العودة المؤجلة.. نازحو غزة بين الركام وهاجس تجدد الحرب
في خيمة مهترئة على أطراف خان يونس، تجلس الحاجة سعاد النجار (63 عامًا) تحدّق في الفراغ كأنها ترى بيتها البعيد بعيني القلب لا البصر. منذ أكثر من عام وهي تنام على بطانية رقيقة تفترش الرمال، تتذكر تفاصيل منزلها في حي الزيتون الذي تهدم في إحدى الغارات. تقول بصوت متعب: «بيتي كان بسيطًا لكنه كان جنتي، أسمع فيه ضحك أحفادي وأشم فيه رائحة القهوة». اليوم، لم يبقَ من ذلك البيت سوى صور محفورة في الذاكرة وركام يعجز القلب عن الاقتراب منه.
خائفون من العودة
تروي سعاد أن فكرة العودة إلى حيها تلاحقها كل يوم، لكنها ما إن تفكر في طريق العودة حتى يداهمها الخوف من أصوات الطائرات ومن تجدد القصف. «أخاف جدًا على أحفادي. بيتي قريب من الخط الأصفر، ومنطقة المواجهة. لو حصل أي خرق إسرائيلي، سنكون أول الضحايا»، تقول لـ«عُمان» وهي تضم حفيدتها الصغيرة إلى صدرها.
ورغم الخوف، لا تفقد المرأة الستينية تعلقها بالأرض. تكرر بلهجة صلبة تشبه الحنين: «أريد العودة حتى لو على الركام، أريد أرضي وحجارة بيتي. الأرض لا تُترك مهما اشتدت الحرب». لكن ما يمنعها اليوم هو شعورها أن الهدوء الراهن هشّ، وأن ما يسميه العالم «وقف إطلاق النار» ليس إلا هدنة تتنفس فيها غزة قليلًا قبل أن تعود إلى الجحيم.
وفي كل مساء، حين تغرب الشمس خلف الخيام، تتجمع العائلات حول النار لتبادل القصص عن بيوتهم المهدمة. هناك يدور النقاش ذاته: هل نعود؟ ومتى؟ بعضهم يرى أن الصبر في الخيام أهون من أن يموتوا تحت الأنقاض إن استؤنفت الغارات. بالنسبة لسعاد، «العودة حلم يساوي الحياة، لكن الحياة نفسها صارت معلقة على خيط من دخان».
هدنة قد تنكسر كالسابقة
بعد مرور شهرٍ كامل على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بدت مشاهد العودة محدودة وبطيئة. بعض العائلات قررت المغامرة والعودة إلى أحيائها رغم الخطر، فيما اختار الآلاف البقاء في مراكز الإيواء أو خيام الجنوب. فبالنسبة لهم، العودة إلى الركام تعني مواجهة الألم مرتين: مرة حين انهارت البيوت، ومرة حين يضطرون للعيش فوقها.
لم يكن هذا الخوف بلا سبب؛ ففي يناير 2025 وُقّع اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية بوساطة مصرية وقطرية بعد عامٍ دامٍ من الحرب، لكنه لم يصمد طويلًا. فبعد أسابيع قليلة، خرقت إسرائيل بنوده في مارس من العام نفسه عبر تنفيذ غارات محدودة على مناطق في شمال ووسط القطاع. تلك الحوادث تركت في نفوس الغزيين أثرًا عميقًا جعلهم ينظرون إلى كل هدنة باعتبارها فخًّا مؤقتًا، لا استقرارًا حقيقيًا.
الجميع يتذكر كيف انهارت الهدن السابقة فجأة، وكيف تحولت ساعات الأمل القليلة إلى كوابيس من النار. ومع استمرار تحليق الطائرات الإسرائيلية على ارتفاع منخفض حتى بعد الاتفاق الأخير، لا يشعر النازحون أن الحرب انتهت فعلاً، بل يصفون الوضع بأنه «استراحة من الدمار»، هدنة تتنفس فيها غزة قليلًا قبل أن تختنق مجددًا تحت الدخان.
حنين نازح
في مدرسة تابعة لوكالة الأونروا وسط دير البلح، يجلس فؤاد الهباش (61 عامًا) بين صفوف المقاعد الخشبية التي تحولت إلى أسِرّة لأسرته المكوّنة من عشرة أفراد. يقول وهو يحدّق في الجدار: «لدينا خاطر أن نعود إلى بيوتنا، كل الناس تريد العودة، لكن الخوف يمنعنا. نخاف أن ترجع الحرب ثانية. لا نعرف متى ستتوقف نهائيًا. نحن نعيش في غيبوبة».
يستعيد فؤاد الأيام الأولى للنزوح، حين اضطر إلى مغادرة منزله في بيت حانون تحت القصف. حمل بيده مفتاح الباب ظنًا أنه سيعود بعد أيام، لكنه اليوم لا يعرف إن كان الباب ما زال موجودًا أصلًا. يقول بحزن واضح «إسرائيل تتعمد تغييب وعينا، تريد أن نعتاد الخيام. حتى الأطفال صاروا لا يعرفون شكل البيت».
ويوضح أن كثيرين من أصدقائه الذين عادوا لتفقد بيوتهم في الشمال لم يعودوا بعد. بعضهم فقد حياته بسبب الألغام أو القصف المفاجئ، وآخرون لم يجدوا سوى تراب يغطي ما كان يومًا حديقة أو غرفة نوم. لذلك، يختار فؤاد الانتظار: «الرجوع إلى الركام ليس رجوعًا، بل انتحارًا».
