التحالفات تحت الاختبار.. الخليج بعد صواريخ يونيو وغارة سبتمبر
تحليل: عاصم الشيدي
جلس قادة دول مجلس التعاون الخليجي مطلع ديسمبر الجاري في قصر الصخير بمملكة البحرين أمام سؤال لم يعتد الخليجيون على قوله بصيغته المباشرة: هل ما نملكه من أمن هو نتيجة ترتيبات ثابتة، أم أنه حصيلة مؤقتة لتوازنات قابلة للانقلاب؟ لم تكن القمة التي حور فيها السؤال عادية؛ فقد حاولت أن تلخص مسار عام بدا فيه الخليج أقرب، من أي وقت مضى، إلى خطر النار، حتى لو حاول البعض أن يرى نفسه بعيدا عنها.
دخل الخليج عام 2025 وهو يراهن على «التهدئة الممكنة» ليس في سياقها العاطفي ولكن في حسابات السياسة والاقتصاد. كانت المنطقة تشتعل بحرب غزة وتداعياتها، وكانت دول الخليج تحاول حصر الخسائر في نطاقها الأبعد المتمثل في حماية تدفق الطاقة، وسلامة الممرات البحرية، واستمرار دورة الاستثمار والسياحة والمشاريع الكبرى. بدا أن الحكمة التقليدية -خفض التوتر مع إيران، وتلطيف الاحتكاك، وتجنب الانجرار إلى صراعات مباشرة- هي القاعدة الأكثر عقلانية، غير أن هذا الهدوء لم يكن سلاما على الإطلاق.. كان هدنة واسعة بلا ضمانات؛ لأن شروط منع التصعيد لم تكن مكتملة فلم تكن هناك قواعد واضحة لمنع الاشتباك، ولا قنوات طوارئ كافية، ولم يكن هناك أي توافق إقليمي صلب حول «الخط الأحمر» الذي إذا تم تجاوزه يتحول الخليج إلى ساحة وليس مجرد ساحة مجاورة.
غارة الدوحة:
كسر تابو العواصم الآمنة
ثم جاء سبتمبر ليضيف طبقة مختلفة من القلق، لا تقل خطورة عن صواريخ يونيو، لكنها أشد إحراجا لمنطق الأمن الخليجي. ففي 9 سبتمبر 2025 وقعت غارة جوية إسرائيلية داخل الدوحة استهدفت مواقع مرتبطة بوفد من قيادة حماس الموجود في قطر ضمن مسار الوساطة. لم يعد الخليج هنا يواجه احتمال «ارتدادات حرب» بين خصومه التقليديين، بل واجه كسرا صريحا لفكرة أن العواصم الخليجية خارج نطاق «الضربات العابرة للحدود» حين تتعلق الحرب بغزة. الضربة، بغضّ النظر عن تفاصيلها الميدانية، نقلت التهديد من خانة الضغط السياسي والإعلامي إلى خانة اختراق السيادة، وأرسلت رسالة قاسية بأن دور الوسيط نفسه قد يتحول إلى مخاطرة أمنية.
لم تحمل الغارة دلالة أمنية فقط؛ ولكنها حملت دلالة سياسية كبيرة. فهي أعادت ترتيب المشهد في ثلاثة اتجاهات متزامنة: أولا، جعلت «إسرائيل» عاملا مباشرا في خريطة التهديدات الخليجية بعدما كانت تُقرأ غالبا كعامل بعيد يُدار عبر السياسة لا عبر الإنذار الجوي. ثانيا، وضعت العلاقة مع الولايات المتحدة تحت مجهر جديد؛ إذا كانت واشنطن شريكا أمنيا أساسيا، فإن قدرتها على ضبط سلوك حليفها الإسرائيلي، أو منع انتقال الصراع إلى داخل الخليج، لم تعد مضمونة في عين القرار الخليجي. ثالثا، فتحت أسئلة حساسة حول مستقبل مسارات التطبيع والتفاهمات: أي اقتراب سياسي يفقد معناه إذا كان لا يحمي سيادة العواصم ولا يمنع تحويل الوساطة إلى ساحة استهداف.
