تقرير: رغم خطورتها على الصحة .. الغزيون لا يزالون يسخدمون وسائل قديمة لطهي الطعام
كانت «أم ناصر» تنحني بجسدها المنهك فوق لهبٍ مرتجف، تحاول جاهدة أن تُبقي شعلة «بابور الجاز» مشتعلة رغم الريح، بينما تتعالى من صدرها نوبات سعال لا تنقطع. ترتجف أصابعها المتشققة وهي تمسك بغطاء القدر المعدني الذي يعلوه بعض العدس المتبقي منذ أيام، وقد راح يغلي فوق اللهب المكتوم.
دخان البابور
الخيمة التي تأويها على طرف شارع متصدع في النصيرات، تتوسط أكوامًا من الركام، وأكوامًا من النفايات. وبينما كان أطفالها يحدقون في القدر بعيون خاوية، راحت تسعل مجددًا بقوة حتى كادت تفقد توازنها، ثم تمسح فمها بطرف منديل مهترئ وتقول: «هذا الدخان يخنقني، لكن لا سبيل غيره. نريد أن نأكل فقط».
كل صباح، تخرج «أم ناصر» للبحث عن بعض الماء وتجمع بقايا الطعام، وفي المساء تشعل البابور أمام خيمتها كما كان يفعل والدها في خمسينيات القرن الماضي. تقرأ في مشهد اللهب الراقص ملحمةً من القهر المتجدد، وكأن الحياة في غزة لا تتقدم سوى إلى الوراء.
ورغم خطورة البابور، ورغم التحذيرات التي تصلها من الجيران بأن «السولار الصناعي» المستخدم فيه سام ومسبب للاختناق، ترد دائمًا بكلمات مقتضبة: «لن نموت جوعًا وننتظر موتًا آخر». ثم تعود لتقليب العدس على نارٍ من الماضي، تتصاعد منها الأبخرة والذكريات والآهات.
في إحدى نوبات السعال الطويلة، جلست أم ناصر على حجر صغير، وقالت هامسة خلال حديثها لـ«عُمان»: «منذ أن توقفت أنابيب الغاز، لم تطهُ هذه اليد شيئًا إلا على هذا الوحش... لكنه وحش لا نملك سواه».
اختناق الطهو
تحت وطأة الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ 7 أكتوبر 2023، تفاقمت الأزمات الإنسانية في قطاع غزة، وكان انعدام غاز الطهي من أبرز المآسي التي أرغمت السكان على العودة إلى أدوات بدائية نسيها الزمن، في مقدمتها «بوابير الجاز». هذه الأجهزة القديمة، التي كانت تزين بيوت الفلسطينيين في النكبة الأولى عام 1948، عادت لتكون أداة رئيسية في المعركة اليومية من أجل الطعام.
منذ الثاني من مارس 2025، أغلقت سلطات الاحتلال معبر كرم أبو سالم بشكلٍ كامل، ومنعت دخول الوقود والمساعدات الإنسانية، بما في ذلك غاز الطهي. وفي الوقت ذاته، ارتفعت أسعار الحطب بشكل جنوني، بعد أن دمرت الغارات الإسرائيلية معظم الأراضي الزراعية والمناطق الحرجية في القطاع.
وجد السكان أنفسهم أمام واقع قاسٍ: لا غاز، لا حطب، لا كهرباء. فكان لا بد من الحفر في ذاكرة الجدّات، لإخراج «بوابير الجاز» من زوايا النسيان، رغم ما تحمله من أخطار صحية وبيئية جسيمة.
ما يزيد الأمر خطورة أن السولار المستخدم اليوم في تلك البوابير ليس نقيًا كما كان في الماضي، بل هو وقود صناعي مكرر يُستخرج من حرق المواد البلاستيكية، ويطلق روائح خانقة ومواد سامة تهدد الجهاز التنفسي لكل من يقترب منها، خاصة الأطفال والمرضى وكبار السن.
