No Image
العرب والعالم

حرائق المستوطنين في الضفة.. نارٌ تأكل حلم الدولة الفلسطينية

22 نوفمبر 2025
22 نوفمبر 2025

غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:

لم يكن فجر قرية أبو فلاح، شمال شرق رام الله، يشبه أي فجر اعتاد عليه باسل حمايل خلال الأعوام العشرة التي قضاها في منزله الحجري الهادئ. البيت الذي بناه بعرق يديه، وزرع حوله أشجار الزينة والورود، كان بالنسبة له «مكانًا ينام فيه القلب مطمئنًا»، كما كان يصفه دائمًا لأصدقائه. لكن ذلك الاطمئنان تلاشى فجأة في تلك الليلة حين بدأ الظلام يتشقق على أصوات غريبة تقترب من الجدار الخلفي للمنزل.

فجر يُشعل الرعب

كان الهواء البارد يتسلل من نافذة صغيرة، بينما كانت زوجته تحاول تفسير همسات مكتومة تأتي من جهة غرفة النوم. تقول وهي تستعيد اللحظة: «سمعت أصواتًا لم أسمع مثلها من قبل كانت خطوات تتحرك بسرعة، ثم سمعتُ حديثًا بالعبرية... شعرت أن شيئًا غير طبيعي يحدث». حاولت التقدم نحو الباب، لكنها لم تكد تتحرك حتى سمعت وقع أقدامٍ تهرب مسرعة خارج السور.

في تلك اللحظة، هزّ الابن الأكبر والده بقوة. كان يلهث ويكرر بجملة مرتجفة: «يا أبي... استيقظ، هناك أشخاص حول البيت وهناك دخان يدخل من الممر». فتح باسل عينيه ليرى السواد وقد هجم عليه من كل زاوية، دخان كثيف يملأ الصالة ويجعل التنفس صعبًا منذ اللحظة الأولى. يصف تلك اللحظة قائلًا: «حين فتحت عيني، شعرت أن البيت انقلب.. الدخان كان مثل جدار أسود يسدّ صدري».

استدار بسرعة نحو الغرف الداخلية. كان يعرف أن أمامه ثوانٍ قليلة لإنقاذ أطفاله الثلاثة. «كان اثنان من الصغار نائمين في غرفة واحدة، والثالث نائم وحده... كل ما كنت أفكر فيه هو كيف أصل إليهم قبل أن ينهار كل شيء»، يقول لـ«عُمان» كانت الحرارة تزداد بشراسة، والشرارات تتطاير من المدخل الأمامي الذي وصلته النيران أولًا، حتى بدا الوصول إليه انتحارًا خالصًا.

اضطر حينها للالتفاف نحو المخرج الخلفي الذي لم يستخدمه منذ شهور. «لم يخطر ببالي يومًا أن هذا الباب سينقذ حياتنا»، يقول باسل بينما ينظر إلى فتحة الخراب التي تركتها النيران خلفها. وما إن فتح الباب حتى اندفع هو وزوجته وأطفاله الثلاثة إلى الساحة الأمامية، يتنفسون بصعوبة ويحدقون في كتلة سوداء من الحريق كانت تبتلع المنزل غرفةً بعد أخرى.

وقف باسل أمام منزله المحترق عاجزًا عن استيعاب ما جرى: «البيت الذي عشت فيه عشرة أعوام... لم أصدق أنه يحترق بهذه السرعة. لو لم يكن هناك مخرج خلفي، كنا سنموت جميعًا». ثم أضاف وهو يشير إلى آثار الحريق الممتدة على الجدار الخارجي: «هؤلاء لم يأتوا ليخيفونا فقط... جاءوا ليقتلونا».

نيران الاستيطان تخنق أطفال القرى

في قرى الضفة الغربية المحتلة، تحولت ليالي الفلسطينيين إلى سلسلة من الكوابيس المتكررة؛ أصوات زجاجٍ يتحطم، صرخات غاضبة في العتمة، ورائحة حريق تتسلل عبر الشقوق إلى غرف النوم. المستوطنون الذين يتجولون في مجموعات مدججة بحماية جنود الاحتلال يستهدفون المنازل والمزارع، يقتلعون الأشجار، يحرقون المركبات، ويتركون وراءهم خوفًا يلتصق بذاكرة الأطفال أكثر مما يلتصق بدخان الحرائق بالجدران.

زين حمايل، الطفل الذي لم يتجاوز الحادية عشرة، لم يتخيل يومًا أن يستيقظ ليجد غرباء داخل منزله في آخر الليل. كانت أصواتهم، كما يقول، قريبة منه حد الرعب، وكأنهم يتحركون فوق رأسه تمامًا. يروي زين: «استيقظنا من النوم ووجدناهم في داخل منزلنا، كانوا يتحركون بسرعة، كأنهم يعرفون المكان جيدًا». حين بدأ الدخان يتصاعد، لم يجد أمامه سوى الركض خلف والده ووالدته نحو المخرج الخلفي، بينما كان صوت النار وهي تلتهم ألواح الخشب يشبه زئيرًا غاضبًا.

ويضيف وقد بدت على وجهه ملامح لم تعد تناسب طفولته: «شاهدت أحدهم يقفز من فوق السور، كان يرتدي ملابس داكنة، وحين أشعلوا النار هربوا فورًا». يتوقف قليلًا وكأنه يخشى تكرار المشهد في خياله، ثم يقول: «لم أتوقع يومًا أن يصلوا إلى هنا، بيتنا لم يكن يومًا مكان خطر».

مصيبة كل سبت

أيمن حمايل، رئيس مجلس قروي أبو فلاح، يتحدث بغضبٍ هادئ يشبه صبر القرى التي تعيش على أطراف النار. يقول: «كل سبت يحدث المستوطنون مصيبة في منازلنا». الجملة التي يرددها تبدو كأنها خلاصة عامٍ طويل من الاعتداءات التي لم تتوقف يومًا. يضيف : «دائمًا ما يقتحمون القرية، يشعلون النيران في المنازل والممتلكات، ويستهدفون كل ما يمكن أن يشعل الخوف في نفوس الناس».

الغرابة التي يشير إليها ليست في تكرار الاعتداءات، فذلك أصبح جزءًا من المشهد اليومي، بل في حضور قوات الاحتلال في الأماكن ذاتها التي يقتحمها المستوطنون، حيث يقف الجنود في مواقع ثابتة وكأنهم جزءٌ من المسرح المعد مسبقًا. يقول أيمن: «قوات الاحتلال تطلق الرصاص علينا بدلًا من وقف المستوطنين، وكأن الجيش جاء ليحرسهم لا ليمنعهم».

عنف المستوطنين المتصاعد.. بالأرقام

هذه الاعتداءات لم تعد مجرد أحداث متفرقة، بل باتت جزءًا من حياة القرى المحاصرة التي تستيقظ كل يوم على احتمال أن يكون دورها في قائمة الهجمات. وبين حريقٍ وآخر، يزداد شعور الفلسطينيين بأن ما يحدث ليس فعلًا انتقاميًا أو ردًا عاطفيًا من مستوطنين، بل سياسة ترويع متصاعدة هدفها دفع السكان إلى التفكير بالرحيل، وتهيئة الأرض لمخططات ضم معلنة وأخرى صامتة.

الأمم المتحدة تصف هذه الحوادث بأنها جزء من موجة غير مسبوقة من العنف المنهجي. وتشير أرقامها إلى أن المستوطنين نفذوا أكثر من 264 هجومًا خلال شهر أكتوبر الماضي فقط، وهو أعلى رقم يسجَّل في شهر واحد منذ بدء التوثيق عام 2006. أي بمعدل ثمانية اعتداءات يوميًا تشمل القتل، الحرق، التخريب، وسرقة الأراضي.