البحر الأحمر: الممرات تصنع التحالفات
في هذا المشهد الذي يصفه البعض بالفراغ، تحول البحر الأحمر إلى قضية سياسية يومية. وتحول أمن الخليج من أمن حدود إلى أمن ممرات مائية وما يعبر فيها، ويؤثر في أسعار التأمين ومزاج المستثمرين. وبلغت في عام 2025 أزمة البحر الأحمر ذروتها وتجاوزت المخاوف التقليدية حول سيناريوهات إغلاق مضيق هرمز. وعندما نجحت سلطنة عُمان في وساطتها بين الولايات المتحدة الأمريكية وأنصار الله «الحوثيين» في اليمن لوقف إطلاق النار في البحر الأحمر تلقّت العواصم الخليجية الخبر بوصفه مكسبا مزدوجا تجاوز مكاسب غيرها من دول العالم. فقد رأت الدول الخليجية في الاتفاق تهدئة مباشرة مع طرف يهدد الملاحة ويملك أدواته، وإشارة إلى أن واشنطن نفسها تبحث عن سقف للتصعيد ولا تبحث عن حرب مفتوحة. لكن دول الخليج خرجت من هذه المحنة بفهم جديد لكنه قاس بعض الشيء وهو أن الممرات البحرية لم تعد فكرة أمن بحري بقدر ما هي مسألة تحالفات كبرى. وكل اضطراب في البحر يطرح سؤالين معا: من يضمن؟ وبأي كلفة؟ وهل الضمان العسكري يزيد الردع أم يستدعي ردا يوسع دائرة النار؟
كانت هذه التوترات البحرية هي الخلفية التي جعلت يونيو شهر الانعطاف الأكبر. الحرب القصيرة بين إيران وإسرائيل -والتي ستُعرف لاحقا بوصفها حرب الأيام الاثني عشر- لم تُقرأ في الدوائر السياسية الخليجية ومراكز صناعة القرار من زاوية اشتباك بين خصمين بعيدين. لقد قُرئت بوصفها اختبارا لأكثر فرضيات الأمن حساسية وهي: هل تستطيع دول الخليج، بما تملكه من قواعد أمريكية وبنية طاقة ومطارات ومنشآت استراتيجية، أن تبقى خارج نطاق الاستهداف حين تتصاعد مواجهة إقليمية كبرى؟ حاول الخليج، في أيام الحرب الأولى، أن يحافظ على مسافة سياسية؛ فدعا للتهدئة وضغط دبلوماسيا وتجنّب أي لغة قد تُفهم بوصفها اصطفافا حادا وحاسما.
صواريخ عديدة ومخاطرة جديدة
لكن السياسة لا تملك وحدها الحماية حينما تبدأ لغة الصواريخ. تحول الاحتمال إلى واقع في الثالث والعشرين من يونيو، عندما استهدفت إيران قاعدة العديد في دولة قطر الشقيقة. لم تقع خسائر بشرية معلنة، واعترضت قطر أغلب الصواريخ، وأرسلت طهران إشارات بأنها لا تريد توسيع الحرب، حتى وهي تردّ! التقط الخليج رسائل سياسية بعيدة عن الجانب التقني المتعلق بالاعتراض والنتائج والأضرار. كانت الرسائل السياسية تتعلق بالحدود الجديدة للمخاطرة! إذا كانت القواعد الأمريكية على أرض الخليج ضمن قائمة الاستهداف الممكن، فهذا يعني أن الخليج صار داخل مسرح الردود، وليس فقط على هامشه كما ساد الاعتقاد خلال العقود الماضية؟!
المظلة الأمريكية: تحالف بشروط
بدأ هنا التفكير في تحول أكثر عمقا في أطروحة الخليجي فيما يتعلق بالتحالفات، دون أن يعني ذلك أن التحالف مع الولايات المتحدة انتهى أو تراجع جذريا، ولكن لأن صورته الذهنية تغيرت تماما. لسنوات كان الأمن الخليجي يقوم على معادلة بسيطة مفادها أن واشنطن هي الضامن، والقواعد هي عنصر الردع الأكبر. لكن عام 2025 كشف أن الضمان لا يمنع دائمًا وصول الرد إلى سماء الخليج، وأن القواعد التي تُفترض أن تُبعد الحرب قد تجعلها أقرب في لحظة التصعيد. وهذا لا ينتج بالضرورة نزعة قطيعة مع واشنطن، بل ينتج نزعة «تحالف بشروط»: نحتاج المظلة، لكننا نريد ألا يتحول وجودها إلى سبب لجرّنا إلى الردود. نحتاج السلاح، لكننا نريد نظاما إقليميا يقلل فرص الانزلاق إلى مواجهة شاملة. نحتاج الردع، لكننا نحتاج أيضا إدارة المخاطر حتى لا يتحول الردع إلى فتيل.
