تقرير: نكبة بلا صراخ .. الإستيطان يبتلع بلدة المليحات بأريحا شمال الضفة الغربية المحتلة.
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: كانت الشمس تميل نحو الغروب، حين توقفت شاحنة قديمة محملة بالأغطية، وصناديق الطعام، وخيمة طُويت على عجل. وقفت فاطمة المليحات، ذات السبعين عامًا، تنظر خلفها صوب التلال التي عاشت فوقها عقودًا من عمرها، قبل أن يتمزق الحنين بصفارة عسكرية صاخبة آتية من أسفل الوادي.
هناك، في قلب منطقة المعرجات شمال غربي أريحا، كانت فاطمة قد أمضت خمسين عامًا من حياتها تربي أغنامها وتُصلح زوايا خيمتها كل عام. لم تكن تظن أن وداعها للأرض سيكون على هذا النحو.
رحيل حزين
قالت فاطمة وهي تشدّ طرف ثوبها المطرز: «كأنك تترك ضلوعك ملقاه في المكان... هذه الأرض كانت بيتي ومزار أهلي ومقبرة أبي».
لم يكن في صوتها دموع، بل بحة حزن ثقيلة، كأنها صدى الريح حين تمرّ على خيام فارغة، أو صوت أمّ تنادي أبناءها وسط فراغ لا يردّ عليه إلا الصمت.
في الأيام الأخيرة، بات الخوف يسابق النهار، وهدير المستوطنين المسلحين يطرق مسامع السكان فجأة، عند منتصف الليل أو في وضح النهار. لم يكن أمام العائلات سوى خيار واحد: الرحيل بصمت أو مواجهة المصير وحدهم.
يقول ابنها جمال خلال حديثنا معه، وهو شاب في الأربعين من عمره: «لقد دخلوا علينا وهم يضحكون.. فتحوا الخيام، قلبوا الأغطية، وسرقوا الشعير والماء.. لم نعد نأمن على أنفسنا». منذ ذلك اليوم، بدأت فاطمة وأبناؤها بجمع ما تبقى من حياتهم، ووضعه فوق سقف شاحنة عجوز، تعرفت على الطرق أكثر من الجنود أنفسهم.
الرحيل لم يكن مجرد خطوة على الرمل، بل اقتلاع لذاكرة بأكملها، وموتٌ مؤجلٌ لوطن يعيش في التفاصيل: في قهوة الصباح، ورائحة الزعتر على الحصير، وفي صدى الماعز كل فجر.
غزو صامت
في ظل غياب قرارات رسمية أو أوامر مكتوبة، يُشرف المستوطنون، بحماية علنية من جيش الاحتلال، على تنفيذ خطة متكاملة لإفراغ منطقة عرب المليحات من سكانها. نحو 70 عائلة، يزيد عدد أفرادها عن 500، اضطرّت إلى تفكيك خيامها ومغادرة أرضها بعد تصاعد الهجمات، لتتفرق على مشارف مدينة أريحا.
الناشط الحقوقي حسن مليحات، المشرف العام على منظمة البيدر، قال لـ«عُمان»، إن ما يحدث «ليس مجرد مضايقات، بل مخطط ممنهج يستهدف اقتلاع السكان وطمس وجودهم من الخارطة».
وبيّن أن «العائلات هجّرت تحت الضغط، دون قرار من محكمة أو حتى إنذار، بل بسلاح المستوطنين وكاميراتهم التي توثق لحظة الانكسار».
أقام المستوطنون في الأيام الأخيرة بؤرة جديدة بمحاذاة منازل العرب المهجرين، لتُضاف إلى خمس بؤر استيطانية أُنشئت في منطقة المعرجات مؤخرًا، في تطور وصفه مراقبون بـ«الهجوم التدريجي الماكر»، الذي يجري بلا جرافات ولا إعلام، لكنه لا يقل فتكًا.
سياسة التجزئة
وفق بيان صادر عن منظمة البيدر، فإن الهدف من تلك البؤر لا يقف عند حدود السيطرة على المساحات، بل يمتد إلى قطع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها، وفرض أمر واقع يضع الفلسطينيين تحت طوق استيطاني محكم.
