No Image
العرب والعالم

الحرب على الغذاء: تدمير الزراعة في غزة كأداة للتجويع والنزوح القسري

02 نوفمبر 2025
02 نوفمبر 2025

غزة «عمان» د. حكمت المصري:

في غزة لا تقتصر الحرب على البشر. إنها حرب على الأرض، على جذور الحياة نفسها. تُقتل الحقول كما تُقصف البيوت، وتجفّ مياه الآبار كما تجفّ دموع المزارعين. ما يجري ليس فقط دمارًا بيئيًا، بل سياسة ممنهجة تستهدف الأمن الغذائي الفلسطيني وتحاول كسر إرادة البقاء عبر التجويع.

في شمال قطاع غزة، كانت بيت لاهيا تُعرف بـ"أرض الذهب الأحمر" لشهرتها بزراعة الفراولة التي كانت تُصدَّر إلى أوروبا والعالم. بجانبها كانت بيت حانون تفيض ببساتين الحمضيات واللوز والزيتون، بينما تمتدّ الحقول الخضراء حتى البحر.

اليوم تحوّلت هذه المساحات إلى أراضٍ رمادية، تُغطّيها طبقات من الرماد والغبار والركام، بعد أن كانت تمثّل السلة الغذائية للقطاع.

على أطراف بيت لاهيا الشرقية، يقف المزارع صابر العطار (49 عامًا) بين ما تبقّى من ركام دفيئاته الزراعية، يحدّق في الأرض المحروقة ويقول: "كانت أرضي خضراء، أعمل فيها ليلًا ونهارًا مع مجموعة من العمال، لم يبقَ فيها شيء أخضر، حتى التربة تغيّرت رائحتها، كأنها احترقت من الداخل".

أشار بيده النحيلة إلى تلال من الرمال كانت قبل أشهر مزارع للفراولة: "كنت أزرع أكثر من عشرين دونمًا من الفراولة، كنا نسميها الذهب الأحمر، نصدرها إلى أوروبا، ولا تنمو إلا في تربة بيت لاهيا بسبب الماء العذب، كل شيء ضاع، لا أستطيع تحمّل ما حدث من خراب ودمار". بينما يتحدث، تمرّ طائرات استطلاع صغيرة فوق رأسه، فينظر إليها بلا خوف، ما يخشاه الآن ليس الموت، بل أن تذبل ذاكرة الأرض، "أطفالي يسألونني: متى نزرع من جديد؟ أقول لهم: حين تصبح السماء بلا طائرات".

في مواصي خان يونس، يجلس الحاج يوسف أبو عودة (56 عامًا) داخل خيمة مهترئة بعدما دُمّرت أرضه المزروعة بالبرتقال والزيتون واللوزيات، يحمل هاتفه ويقلب صوره القديمة قائلًا: "كانت أرضي كل حياتي، واليوم صارت خاوية على عروشها، لا أستطيع الوصول إليها لأنها أصبحت ضمن المناطق الصفراء التي يمنع الاحتلال دخولها، هذه الأرض علمت أبنائي الذين أصبحوا معلمين ومهندسين، الآن صارت مقبرة، كل من يصل إليها يتم استهدافه من قبل آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة على بعد أمتار منها". يمسك حفنة من تراب الأرض التي لم يعد إليها ويهمس: "أشعر أنني فقدت جزءًا مني، هذه الأرض لم تكن ملكًا فقط، كانت ذاكرة العائلة، قام أبي بشرائها بعد أن رفض مغادرة فلسطين عام النكبة، أعيش الآن في خيمة وكأن التاريخ يعيد مأساة أبي وجدي عام 1948م".

من شمال بيت لاهيا، أحمد فلفل (67 عامًا) وهو عضو مجلس إدارة جمعية بيت لاهيا التعاونية الزراعية فيتحدث بمرارة عن المشهد: "كنا نزرع آلاف الدونمات من الفراولة كل موسم، كان المزارعون يتلقّون تدريبات من وزارة الزراعة لتطوير قدراتهم، اليوم دُمّرت الأراضي والدفيئات بالكامل، بعد أن مارس الاحتلال الإسرائيلي سياسة الأرض المحروقة لتجويع السكان وإرغامهم على النزوح القسري". يضيف: "الاحتلال الإسرائيلي لم يدمّر فقط التربة والآبار، بل دمّر علاقة المزارع بأرضه. جعل من الفلاح الذي كان يزرع للحياة إنسانًا ينتظر المساعدات". يقول المهندس الزراعي أسامة المدهون من الاتحاد العام للإغاثة الزراعية إن ما يحدث هو تدمير للبنية التحتية الزراعية بالكامل، موضحًا: "تدمير المزارع ليس ضررًا آنيًا فقط، بل ضربة تمتد لسنوات، حتى لو توقفت الحرب اليوم، ستحتاج الأراضي إلى سنوات لتتعافى". ويشير إلى أن غزة كانت تُصدّر يوميًا أكثر من 40 شاحنة من الخضروات (الطماطم، والخيار، والبطاطس، والقرنبيط، والبطاطا، والفراولة). اليوم توقّف هذا المشهد تمامًا، وارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، إذ قفز سعر كيلو البصل من دولار واحد قبل الحرب إلى نحو 11 دولارًا أمريكيًا.

وفقًا لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن الحرب قد تسببت في تدمير أكثر من 94% من الأراضي الزراعية في القطاع بالإضافة إلى انخفاض الإنتاج الزراعي من 405 آلاف طن سنويًا إلى 28 ألف طن فقط.

كما تقدَّر الخسائر بـ2.8 مليار دولار خلال عامي الحرب، فيما تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بالخضروات من 93 ألف دونم إلى 4 آلاف فقط.

لم يقتصر الأمر على ذلك بل تزامن تدمير الأراضي الزراعية مع تدمير نحو 1,233 بئرًا زراعية و85% من الدفيئات الزراعية.

هذه الأرقام لا تصف فقط دمارًا اقتصاديًا، بل انهيارًا في قدرة المجتمع على البقاء، فالاحتلال بحسب منظمات حقوقية وإنسانية يستخدم الغذاء كسلاح في الحرب، في خرق واضح لاتفاقيات جنيف التي تجرّم استهداف مصادر المعيشة للسكان المدنيين.

يرى مختصون أن هذا النمط من التدمير المتكرر ليس عشوائيًا، بل جزء من استراتيجية تهدف إلى اقتلاع الناس من أرضهم، فحين تُدمَّر المزارع، يُدفع المزارعون إلى الاعتماد على المساعدات أو مغادرة أراضيهم بحثًا عن البقاء.

يقول المدهون: "غزة اليوم تواجه حربًا على رزقها أكثر مما تواجه حربًا على حدودها. الاحتلال يريدها بلا أرض، بلا زراعة، وبلا جذور، كان الاحتلال الإسرائيلي وما زال يرسخ مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض "في غزة، لا تزال الأرض تُحارب، لكنها لم تُهزم بعد، وبين الرماد يزرع الفلاحون ما تبقّى من الأمل، يروون ترابهم بالدموع لا بالماء، ويرددون أن الأرض التي تعلّمت أن تنبت تحت القصف، ستنبت من جديد.

لأنه في غزة، حتى الجوع لا يُطفئ الحلم، وحين تُدمَّر الزراعة، يبقى الفلاح يزرع بذاكرته ما لا يستطيع زرعه بيديه.