من أروقة مهرجان عُمان للابتكار

06 فبراير 2024
06 فبراير 2024

في الخامس من فبراير الجاري انطلق مهرجان عُمان للابتكار بنسخته الأولى والتاريخية، فمن يتمعن في الشعار اللفظي للمهرجان الذي ينص على «معرفة.. شراكة.. استدامة»، يدرك عمق أهداف هذا المهرجان في النهوض بالابتكار والريادة في سلطنة عُمان كإحدى أهم دعائم تحقيق الرؤية الوطنية «عُمان 2040»، وذلك بنهج الشراكة المستدامة لإحداث نقلة نوعية في المنظومة الوطنية للابتكار وبما يتماشى مع التوجهات الداعمة والمحفزة لتعزيز دور البحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا والابتكار في تنفيذ التطلعات والأهداف التنموية، والسؤال الأكبر هنا هو: لماذا يُعد مهرجان عُمان للابتكار حدثا تاريخيا في سياق الجهود الرامية لتأصيل الابتكار كمفتاح لمعالجة التحديات من خلال التكنولوجيا والإبداع والحلول المستدامة؟ وكيف يمكن تحقيق أقصى المكاسب الاستراتيجية من توظيف هذا الحدث بمثابة حجر الأساس لترسيخ ثقافة ومجتمع الابتكار؟ في البدء دعونا نتوقف عند نشأة مهرجانات الابتكار على مستوى العالم، والتي أطلقت عليها الصحافة العالمية مصطلح «الخروج من فقاعة وادي السيليكون»، حيث ظهر مصطلح «مهرجان الابتكار» خلال طفرة ظهور الإنترنت للمرة الأولى بنهاية التسعينيات من القرن الماضي، كان الهدف الأساسي من إقامة المهرجان هو التعريف بالابتكارات التقنية في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، ومدى تفوقها في تغيير عالم الأعمال وحياة البشر، وجاء المهرجان مختلفا تماما عن المعارض العلمية المصاحبة للمؤتمرات، ولاقى قبولا واسعا لكونه متاحا لجميع فئات المجتمع من المهتمين بالابتكارات التقنية وليس موجها لنخبة العلماء والأكاديميين والمختصين، فحقق نجاحا كبيرا ومنذ ذلك الحين، تكررت التجربة وظل الاسم عالقا، واتّسع نطاق مهرجانات الابتكار ليشمل فروعا مختلفة من الابتكارات بجانب المجالات التقنية المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فظهرت مدارس فكرية متنوعة في الابتكار ومضامينه، وبذلك انحسرت التأثيرات السائدة حينها من تجربة وادي السيليكون، وكان من ضمن العوامل التي ساهمت في تأصيل مهرجانات الابتكار كمناسبات علمية مستقلة عن المؤتمرات والندوات الرسمية هو الظهور المتزامن لجلسات تيد (TED) تحت شعار «أفكار تستحق الانتشار»، والتي كانت ترعاها مؤسسة سابلنج الأمريكية، وهي مؤسسة إعلامية مستقلة وغير ربحية، ومع التأثير المعزز الذي أحدثته جلسات تيد كمنصة مفتوحة للباحثين والمبتكرين والمفكرين وصنّاع التغيير، أصبحت مهرجانات الابتكار جزءا أصيلا من منظومات الابتكار الوطنية، وشرعت جميع دول العالم في الالتفات إلى الأهمية الاستراتيجية لمهرجانات الابتكار كونها بوابة الولوج إلى عالمٍ تتلاقى فيها الأفكار والطموحات مع فرص تحقيقها على أرض الواقع، وبذلك ينتقل الابتكار من عقول الموهوبين ومختبرات الباحثين إلى الحاضنات التكنولوجية والمعرفية القادرة على تحويلها إلى قيمة اقتصادية واجتماعية وتنموية.

وهذا يقودنا إلى الأهمية الاستراتيجية للنسخة الأولى من مهرجان عُمان للابتكار، ففي العمق يأتي محور التوقيت الزمني، فجاء تنظيم المهرجان والجهود الوطنية على مشارف نهاية الخطة الخمسية العاشرة التي تمثل الخمسية الأولى من «رؤية عُمان 2040»، كما أن أداء سلطنة عُمان على مؤشر الابتكار العالمي قد شهد ارتفاعا ملحوظا خلال عام 2023م، وهذا يجعل من تنظيم المهرجان في هذا التوقيت مكسبا استراتيجيا له أبعاده على المديَيْن المتوسط والقريب، إذ يجتذب المهرجان شريحة مهمة من مجتمع الابتكار وهي شريحة المبتكرين والباحثين الشباب، وكذلك يعد المهرجان فرصة كبيرة لمشاركة الشركات الناشئة القائمة على التكنولوجيا، وهذا من شأنه تعزيز التكامل والتعاون والتآزر بين الجهات المنتجة للابتكارات والنتاجات المعرفية، والملكية الفكرية بكافة أنواعها، كما أن المهرجان يتيح التشبيك بين هذه الجهات وبين المستثمرين والجهات المانحة للدعم والتمويل من القطاع الخاص، وبذلك فإن هذا التفاعل من شأنه تعزيز التحول الإيجابي نحو الجيل الجديد من الصناعات القائمة على المعرفة والإبداع والابتكار، وهذه الشراكات تعد بناءً راسخا لتحقيق التطلعات الوطنية على مدى الخطط الخمسية القادمة.

