنفيذيا جديدا بعنوان "ضمان التفوق الفضائي لأمريكا"، بالتزامن مع أداء جاريد إيزاكمان اليمين الدستورية كمدير جديد لوكالة الفضاء والطيران الأمريكية "ناسا" بهدف تحقيق الهيمنة الأمريكية في الفضاء لكن ذلك الامر لقي تحفظا واضحا من مجلس العلاقات الخارجية الامريكي.
وبهذا الامر التنفيذي يبدو أن دونالد ترامب يعد لتعبير صريح عن مرحلة انتقالية خطيرة في النظام العالمي، حيث تُختبر قراراته أسس الهيمنة الأمريكية القديمة أمام تحديات عالم متغير، ومجتمع داخلي منقسم.
لكن المثير للقلق أن السياسة الأمريكية الجديدة تتجاهل القواعد الدولية القائمة لإدارة الفضاء الخارجي، وهو أمر متوقع من جانب إدارة تسعى إلى تغيير العديد من المعايير الدولية. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، صادقت الولايات المتحدة، إلى جانب دول أخرى رائدة في مجال الفضاء وأكثر من 100دولة مهتمة بالفضاء، على أربع معاهدات رئيسية لتنظيم استخدامات الفضاء. وبغض النظر عن نفور إدارة ترامب من الاتفاقيات الدولية بشكل عام، فإنه على الولايات المتحدة، في عصر التنافس الفضائي، إدراك قيمة المعايير التي يمكن أن تساعد في الحفاظ على النظام في الفضاء.
من ناحيته نشر مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي تقرير مجموعة العمل التابعة له عن السياسة الفضائية الأمريكية تحت عنوان " تأمين الفضاء: خطة عمل أمريكية" وبحسب التقرير الذي نشرت ملخصا له إيستر بريمير الباحثة في برنامج جيمس إتش.بينجر للحوكمة العالمية في مجلس العلاقات الخارجية فإن طموحات ترامب الفضائية تنطوي على رهانات هائلة بالنسبة للأمن القومي الأمريكي والازدهار الاقتصادي على حد سواء. فقد أصبح الأمريكيون يعتمدون اعتمادا كبيرا على آلاف الأقمار الاصطناعية، والتي تؤثر على معظم جوانب الحياة اليومية، بدءا من خدمات الملاحة باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي عبر الأقمار الاصطناعية (جي.بي.إس) إلى زراعة المحاصيل.
كما أن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة العاملة في مجال الفضاء. فإلى جانب الصين التي تبرز كمنافس قوي، هناك العديد من الدول الأخرى التي تطلق أقمارها الاصطناعية بوتيرة متسارعة. وأصبح أكثر من تسعين دولة تمتلك أقمارا اصطناعية لمراقبة الأرض أو الحصول على المعلومات، وهو ما يفرض على المجتمع الدولي ضرورة الاتفاق على قواعد عملية لإدارة حركة المرور الفضائية وتعزيز استدامتها بحسب بريمير.
ويمزج الأمر التنفيذي للرئيس ترامب بين مجموعة من السياسات الاستشرافية، ودعم كامل للطاقة النووية في الفضاء، وجداول زمنية ضيقة. ولكن لكي تنجح سياسة الفضاء، يجب أن تسهل أيضا وضع قواعد عملية تحظى بدعم جميع دول العالم لضمان سلامة الفضاء، وهو ما لا يبدي ترامب اهتماما كبيرا به حتى الآن.
وتبدأ الوثيقة الرئاسية بعرض أهداف طموحة تتمثل في "توسيع نطاق الاكتشاف البشري، وتأمين المصالح الاقتصادية والأمنية الحيوية للأمة، وإطلاق العنان للتنمية التجارية، ووضع الأسس لعصر فضائي جديد". في الوقت نفسه تحدد جداول زمنية ضيقة "لإعادة الأمريكيين إلى سطح القمر بحلول عام 2028" و"إنشاء العناصر الأولية لمحطة قمرية دائمة بحلول عام 2030".
من ناحيتها دعت مجموعة عمل مجلس العلاقات الخارجية بشأن الفضاء إلى ضرورة وجود قيادة لسياسة الفضاء مقرها في البيت الأبيض. وقد أعادت إدارة ترامب الأولى إحياء المجلس الوطني للفضاء واستخدمته. كما استخدمت بعض الإدارات الأمريكية السابقة مجلس الأمن القومي لقيادة السياسة الفضائية. لكن السياسة الجديدة تتميز بقيادة مختلفة من البيت الأبيض ممثلة في منصب مساعد الرئيس للعلوم والتكنولوجيا، ولكنها لا تزال تدعم سياسة الفضاء بقيادة رئاسية.