الدفاع الخليجي:
من ملف تقني إلى قرار سياسي
في هذا السياق، صار الحديث عن الدفاع الخليجي المشترك أقل رمزية وأكثر إلحاحا. لا تبدو الفكرة جديدة على الإطلاق، لكنها كانت تُدار غالبا بوصفها مشروعا مؤجلا أو ملفا تقنيا يحتاج العمل عليه لسنوات طويلة. بعد يونيو، أصبحت منظومات الدفاع الجوي والصاروخي والإنذار المبكر مادة سياسة عليا؛ لأن غياب التكامل يترك كل دولة تواجه الخطر وحدها. ولأن الخطر واحد في الغالب، فإن الانقسام في الدفاع يجعل الردع متقطعا، ويجعل حسابات الخصوم أسهل. لذلك ظهرت في خطاب القمم ولغة البيانات نبرة مختلفة: الأمن «غير قابل للتجزئة»، والاعتداء على دولة هو اعتداء على المنظومة. ثم جاءت الدورة الاستثنائية لمجلس التعاون في منتصف سبتمبر، عقب الغارة الإسرائيلية على الدوحة، لتثبت المعنى ذاته ولكن بوضوح أكبر.. ما حدث لا يقرأ في السياق القطري فقطن إنه اختبار لسلامة مجلس التعاون الخليجي، ولحدود الردع، ولقدرة المجلس على حماية سيادة إحدى عواصمه من منطق الضربات المباشرة.
اقتصاد الأمن: كلفة الخطر قبل وقوعه
لم يكن التحول الأمني منفصلا عن الاقتصاد. ربما يملك الخليج القدرة المالية على امتصاص الصدمات، لكن 2025 أظهر أن «التنويع» جعل الاقتصادات الخليجية أكثر حساسية للممرات لا أقل حساسية. لا تعمل الموانئ والمناطق اللوجستية والسياحة وسلاسل الإمداد في ظل حالة قلق دائم حول التأمين والشحن والوقت. حتى عندما ترتفع أسعار الطاقة في لحظات التصعيد، فإن العائد لا يلغي الكلفة الخفية، كلفة المخاطر على الاستثمار، وكلفة التذبذب على التخطيط، وكلفة تحويل الأمن إلى بند مفتوح في الموازنات. من هنا بدت مفارقة العام: الإنفاق الدفاعي قد يرتفع، لكن الشعور بالأمان قد لا يرتفع معه بالضرورة. لأن الأمن في 2025 لم يعد مسألة عتاد فقط، كان مسألة قدرة على منع «الحدث المفاجئ» الذي يقلب يوميات الاقتصاد رأسا على عقب.
ومع ذلك، لم يكن الخليج عاجزا عن إنتاج لحظات تهدئة. فقد أظهرت الوساطة العُمانية ـ في سياق البحر الأحمر ـ أن الدبلوماسية لا تزال قادرة على إغلاق نوافذ التصعيد. والدبلوماسية الخليجية عمومًا بدت في 2025 أكثر اهتمامًا بترسيم خطوط تهدئة تحمي الداخل الاقتصادي من ارتدادات الخارج. لكنّ الذي ظهر أيضا أن التهدئة لا تستطيع العيش طويلا إذا لم تُدعَّم بأدوات منع سوء التقدير، وإذا لم تتحول إلى بنية اتصال دائم بين الخصوم. حرب يونيو انتهت بسرعة، لكن نهايتها لم تكن سلاما، كانت توقفا هشا. وهذا يعني أن الخليج خرج من العام وهو يدرك أن الأزمة قد تعود من الباب نفسه إذا تكررت لحظة قرار خاطئ، أو عملية بحرية كبيرة، أو تصعيد خارج الحسابات.