في شوارع غزة، وعلى الأرصفة، وتحت الخيام، عاد الدخان الأسود ليتصاعد من رؤوس البوابير، شاهدًا على جوع يطبخ بالبؤس، واختناق يُقدّم كوجبة إجبارية يومية.
أنين السوق
في ورشته بسوق دير البلح، ينحني الصنايعي أحمد الكحلوت، ليصلح أحد البوابير القديمة. يقول: «الآن مع ظروف الحرب اضطررنا نرجع لبوابير الجاز، معاناة الناس زادت كثير عن الأول، لا يوجد غاز ولا حطب. لم يبقَ حطب أساسًا في غزة كلها. كل الحطب في غزة أحرقوا جيش الاحتلال مع القصف المتواصل».
بينما تتصاعد منه رائحة السولار المحترق، يضيف الكحلوت لـ«عُمان»: «الناس اضطرت لبوابير الجاز. هذه البوابير موجودة عند الفلسطينيين منذ أيام نكبة 48، في الهجرة الأولى. ومع التقدم العلمي، بعض الناس تخلصوا منها، والبعض الآخر احتفظ بها كتذكار أثري».
في السوق، يجتمع الناس حول طاولة معدنية مصدّأة، يضع الكحلوت عليها مفككًا معداته المتواضعة. يتوافد عليه النازحون، بعضهم يحملون بوابير متهالكة، وآخرون يشترونها بأسعار خيالية. يوضح: «في ظل الظروف التي فرضها الاحتلال على قطاع غزة، من حصار ومنع دخول المساعدات وبينها غاز الطهي، اضطرت الناس ترجع تصلح بوابير الجاز، نحاول التعديل فيه على قدر استطاعتنا».
يرتفع صوت المطرقة ويصطك الحديد بالحديد، وينفث الكباس لهيبه، بينما يهمس الكحلوت بكلمة تصف الواقع جيدًا: «بابور الجاز الآن صار مثل الذهب. سعر البابور يتراوح من 100 دولار إلى 200 دولار. من يملكه كأنما يملك سيارة فراري».
حين سألنا الحشد حول الطاولة: ألا تخافون من انفجاره؟ أجاب بنظرة حزينة: «نموت مرة واحدة، أما الجوع فيقتلنا كل ساعة».
عبث القِدر
«في البداية كنت أظنه شيئًا بسيطًا، لكني لم أكن أعرف أن طبخ العدس سيجعلني أختنق» تقول فاطمة الحلو، وهي تمسح على خد ابنها المصاب بالربو. «كل يوم ينهض على صوت سعالي، ويغفو على رائحة السولار».
فاطمة، وهي نازحة من حي الزيتون، تقيم الآن في مدرسة تحولت إلى مركز إيواء. حين توقف الغاز تمامًا، أخرجت من مستودع المدرسة بابورًا قديمًا، كان يستخدمه العمّال في السابق، وأصلحته بمساعدة الجيران.
تضيف لـ«عُمان»: «لم يكن أمامي إلا هذا الخيار، فأطفالي بحاجة إلى حساء أو بعض الأرز». وتتابع: «لكن البابور يصدر لهبًا غير مستقر، وصوتًا مخيفًا أحيانًا، أشعر أن انفجاره ممكن في أي لحظة».
في إحدى المرات، اشتعل البابور بالكامل، واحترقت حافة خيمتها. «صرخت، وركض الجميع، وأطفأناه ببطانية»، تقول وقد اغرورقت عيناها بالدموع، «لكن تخيل لو أن الحريق حدث ليلاً؟».
اليوم، تستمر فاطمة في استخدام البابور، رغم السعال المتزايد، والحروق الصغيرة التي تطال يديها من حين لآخر. تؤكد: «ما من خيار. الجوع أقسى من الخوف».
نار بلا أمان
أما إبراهيم مهدي، رجل خمسيني نازح من حي الشجاعية، فيقول: «كنا نحاول استبدال الغاز بالحطب، لكن الحطب مفقود. ذهبنا إلى بوابير الجاز، رغم أننا نعرف أنها خطرة».