«إنها نكبة تدريجية تُنفّذ دون إعلان رسمي، تُمارس بأدوات الاحتلال وميليشياته، وتهدف إلى تفريغ المنطقة المصنفة (ج) من سكانها الفلسطينيين»، كما جاء في البيان. المنطقة «ج»، التي تشكل حوالي 60% من الضفة الغربية، تخضع للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية الكاملة، ما يجعل أي تحرك فلسطيني فيها عرضة للعنف أو التقييد.
وبينما يعاني الفلسطينيون من تقييد للبناء ومنع التوسع، فإن البؤر الاستيطانية تنمو كالفطر، بدعم من مؤسسات حكومية إسرائيلية أو تحت أنظارها، في تحدٍّ سافر لاتفاقيات أوسلو وكل قرارات الشرعية الدولية.
النكبة تتكرر
منذ بدء العدوان على غزة في 7 أكتوبر 2023، سُجل تهجير 32 تجمعًا بدويًا في الضفة الغربية، حسب توثيق رسمي لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان. وبلغ عدد العائلات التي أُجبرت على مغادرة مساكنها أكثر من 345 عائلة، بواقع آلاف الأفراد.
مدير عام التوثيق والنشر في الهيئة، أمير داود، قال إن «الوضع بات أقرب إلى ترحيل قسري منظم.. وما يحدث في المليحات جزء من سلسلة أوسع من جرائم التهجير التي يُراد لها أن تمرّ دون صوت».
وأكد أن الخطة تسير بخطى ثابتة نحو تهويد المناطق المفتوحة، وتغيير ديموغرافية الضفة الغربية لصالح مشروع استيطاني كبير يمتد من الغور إلى القدس.
صوت القهر
يقول محمود المليحات (52 عامًا): «كنت أُصلح سياج الزريبة حين جاءوا .. قالوا لنا بصوت ساخر: ارحلوا.. لا أحد سينقذكم. ضربوا الماعز، وخطفوا تنك المياه».
محمود، الذي وُلد في هذا المكان، لم يتركه حتى في عز الانتفاضة، لكنه اليوم ينام في العراء قرب ساحة مهجورة في أريحا.يتنهد طويلًا قبل أن يُكمل خلال حديثه لـ«عُمان»: «هذه الأرض هي عمر والدي وجدّي.. هنا كنت أزرع الشعير، وأحصد بيدي، وأذبح خروف العيد.. كل شيء كان بسيطًا لكنه حقيقي. اليوم أشعر كأن أحدًا اقتلع قلبي ورماه في وادٍ سحيق».
أما نسرين جمعة (32 عامًا)، وهي أم لأربعة أطفال، فتروي: «أطفالي صاروا يخافون من صوت الريح، يظنونها اقتحامًا جديدًا .. نحن هنا بلا كهرباء، ولا مدرسة، ولا أمان». وأشارت خلال حديثها لـ«عُمان» إلى أن اثنين من أطفالها يعانيان من اضطراب نفسي بعد مشاهد العنف التي تعرضوا لها.ثم تسكت قليلًا.
وتضيف: «كان ابني يصرخ ليلًا وهو نائم، يقول: «جاءوا.. جاءوا». لم أعد أستطيع تهدئته. حاولت أن أعود للحياة، لكن الحياة لا تعود حين يُزرع الخوف في قلبك وقلب أولادك».
ويؤكد الشاب عبد الله محمود (29 عامًا): «قبل شهر، كانت طائرات الاستطلاع تحوم ليلًا فوق الخيام.. بعدها بيومين جاء المستوطنون. أظن أن هناك تنسيقًا خفيًّا بين الجيش وهؤلاء المستوطنين، فهم يأتون دائمًا بعد الانسحاب العسكري بلحظات».يركض نظره نحو الخلاء، ثم يتابع خلال حديثه لـ«عُمان»: «أنا لم أهرب. أنا كنت أحلم أشتري قطعة أرض بجانب التلة، أبني عليها بيتًا من طين.. لكنهم قتلوا الحلم. أخرجونا بلا قتال، بلا حتى مقاومة... وكأننا مجرد رقم في دفتر تهويد».
