"خير النساء البلوشية" أول محكمة عمانية في الإبحار الشراعي لـ«عُمان»: التحكيم هو تطبيق للقوانين واستحضار للقيم الإنسانية والأخلاقية
حاورها - عامر بن عبدالله الأنصاري -
كشفت بطولة العالم للإبحار الشراعي للأشخاص ذوي الإعاقة، التي استضافتها سلطنة عُمان خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 8 ديسمبر 2025 في مدرسة المصنعة للإبحار الشراعي، عن العديد من القصص الفريدة التي تستحق تسليط الضوء عليها. ومن تلك القصص التي نسطر حكايتها اليوم قصة تعود لصاحبتها "خير النساء البلوشية"، إذ تُعد أول محكمة عمانية في مجال رياضة الإبحار الشراعي، وشاركت في تحكيم البطولة آنفة الذكر إلى جانب أسماء عمانية أخرى وأسماء أجنبية تمتلك خبرة طويلة في مجال التحكيم.
تستحق "خير النساء" أن تُسمى بأول محكمة عمانية في مجال رياضات الإبحار الشراعي، لكن ما وصلت إليه لم يكن مخططًا له سابقًا، إنما جاء نتيجة خوض تجربة. تقول: "لم أكن أتوقع يومًا أن أخوض هذه التجربة، لكن التحاقي بدورة تدريبية بدافع الفضول فقط أدخلني إلى هذا المجال، ومع الوقت أحببت هذا الدور، وأصبحت أرغب في الاستمرار فيه وتحقيق هذه الشهادة، لقد أضافت لي الكثير من النجاح والتميّز، وأشعر بأنني سأكمل هذا المشوار، وسنرى ما الذي يمكننا تحقيقه لاحقًا".
قصة بداية التألق
بدأ ارتباط البلوشية بالرياضات البحرية قبل أن تكون محكمة، إذ كانت لاعبة في الإبحار الشراعي، وكانت بطبيعة الحال تستوقفها قرارات لجان التحكيم، وهذا الأمر أثار فيها الفضول حول كيفية رؤية لجان التحكيم للمسابقات وآلية التقييم. وحول ذلك أوضحت: "كنت دائمًا أتابع الحكّام وأسلوب تعاملهم مع المتسابقين خلال البطولات المختلفة داخل سلطنة عُمان وخارجها، وكنت أطلب أكثر من مرة الجلوس معهم بهدف التعلّم فقط، إلا أن ذلك كان يُقابل بالرفض باعتباره مخالفًا لقوانين التحكيم في الإبحار الشراعي. وخلال بطولة العالم التي أُقيمت مؤخرًا، تقدّمت بطلب إلى مديري لمنحي فرصة لتطبيق ما تعلّمته في الدورة حتى لا أنسى المعلومات، وقد وافق على ذلك، وكانت هذه بدايتي وأولى تجاربي في هذا المجال".
تدريب عملي ونظري
تتعدد الرياضات البحرية والبطولات فيها، إلا أن خير النساء تحكم في مجال الإبحار الشراعي فقط، مع تعدد فئاته ومجالاته، فهو المجال الذي تلقت فيه التدريب العملي والنظري، وما يميز هذا المجال بالنسبة لها هو أن التحكيم لا يعتمد على متابعة السباق فقط، بل يتطلب فهم اتجاه الرياح، حركة القوارب، واتخاذ القرار في الوقت المناسب وفق القوانين.
ومن خلال متابعتها لرياضة الإبحار الشراعي وتعدد فئات القوارب المخصصة للفئات العمرية أو لذوي الإعاقة، وجدت أن الاختلاف الأساسي يكون في طريقة المنافسة ونظام التحكيم. فالإبحار الشراعي يعتمد بشكل كبير على التكتيك والالتزام بالمسار، بينما رياضات أخرى تركز أكثر على السرعة أو الأداء الفردي، ولكل رياضة قوانينها الخاصة.