ويدعو الأمر التنفيذي مساعد الرئيس للعلوم والتكنولوجيا إلى تقديم خطة مشتركة بين الوكالات في غضون 90 يوما، إلى جانب إلزام الوكالات الفيدرالية المعنية بتقديم أي إجراءات إضافية مطلوبة لتسريع تطبيق سياسة الفضاء الجديدة. وتشمل هذه الإجراءات استراتيجية جديدة لأمن الفضاء في غضون 180 يوما لمواجهة "احتمال نشر الخصوم للأسلحة النووية في الفضاء"، وإعداد تقرير عن "فجوات القدرات الصناعية". كما يدعو الأمر التنفيذي إلى "تطوير وعرض نماذج أولية لأنظمة دفاع صاروخي من الجيل التالي". ومن المثير للدهشة أنها تشير إلى هذا النظام باسم "القبة الحديدية لأمريكا"، مستخدمة اسم نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي بدلا من اسم نظام "القبة الذهبية" الذي تسعى الإدارة إلى تطويره.
في الوقت نفسه يكلف الأمر الرئاسي وزير الخارجية بتنفيذ "خطة لتعزيز مساهمات الحلفاء والشركاء في أمن الفضاء الأمريكي والجماعي". وهذا يوحي باستمرار دعم اتفاقيات أرتميس، وهي مجموعة من المبادئ المتعلقة بالتعاون واستخدام الفضاء، تم إطلاقها لأول مرة في نهاية ولاية ترامب الأولى عام 2020، ووسعتها إدارة الرئيس السابق جو بايدن، واستمرت في عهد إدارة ترامب الثانية. وبحلول نوفمبر 2025، وقعت ستون دولة على هذه الاتفاقيات.
في المقابل يلغي الأمر التنفيذي توجيهات سياسية سابقة. فبينما يجيز سياسة فضائية جديدة، فإنه يفكك عناصر من آليات السياسة السابقة، بما في ذلك المجلس الوطني للفضاء الذي أنشئ في نهاية ولاية ترامب الأولى، ويعزز دور وزارة التجارة في السياسة الفضائية ويعطي الأولوية للحلول المقدمة من الكيانات التجارية.
وبحسب تقرير مجموعة عمل مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي فإن ريادة الولايات المتحدة في مجال الفضاء تتعثر بسبب رفضها التعاون مع الدول التي تبدي استعدادها للعمل مع واشنطن. وما حدث في الاجتماع السنوي للجنة الأمم المتحدة المعنية بالاستخدام السلمي للفضاء الخارجي الأخير دليل على رفض إدارة ترامب التعاون مع دول العالم في مجال الفضاء.
فهذه اللجنة تجتمع سنويا وتقدم تقريرها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تقوم الأطراف بمراجعة التوصيات والموافقة عليها. ويعمل خبراء من دول عديدة، بما فيها الولايات المتحدة، على وضع تدابير عملية وتقنية تفيد الولايات المتحدة بوصفها القوة الفضائية الرائدة. ومع ذلك، ورغم مساهمات الولايات المتحدة بأفكارها في اجتماعات هذا العام، عارضت القرار النهائي غير الملزم، الذي أقرته اللجنة بأغلبية 171 صوتا مقابل صوت واحد في الجمعية العامة. وفي بيان سابق، عارضت الإدارة مشروع القرار لأنه أشار إلى التنمية المستدامة وتغير المناخ. وهذا في نهاية المطاف يضر بطموحات الولايات المتحدة؛ فلكي تحقق معايير السلوك الجيد العملية في الفضاء، تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل بشكل بناء في المنظمات الدولية ذات الصلة.
ومن المفارقات أن السياسة الجديدة تبدو متعارضة مع طلبات التمويل الفضائي الأمريكية الأخيرة. ومن غير الواضح ما إذا كان سيتم دعم هذه السياسة الجديدة بتجديد إدارة ترامب الالتزام بتمويل برنامج فضائي قوي وتمويل الوكالات والمسؤولين ذوي الصلة في الحكومة الفيدرالية الذين تدعم خبراتهم ريادة الولايات المتحدة في مجال الفضاء. وكانت الإدارة قد اقترحت في ميزانية السنة المالية 2026 تخفيضات كبيرة في ميزانية وكالة ناسا بلغت 24% في إجمالي ميزانية الوكالة و47% من ميزانية أنشطتها العلمية.
يذكر أن تمويل ناسا وغيره من تمويل العلوم متاح حتى 31 يناير المقبل فقط، بموجب قرار التمويل المؤقت الصادر عن الكونجرس. في الوقت نفسه فإن تقليص تمويل ترامب لميزانيات العلوم وتقويض استقلالية الجامعات يضعف النظام البيئي الذي ساهم في ترسيخ ريادة الولايات المتحدة في مجال الفضاء، لكن الأمل الآن في أن تتيح سياسة الفضاء الجديدة فرصة لتبني نهج متجدد لريادة الولايات المتحدة في هذا المجال الحيوي، وهو ما يصطدم بسياسيات ترامب وخياراته بشكل عام.