خرائط النار
ورغم مرور شهر على اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، لم تهدأ خروقات إسرائيل في غزة. ففي الأيام الأولى بعد الهدنة، أعادت قوات الاحتلال انتشارها في 37 نقطة جديدة داخل القطاع. أكثر من ربع هذه النقاط كانت في شمال غزة، خاصة بيت لاهيا وبيت حانون، بينما تمركزت وحدات أخرى في قلب مدينة غزة وجنوبًا في رفح وخان يونس.
تقول تقارير محلية إن إسرائيل ارتكبت أكثر من 400 خرق منذ دخول الاتفاق حيّز التنفيذ في العاشر من أكتوبر الماضي. شملت هذه الخروقات قصفًا مدفعيًا وغارات جوية محدودة، إضافة إلى عمليات توغل ونسف لمنازل مدنية. وتؤكد وزارة الصحة في غزة أن هذه الانتهاكات أودت بحياة أكثر من 280 فلسطينيًا وأصابت نحو 600 آخرين حتى نهاية حتى كتابة هذه السطور، فيما وقعت 52 عملية استهداف مباشر للمدنيين و11 عملية نسف لمبانٍ سكنية.
النتيجة أن الهدوء في غزة اليوم هشّ ومخادع. فالسماء لا تزال تضج بأزيز الطائرات، والمواطنون يتعاملون مع كل ليلة على أنها ربما تكون الأخيرة قبل عودة الجحيم.
حلم مؤجل
في خيمة صغيرة قرب منطقة المواصي، يجلس محمود الزبدة (82 عامًا) على كرسي بلاستيكي مكسور، يراقب الأطفال يلعبون بالتراب. بصوت خافت يقول: «نخاف من العودة لبيوتنا، لأن الحرب سترجع ثانية. أنا متأكد أنها سترجع، لأنه لا يوجد أمان».
يحكي محمود أن بعض الجيران حاولوا مؤخرًا العودة إلى بيوتهم في الشمال، لكنهم قُتلوا برصاص القناصة أو انفجرت بهم قنابل لم تنفجر سابقًا. «الناس تذهب لتفقد بيوتها، فيضربونهم أو يقتلونهم. الأمور صعبة جدًا»، يضيف لـ«عُمان» وهو يمسح دمعة علقت بطرف عينه.
بالنسبة له، العودة أصبحت حلماً مؤجلاً إلى حين تثبت الأيام أن الهدنة حقيقية. لكنه لا يثق في ذلك كثيرًا. «من جرب النار لا يقترب منها ثانية»، يقول بتعبٍ واضح قبل أن يرفع رأسه نحو السماء كأنه يستجدي طمأنينة لن تأتي.
دمار وحصار
الدمار في قطاع غزة لم يترك شيئًا على حاله. أكثر من 90% من المباني والمنازل سويت بالأرض أو تضررت بشكل بالغ خلال عامي الحرب. البنية التحتية تحولت إلى أشباح: شوارع ممزقة، شبكات مياه وصرف صحي مدمرة، ومولدات كهرباء متهالكة.
وتعرقل سلطات الاحتلال دخول مواد البناء والمساعدات اللازمة لإعادة الإعمار، إذ تغلق المعابر بشكل متكرر، وتمنع مرور الشاحنات التي تحمل البيوت الجاهزة والمعدات الهندسية. حتى تلك المساعدات التي تسمح بدخولها تمرّ عبر تفتيشٍ دقيق يجعلها تصل بعد أسابيع أو تُصادر في الطريق.
بهذا الواقع، تبدو عودة النازحين إلى بيوتهم شبه مستحيلة. فالبيوت غير موجودة أصلًا، والمياه والكهرباء مقطوعة، والطعام شحيح، والملاجئ المؤقتة بالكاد تفي بالحاجات الإنسانية الأولية. لذلك يقول أحد العاملين في الإغاثة إن «العودة اليوم ليست خيارًا إنسانيًا، بل مجازفة بحياة العائدين».
«إلى أين أعود؟»
على مقربة من شاطئ منطقة المواصي، غربي قطاع غزة، يقطن عبد الكريم دحلان (74 عامًا) في خيمة من القماش الأزرق يثبتها بالحجارة كي لا تطير مع الريح. حين يُسأل عن العودة، يجيب بسرعة: «إلى أين أعود؟ بيتي مدمر بالكامل، لا يوجد حائط منتصب».
يقول لـ«عُمان» إن بيته في منطقة تل الهوى بمدينة غزة كان من طابقين، يعيش فيه مع أبنائه وأحفاده. اليوم لم يبقَ منه سوى الركام وبعض الأواني المعدنية التي استخرجها بنفسه من تحت الأنقاض. «لا عندي خيمة صالحة، ولا مأوى، ولا أموال أشتري بها أي شيء»، يضيف بصوتٍ يختنق.
ويتابع عبد الكريم: «لن أرجع، سأظل نازحًا. أضعف الإيمان أن أجد هنا في المواصي مياهًا للشرب أو كيس طحين أطعم به أحفادي. العودة لا تعني لي سوى مواجهة العجز أمام بيتي المهدوم». ثم يبتسم بمرارة: «حتى الركام لم يعد مكانًا آمناً».