على هذه الخلفية، تتضح الإجابة عن السؤال المركزي: ما الذي أعاد التفكير في تحالفات الخليج وأمنه؟ الحدث المفصلي كان انتقال الحرب ـ ولو للحظة ـ إلى داخل مجال الخليج الجوي عبر استهداف قاعدة أمريكية رئيسية. قبل ذلك كان الخليج يستطيع أن يتعامل مع التوتر الإقليمي بوصفه ضغطا محيطا، يرفع كلفة التأمين ويستدعي تصريحات سياسية ووساطات. بعد ذلك صار عليه أن يتعامل مع التوتر بوصفه احتمالا ماديا مباشرا يتجسد في صواريخ تملأ السماء، وإغلاق كامل للمجال الجوي، وقلق شعبي حقيقي حول آليات الحماية وحدودها. والحدث الثاني الذي عزّز التحول كان استمرار هشاشة الممرات البحرية، لأن البحر الأحمر والبوابات المؤدية إلى الخليج أثبتت أن الاقتصاد يمكن أن يتأذى حتى قبل أن تتأذى الحدود.
هل كان الخليج في مطلع 2025 هو نفسه في نهايته؟ ليس تماما. مطلع العام كان خليجا يراهن على أن التهدئة تُبقي النار خارج البيت. وفي نهاية العام كان خليجا يدرك أن البيت نفسه قد تهزه شظايا النار، وأن التهدئة تحتاج جدارا دفاعيا موحدا، كما تحتاج إدارة سياسية دقيقة للعلاقة مع واشنطن ومع إيران ومع بقية القوى الصاعدة. لم يتخل الخليج عن التحالف الأمريكي، لكنه أعاد تحديد معناه.. لم يعد «ضمانا مطلقا»، بل «رافعة» ضمن سلة أوسع من الخيارات والاحتياطات. ولم يندفع الخليج إلى مواجهة مع إيران، لكنه صار أكثر إصرارا على أن خفض التوتر لا يعني ترك السماء بلا شبكة، ولا ترك البحر بلا ترتيبات.
يمكن تلخيص عام 2025 بجملة واحدة أنه جعل أمن الخليج أمن ممرات بقدر ما هو أمن حدود، وجعل التحالفات أدوات وظيفية بقدر ما هي خيارات استراتيجية طويلة الأمد.
ثلاثة مسارات للعام الجديد
ومع الانتقال إلى 2026، يمكن رسم ثلاثة مسارات على ضوء ما استقر في 2025. المسار المرجّح هو «تهدئة مسلّحة» تستمر فيها قنوات خفض التصعيد مع تطوير حقيقي لآليات الإنذار المبكر والدفاع الجوي والتنسيق الاستخباري، مع محاولات لاحتواء البحر الأحمر ومنع عودته إلى منصة اشتعال طويلة. المسار الممكن هو «تنويع الشراكات» عبر توسيع التعاون التقني والعسكري والاقتصادي مع أطراف متعددة ـ من دون فك الارتباط بواشنطن ـ لتحويل الأمن إلى شبكة لا إلى عمود واحد، ولتقليل أثر قرار مفاجئ من طرف واحد على أمن الجميع. أما المسار الخطِر فهو «عودة الاشتعال عبر حادث واحد» من خلال هجوم بحري كبير، أو ضربة متبادلة تتجاوز حسابات الردع، أو سوء تقدير يعيد الصواريخ إلى سماء الخليج ويضع الممرات تحت ضغط مضاعف، فتدخل المنطقة في دورة تصعيد أسرع من قدرة الدبلوماسية على الإمساك بها.
في النهاية، لا يكشف حصاد 2025 عن تغير الخرائط بقدر ما يكشف عن تغير قواعد النظر إلى الخريطة. لم يعد الخليج يستطيع أن يختصر أمنه في اتفاقيات دفاع ووجود قواعد، ولا أن يختصر استقراره في بيانات تهدئة. ما حدث في العام أعاد تعريف السؤال من جذوره: كيف تحمي اقتصادا يريد أن يعيش في زمن تقلبات كبرى؟ وكيف تبني تحالفات تردع من دون أن تستدعي الرد؟ وكيف تجعل أمنك «مشتركا» بالفعل لا بالبيانات؟ هذه أسئلة نهاية 2025. وسيكون الجواب عنها، على الأرجح، هو الذي سيحدد شكل الخليج في نهاية 2026.
• عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان
