No Image
العرب والعالم

الديمقراطية والعدالة الدولية ومصيرهما المشترك

28 أغسطس 2025
28 أغسطس 2025

أُقيمَـت بنية العدالة الدولية ــ القواعد والمعايير والمؤسسات التي وجهت الجهود الرامية إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة ــ إلى حد كبير على افتراض مفاده أن العالم كان يتحرك نحو قدر أعظم من الاحترام للديمقراطية وحقوق الإنسان.

من المؤكد أن التقدم لم يكن في خط مستقيم: مع بعض خطوات جانبية وأخرى إلى الخلف. ولكن منذ محاكمات جرائم الحرب في نورمبرج وطوكيو، التي حاكمت جناة ألمان ويابانيين بعد الحرب العالمية الثانية، وإلى اعتماد نظام روما الأساسي في عام 1998، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، كان المسار العام يسير في اتجاه المساءلة. وعلى الرغم من عيوبها وجرائمها، ساعدت بعض أقدم وأقوى الديمقراطيات في العالم في قيادة الحملة من أجل العدالة في يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، وسيراليون. لكن الأحداث الأخيرة قَـلَـبَت هذه النزعة في الاتجاه المعاكس. ففي عدد كبير من الديمقراطيات، بما في ذلك الولايات المتحدة، وصل إلى السلطة قادة مستبدون يحتقرون حقوق الإنسان. وكان انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة في عام 2016، ثم إعادة انتخابه في عام 2024، مثيرا للقلق بشكل خاص. وبالفعل في ظل إدارة ترمب الثانية، ذهبت الولايات المتحدة ــ التي تشكل قيادتها لنظام العدالة الدولية ضرورة أساسية بقدر ما تتسم بعدم الاتساق ــ إلى حد فرض عقوبات على مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، واثنين من نواب المدعي العام، وستة من قضاتها.

الولايات المتحدة ليست الديمقراطية الوحيدة التي تخضع لضغوط من جانب قوى استبدادية تخشى أي شكل من أشكال المساءلة. وفقا لتقارير إخبارية، حتى قبل الحرب الدائرة في غزة حاليا، يُزعَـم أن مدير وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد آنذاك هدد المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية آنذاك، فاتو بنسودا، كجزء من حملة ضغط استمرت لسنوات لمنع التحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مزعومة في فلسطين. وفي عام 2019، انسحبت الفلبين من المحكمة الجنائية الدولية في أعقاب تحقيق المحكمة في حملة الرئيس رودريجو دوتيرتي على المخدرات. وفي وقت سابق من هذا العام، أعلنت المجر غير الليبرالية بفخر عن نيتها القيام بالمثل، بعد فترة وجيزة من رفضها تنفيذ مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.

العدالة الدولية ليست محل اهتمام للديمقراطيات فحسب بطبيعة الحال. فقد كان جوزيف ستالين أحد قادة الحلفاء الذين وافقوا على إنشاء المحكمة العسكرية الدولية التي انعقدت في نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية. وكما لاحظ روبرت جاكسون، قاضي المحكمة العليا الأميركية الذي شغل منصب المدعي العام الأميركي في نورمبرج، في بيانه الافتتاحي، فإن المحاكمة كانت "جزءا من الجهد العظيم لجعل السلام أكثر أمنا". على نحو مماثل، يعترف نظام روما الأساسي، الذي يضم بين الموقعين عليه حكومات من مختلف المشارِب والأطياف، بأن "الجرائم الوحشية تهدد السلام، والأمن، ورفاهة العالم". وحتى برغم ذلك، يتسبب التحول العالمي نحو الاستبداد في جعل العالم مكانا أقل ترحيبا بالقضاة والمحامين المستقلين الذين يحاولون تحقيق العدالة لصالح ضحايا الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والعدوان.

عندما يسعى رؤساء دول منتخبون إلى توسيع نطاق سلطاتهم خارج الحدود التقليدية، وعندما تعزل حكومات قيادات نقابات المحامين وتوجه إليهم اتهامات جنائية، وعندما يُـهدَّد قضاة في محاكم وطنية بسبب عملهم كحصن ضد تجاوزات السلطة التنفيذية، فإن سيادة القانون تعاني ــ على حساب الجميع.

السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان المشروع الرامي إلى محاسبة الجناة من ذوي المستوى الرفيع ليصمد على الإطلاق. في خضم التحديات وخيبة الرجاء، أجد الأمل في عديد من مظاهر الشجاعة، والمقاومة، والإيمان بالقانون كأداة لمقاومة غطرسة السلطة. الواقع أن مثل هذا التقدم مُـعـدٍ: فتعزيز سيادة القانون في أي مكان يجعل ثقافة سيادة القانون في حكم الممكن في كل مكان.

ما علينا إلا أن ننظر إلى القضاة الذين دافعوا في السنوات الأخيرة عن نزاهة الانتخابات الديمقراطية في السنغال، والهند، والبرازيل وبلدان أخرى ــ مع تعريض أنفسهم لمخاطر جسيمة في كثير من الأحيان. أو لننظر إلى المحاكم الأميركية التي رفضت المحاولات غير القانونية لمعاقبة مكاتب المحاماة بسبب الوكلاء الذين تمثلهم، وطلاب الجامعات بسبب ما يقولون. على المستوى العالمي، أخذت محكمة العدل الدولية زمام المبادرة بشجاعة في تسليط الضوء على الجرائم الوحشية في ميانمار، وسوريا، وغزة. وعلى مدار العام الماضي، أكدت الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية، والمحكمة الدولية لقانون البحار، ومحكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان أن الدول ملزمة قانونا بالتصدي لتغير المناخ.

على الرغم من عدم التطابق بين النضال الحالي من أجل العدالة الدولية والنضال من أجل الديمقراطية، فإن الجهدين مترابطان. وبرغم أن الأمل وحده لا يكفي للانتصار في أي من الكفاحين، فإنه يشكل ضرورة أساسية ــ لضحايا الجرائم الوحشية، وكل أولئك الذين يخشون أن يكون تعبيرهم القادم عن المعارضة هو الأخير. في أجواء من الخوف المتفشي، يشكل كل قرار بالتوقيع على رسالة، أو الانضمام إلى احتجاج سلمي، أو التقدم بشكوى قانونية ضد إجراءات استبدادية، خطوة نحو العدالة.

•جيمس أ. جولدستون المدير التنفيذي لمبادرة العدالة في المجتمع المفتوح وأستاذ مساعد في كلية الحقوق بجامعة نيويورك، هو المدعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام الفيدرالي السابق في نيويورك.

** هذا التعليق مقتبس من خطاب قبول جيمس أ. جولدستون لجائزة جوشوا ه. هاينتز للإنجاز الإنساني لعام 2025.

Image