في شارع فرعي مترب، جلس إبراهيم أمام بابوره، وحوله أبناؤه الثلاثة، وهم يشوون بعض الخبز فوق صينية معدنية. يروي لـ«عُمان»: «البارحة فقط، سقط البابور على الأرض، وكاد يحترق كل ما نملك».
يشير بيده إلى بقعة سوداء على الأرض قائلاً: «هذه آثار الحريق. السولار الصناعي سريع الاشتعال، ويُطلق دخانًا يملأ الخيمة. زوجتي لم تتوقف عن السعال منذ أسبوع».
يحاول إبراهيم أن يثبت دعامة للبابور حتى لا ينقلب مرة أخرى، ويقول: «كنا نضحك حين نتحدث عن البابور في القصص القديمة.. لكنه الآن جزء من يومنا المرير».
ثم يضيف بصوت غلب عليه الإعياء: «الحرب سلبتنا كل شيء.. والبابور يعيدنا إلى زمن لم نتخيل أننا سنعود إليه».
كارثة صحية
الدكتور وسام سكر، طبيب عام وعضو في منظمة أطباء بلا حدود، يوضح أن عودة السكان إلى استخدام بوابير الجاز تمثل خطرًا صحيًا جسيمًا، وخاصة على الأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي.
يقول الدكتور سكر: «السولار المستخدم في هذه البوابير مكرر بطريقة بدائية من النفايات البلاستيكية، ويطلق مزيجًا من الأبخرة السامة، مثل البنزين والميثان والفورمالدهيد، وهي مواد شديدة الضرر».
يتابع خلال حديثه لـ«عُمان»: «نستقبل يوميًا في قسم الطوارئ حالات اختناق، وأعراض حادة مثل تهيج الحلق والسعال المستمر وحساسية العيون، وكلها ناتجة عن التعرض للدخان الناتج عن هذه البوابير، ونيران الحطب».
ويردف الطبيب أن الأطفال هم الفئة الأكثر تضررًا: «الجهاز التنفسي لدى الأطفال أضعف، كما أن بعضهم ينامون قرب البابور مباشرة بسبب البرد، ما يزيد من استنشاقهم للغازات السامة».
ويلفت إلى وجود ارتفاع ملحوظ في حالات نوبات الربو، والتهاب القصبات الهوائية، ويقول: «هناك مؤشرات أولية أن التعرض المزمن لهذا النوع من الدخان قد يؤدي إلى أمراض مزمنة مستقبلًا».
ويختم بتحذير واضح: «استخدام هذه البوابير ضرورة قسرية للغزيين، لكن ثمنها على صحتهم باهظ، خاصة أننا لا نملك وسائل كافية للعلاج، في ظل تدمير أغلب المنشآت الطبية».
إرثٌ مؤلم
بوابير الجاز، التي ظنها الفلسطينيون إرثًا اندثر مع الزمن، عادت لتحكم يومياتهم بطقوس خانقة من دخان وقلق وخوف. هذه الآلة المعدنية، التي كانت تُستخدم في زمن الأجداد لطهي الكرامة في مخيمات اللجوء، عادت اليوم لتغلي فوقها مآسي الحصار والانقطاع والجوع.
في الأسواق، باتت تباع بأسعارٍ لا تُصدق، وفي الطرقات تصطف الناس لإصلاحها أو البحث عنها. باتت البوابير جزءًا من مشهد الحرب، ومكوّنًا أساسيًا من مطبخ الصمود، رغم ما تحمله من احتمالات انفجار، واختناق، وحرائق.
الغزيون لا يستخدمونها حبًا فيها، بل لأن كل الوسائل الحديثة انسحبت من حياتهم، وتركوا وحدهم في مواجهة البرد والجوع، بين خيم ممزقة، وأحلام محترقة، ولهيب لا يهدأ.