وكان لخير النساء البلوشية حضور لافت ومؤثر في نتائج بطولة العالم للإبحار الشراعي للأشخاص ذوي الإعاقة، فهي واحدة من المحكمين وصاحبة الصوت المؤثر في القرارات. وكانت تجربتها الأولى في التحكيم، ووضعتها هذه التجربة في اختبار حقيقي لتثبت قدرتها على موازنة الأمور والتحكيم برؤية نقدية وفق المعطيات بعيدًا عن العاطفة. مؤكدة أن تحكيم بطولة الإبحار الشراعي للأشخاص ذوي الإعاقة شكّل محطة فارقة في مسيرتها، لما يحمله من خصوصية ومسؤولية مضاعفة. فبحسب ما تروي، فإن أبرز الفروقات بين تحكيم مسابقات الأسوياء ورياضات ذوي الإعاقة تكمن في التركيز العالي على جانب السلامة، والتأكد من جاهزية المعدات، ووضوح التعليمات المقدمة للمتسابقين، إلى جانب الالتزام الصارم بالقوانين دون أي تمييز. وتضيف بقولها: "إن التعامل مع فئة ذوي الإعاقة يتطلب صبرًا أكبر وقدرة أعلى على التواصل الواضح، مع مراعاة طبيعة كل فئة، دون أن يؤثر ذلك على عدالة التحكيم أو سير المنافسة، وهو ما منحها وعيًا أعمق بدور الحَكَم ومسؤوليته، وعزّز ثقتها بنفسها في هذا المجال".
تجربة استثنائية
أما عن استضافة سلطنة عُمان للبطولة، فتصفها بأنها تجربة استثنائية على المستويين الشخصي والمهني، لكونها أول مشاركة لها في التحكيم ضمن بطولة عالمية، وولدت فيها المشاركة شعورًا بالفخر والاعتزاز والمسؤولية في آنٍ واحد. وتوضح ذلك بقولها: "شعرت بمسؤولية كبيرة يقابلها شعور بالفخر لكوني جزءًا من حدث جمع متسابقين من مختلف دول العالم، هذه التجربة أتاحت لي فرصة تطبيق ما تعلمته عمليًا، والتعامل مع مستويات متنوعة من المنافسة، ومنحتني ثقة أكبر بقدراتي التحكيمية، لتكون بداية حقيقية لمسيرة آمل أن تتطور وتتسع في المستقبل".
وتتوقف البلوشية عند تجربة العمل إلى جانب محكّمين دوليين ذوي خبرة، معتبرة ذلك فرصة تعليمية لا تُقدّر بثمن، خصوصًا في أول ظهور لها على مستوى بطولة عالمية، فمن خلال متابعتهم تعلّمت أساليب اتخاذ القرار، وطرق التواصل مع المتسابقين، وكيفية إدارة المواقف المختلفة داخل السباق. كما أتاح لها هذا التنوع تبادل الخبرات وطرح الأسئلة والاستفادة من الملاحظات والتوجيهات، الأمر الذي أسهم في تطوير فهمها العملي لقوانين التحكيم، ورسّخ لديها قناعة بأهمية التعلم المستمر والعمل الجماعي في هذا المجال المتجدد دائمًا، والذي تتفق عليه الدول بأنه مجال ذو إقبال وشغف لا يتوقف.
في بطولة العالم للإبحار الشراعي للأشخاص ذوي الإعاقة، يجتمع أصحاب الهمم في هدف واحد، رغم اختلاف الإعاقات وكيفية حصولها، فمن الإعاقات ما تكون حديثة نتيجة حوادث أو مرض، ومنها ما يكون منذ الولادة، ولكل مشارك منهم حكاية ملهمة تترك أثرًا في نفوسنا. وهذا ما حدث مع خير النساء، إذ تستعيد مشهدًا خلال أحد سباقات فئة "فار إيست"، حين لاحظت موجّه القارب يصرخ على فريقه من ذوي الإعاقة البصرية بأسلوب قاسٍ، وإن كان فيه نوع من الحزم وشحذ الهمم.