ومنذ عام 2006 وثقت الأمم المتحدة أكثر من 9600 هجوم ضد الفلسطينيين في الضفة، بينها نحو 1500 هجوم منذ بداية عام 2025 وحده. تؤكد المنظمة الحقوقية الدولية أن ما يجري يتحول إلى نمطٍ مدعوم ضمنيًا من الجيش الإسرائيلي، إذ تتزامن اعتداءات المستوطنين مع إجراءات عسكرية تزيد من معاناة السكان وتحاصر القرى.

وتضيف الأمم المتحدة رقمًا آخر لا يقل خطورة: 42 فلسطينيًا قتلتهم القوات الإسرائيلية في الضفة منذ بداية العام، ما يعني أن «واحدًا من كل خمسة قتلى فلسطينيين في الضفة الغربية عام 2025 كان طفلًا»، حسب تعبير المنظمة.

الضفة الغربية التي تشكل قلب الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة تتآكل اليوم بفعل التوسع الاستيطاني المتسارع؛ إذ يعيش أكثر من نصف مليون مستوطن على أراضٍ مصنفة دوليًا بأنها غير شرعية. ومنذ أكتوبر 2023، نزح أكثر من 3200 فلسطيني عن قراهم بسبب عنف المستوطنين أو القيود العسكرية المشددة. بعض التجمعات الرعوية أخليت تمامًا، ومئات الفلسطينيين أصيبوا بالرصاص الحي خلال مواجهات الدفاع عن منازلهم.

استيطانٌ بالنار

مؤيد شعبان، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، يتحدث بلغة واضحة لا تترك مجالًا للالتباس، مصوغًا موقفًا يعيد تشكيل الصورة الكاملة لما يجري. يقول إن اعتداءات المستوطنين في الضفة والقدس شهدت خلال الأسابيع الأخيرة «تصاعدًا خطيرًا»، وإنها لم تعد مجرد أفعال فردية، بل «حملة متكاملة تستهدف القرى الفلسطينية».

يؤكد شعبان أن الحرائق التي يشعلها المستوطنون ليست حوادث منفصلة، بل «امتداد لمسلسل الإرهاب الممنهج»، واصفًا ما يحدث بأنه «هولوكوست أمام أنظار العالم». ويوضح أن الهدف الأساس لهذه الاعتداءات هو «فرض بيئة طاردة للفلسطينيين عبر الترويع والترهيب»، مشيرًا إلى أن إشعال الحرائق أصبح «أسلوبًا ثابتًا ومتصاعدًا يستخدمه المستوطنون لتركيع القرى وتكبيدها خسائر اقتصادية واجتماعية مؤلمة».

ويتابع أن الجهات الإسرائيلية الرسمية «تستغل الحرب وقوانين الطوارئ لتوفير غطاء لهذه السياسات»، وأن ما يجري هو محاولة مكشوفة «لتفريغ الجغرافيا الفلسطينية وفرض الوقائع بالقوة والنار». ويستعرض بعض الأمثلة الحديثة: حرق أربع شاحنات تعود لمصنع «الجنيدي» للألبان، وإشعال مساحات زراعية واسعة، وتدمير غرف صفيح وخيام تابعة لتجمع بدوي يضم عدة عائلات. كما يلجأ المستوطنون إلى رشق المواطنين بالحجارة، وهي اعتداءات خلفت أضرارًا مادية كبيرة.

بحسب شعبان، فإن اعتداءات المستوطنين منذ السابع من أكتوبر تجاوزت 700 حريق، وأسفرت عن استشهاد 36 فلسطينيًا برصاصهم، وإصابة آلاف آخرين، وتهجير عشرات التجمعات البدوية. ويستذكر شعبان فاجعة إحراق الفتى محمد أبو خضير عام 2014، وإحراق عائلة دوابشة عام 2015، مؤكدًا أن هذا «يمثل جوهر الفكر الفاشي الذي تتبناه هذه الجماعات».

ويختتم بدعوة صريحة للمجتمع الدولي كي ينتقل «من خانة الإدانات إلى اتخاذ خطوات عملية توقف هذه الجرائم»، معتبرًا أن الصمت الدولي يسهم في استمرار النار التي تلتهم القرى الفلسطينية.