معسكر الإرهاب
وعن ذلك، يقول مؤيد شعبان، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان: «ما جرى في عرب المليحات هو تنفيذ حرفي لمشروع تهويدي كبير، يبدأ بالتحرش، ويمر بالإرهاب، وينتهي بالرحيل الصامت».
وأكد خلال حديثه لـ«عُمان» أن المستعمرين المسلحين ينفذون الاعتداءات تحت حماية علنية من جيش الاحتلال، الذي لا يكتفي بالصمت بل يشارك أحيانًا في عمليات التخويف. ووصف شعبان ما يحدث بأنه «استراتيجية الاحتلال الجديدة التي تعتمد على الإكراه غير المباشر دون ورق أو توقيع».
تُشير أرقام الهيئة إلى أن الاحتلال نفذ أكثر من 5600 اعتداء مباشر ضد الفلسطينيين خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام، منها مهاجمة الأفراد، حرق المحاصيل، قتل الماشية، وسرقة الممتلكات، بالتوازي مع إقامة بؤر استيطانية جديدة.
ممرات مقطوعة
البؤر الاستيطانية التي أُنشئت في منطقة المعرجات مؤخرًا لا تُهدد فقط سكان المليحات، بل تهدف لقطع الطريق الحيوي الذي يربط شمال الضفة بجنوبها. وبهذا تُصبح أريحا معزولة عن رام الله، وتُحاصر المنطقة جغرافيًا، مما يُعطل حياة آلاف الفلسطينيين.
يقول خبير الخرائط جمال زيدان إن «ما يُخطط له حاليًا هو إقامة كتلة استيطانية تمتد من مستوطنة كوكب هشار إلى مفترق المعرجات، مع وصلها لاحقًا بمستوطنة معاليه إفرايم، ما يجعل الطريق الفلسطيني ضيقًا ومهددًا دائمًا».
ويضيف لـ«عُمان»: «هذا ليس فقط استعمار أرض، بل استعمار طريق وهواء وتنقل وعيش، وهي استراتيجية إسرائيلية متكاملة للسيطرة من دون إعلان رسمي للضم».
دعوات الحماية
منظمة البيدر طالبت في بيان عاجل بتدخل دولي حقيقي، لا يقتصر على الإدانة، بل يتعداه إلى فرض إجراءات رادعة بحق المستوطنين والحكومة الإسرائيلية. وجاء في البيان أن «المجتمع الدولي بات شريكًا في الجريمة بصمته، وسكوته يغذي ماكينة التطهير الصامتة».
وناشدت المنظمة مؤسسات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي باتخاذ خطوات فورية لضمان الحماية الإنسانية للعائلات المهددة بالترحيل.
وأشارت إلى أن بقاء سكان عرب المليحات في أرضهم هو امتحان للضمير العالمي: «إما أن تنتصر الإنسانية، أو يسود منطق الغابة».
نكبة بلا صراخ
التهجير الذي جرى في عرب المليحات لا يُشبه النكبات القديمة التي كانت تنقل عبر لقطات أرشيفية من عام 1948. إنه نكبة بلا صراخ، بلا جرافة، بلا تفجير، بل بخطوات محسوبة من التخويف والتضييق والسرقة والتهديد.
إن ما يجري اليوم في تلك المنطقة يطرح سؤالًا أخلاقيًا على العالم: هل بات التطهير العرقي ممكنًا بلا حرب؟ وهل يمكن للاحتلال أن ينتزع الأرض والهوية دون أن يُسمع له صوت؟
أهالي عرب المليحات لم يرحلوا لأنهم أرادوا الرحيل، بل لأن العالم كله صمت، فقرروا النجاة بأنفسهم من معركة خاسرة، تاركين وراءهم خيمة بلا قماش، ومرعى بلا راع، وسماء فقدت ظلها.