تقول إن هذا الموقف أثّر فيها كثيرًا، إذ أدركت أنهم لا يستطيعون رؤية ما حولهم كما يراها هو، وكان الأجدر أن يكون أسلوبه أكثر دعمًا وتفهّمًا. ورغم عدم قدرتها على التدخل أثناء السباق، إلا أن تدخّل أحد الحكّام الدوليين بمشاركة حكم عُماني بعد انتهائه، ولفت نظر الموجّه إلى أسلوبه، أسفر في اليوم التالي عن تغيّر واضح في طريقة تعامله مع فريقه، وهو ما منحها شعورًا بالارتياح، ورسّخ قناعتها بأن التحكيم لا يقتصر على تطبيق القوانين فحسب، بل يمتد ليشمل القيم الإنسانية والأخلاقية في الرياضة.
تحديات في التحكيم
ولا تخفي البلوشية أن بداياتها لم تكن خالية من التحديات، خاصة أن مجال التحكيم في الإبحار الشراعي يُعد نادرًا على مستوى النساء في سلطنة عُمان. ومع ذلك، كانت مؤمنة بضرورة خوض التجربة، واضعة أمامها هدفًا يتجاوز الطموح الشخصي، يتمثل في إمكانية أن تكون أول امرأة عربية، ليس في عُمان فحسب، بل على مستوى الشرق الأوسط، تصل إلى هذا المستوى التحكيمي. وتقول: "هذا الإنجاز إن تحقق سيكون فخرًا لمؤسستي ووطني، ما دفعني إلى طلب الدعم للاستمرار في الدورات التدريبية والتطوير المهني، إيمانًا مني بأن الاجتهاد والاستمرارية قد يقوداني يومًا ما إلى مستوى هيئة التحكيم الدولية".
وفي موازنة الحزم والجانب الإنساني، تؤكد خير النساء أن العدل هو الأساس الذي لا يمكن التنازل عنه في التحكيم، سواء مع المتسابقين الأسوياء أو ذوي الإعاقة، فالقانون – كما ترى – هو المرجع الأول ويُطبّق على الجميع دون استثناء، مع الحرص على إيصال القرار بأسلوب لبق ومحترم، وشرح أسبابه عند الحاجة، مع التأكيد على أن القرار التحكيمي نهائي. بهذه المعادلة يمكن الحفاظ على هيبة التحكيم واحترام المتسابقين في آنٍ واحد.
قوانين الإبحار الشراعي
وتعكس تجربتها التحكيمية أثرًا واضحًا على شخصيتها خارج إطار الرياضة، إذ تتحدث عن شغفها بقراءة آخر إصدارات قوانين الإبحار الشراعي، وسعيها الدائم للتعلّم والتطوير. فقد علّمها التحكيم، بحسب وصفها، معنى العدل وأهميته في الحياة اليومية، وساعدها على صقل قدرتها على اتخاذ القرار والتعامل مع الضغوط، بما يحقق توازنًا بين الحزم والإنسانية.
ولا تنكر شعورها أحيانًا بثقل المسؤولية، خاصة عندما تضطر إلى اتخاذ قرار قد يؤثر في نتيجة سباق أو مسيرة متسابق، لكنها تؤمن أن النزاهة والعدالة تفرضان على الحَكَم التحكم في مشاعره، واتخاذ القرار الصحيح والمنصف مهما كان وقعه.
وحين تُسأل عمّا يمنحها الدافع للاستمرار، تجيب بروح تنافسية واضحة: "الطريق السهل ليس من هواياتي، وأن كل تحدٍ أخوضه يضيف إلى خبرتي ويزيد شغفي بالمجال، ولن أتوقف ما دمت قادرة على التعلم والتطور، وأسعى للوصول إلى أعلى مستويات التحكيم، إيمانًا بأن كل تحدٍ يصنع مني شخصية أقوى وأكثر استعدادًا للمستقبل".
وتختتم خير النساء حكايتها بنصيحة توجهها إلى نفسها في بداية الطريق، مؤكدة أن الشجاعة والثقة بالنفس هما المفتاح الحقيقي لعبور التحديات، فالتجربة – كما ترى – قد تكون شاقة، لكن كل خطوة فيها تستحق العناء، والطموح إذا اقترن بالإصرار يمكن أن يتحول إلى إنجاز يتجاوز صاحبه ليصبح مصدر فخر للوطن بأكمله.