أما بالنسبة للمحتوى فقد نجح مهرجان عُمان للابتكار في تضمين الأنشطة الأساسية الداعمة لتفعيل إسهام الابتكار في التنمية الوطنية الشاملة، ورفع جهود البحث العلمي والتطوير التكنولوجي ونقل وتوطين المعرفة والتكنولوجيا، وبناء جيل من العلماء الشباب، وقد تنوع المحتوى بين الجلسات الحوارية، والمسابقات، والندوات، والدورات التدريبية الموجهة، وكذلك المعرض الذي يتيح تجربة مميزة لجميع فئات المجتمع لمشاهدة منتجات وخدمات قائمة على التقنيات المتقدمة الأكثر لفتًا للانتباه، والتي يعدها الكثيرون جوانب نظرية بحتة، مثل الواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي، والطائرات دون طيار، وهذا من شأنه رفع مستوى الوعي المجتمعي بالدور الكبير الذي تؤديه الابتكارات التكنولوجية في حياتنا، وبأنها أقرب بكثير مما نتخيّل، وذلك من حيث التعرّف على أبرز الشركات الناشئة، وأحدث مجالات الابتكار في عالم توجهه التكنولوجيا، وبالالتقاء بالمبتكرين والباحثين، والاستماع إلى خلاصة أفكارهم، ومشاهدة حماسهم وتطلعاتهم الواسعة.

وإذا توقفنا عند الأثر المتوقع لمهرجان عُمان للابتكار، فيأتي في المقدمة إبراز الابتكار كرافد استراتيجي لدعم جميع القطاعات الحيوية للاقتصاد الوطني؛ فالتحديات التي تعترض جميع القطاعات هي بحاجة لحلول مبتكرة ومستدامة، بدءا من الابتكار المجتمعي إلى ابتكارات الأجهزة الذكية، والتعليم والصحة والبيئة؛ فالوتيرة المتسارعة للثورات المعرفية والتكنولوجية تفرض علينا الاستجابة والمواكبة، والتركيز على تهيئة المنظومة الوطنية للابتكار لتبنّي المرونة والرشاقة الاستراتيجية التي تمكنها من رعاية المبتكرين والموهوبين والعلماء الشباب الذين هم عماد المنظومة، وكذلك تعزيز البنية الأساسية والرقمية والتنظيمية الراعية للابتكار والمبتكرين، ورفع قدرتها على استحداث الفرص الاستثمارية، وخلق ثقافة وفرص ريادة الأعمال القائمة على الابتكار والإبداع والتكنولوجيا، فإذا كانت دورة مهرجان عُمان للابتكار لعدة أيام، إلا أن الأثر يبقى لفترة طويلة، إذ أنه يمكن ترسيخ دعائم التعاون والعمل المشترك في تبنّي نموذج الابتكار المفتوح خلال هذا الحدث الكبير، كما أن تنظيم حفل الافتتاح ووجود عدة أنشطة في المساحات المفتوحة يضفيان على المهرجان طابعا مميزا ومرحّبا لجميع زوار المهرجان، وله أثره العميق في إثراء ثقافة الابتكار كمنهج حياة وليس إطارا نظريا لا يتقن فهمه سوى الأكاديميين.

وكما أشارت كلمات المتحدثين الرئيسين في حفل افتتاح مهرجان عُمان للابتكار، فإن هذا المهرجان هو حجر الأساس لتأسيس مجتمع وثقافة الابتكار؛ لأن سعي العقل البشري نحو توظيف المعرفة وتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي لا حد له، ولأن الابتكار عملية فكرية ومعرفية تعبّر كل الحدود الجغرافية والمكانية، فإنه من الضروري بمكان إدراك حتمية تدويل العلوم والابتكار، وانتهاج العقلية المنفتحة على التعلم من جهود الآخرين، وبناء المحاولات الابتكارية على ما انتهوا إليه، وإتاحة المعرفة والخبرات بشكل تبادلي مع المجتمع العلمي الدولي، وفي الوقت ذاته لا بد من الالتفات إلى البعد البيئي ومدى تأثير الابتكارات التكنولوجية على القضايا الكوكبية الكبرى مثل تغيّر المناخ، ومخاطر نضوب الموارد غير المتجددة، وعليه فلا بد من الأخذ في الاعتبار الأهمية المركزية لنهج الاقتصاد الدائري كأحد المخارج المتاحة حاليا لضمان استدامة الموارد الطبيعية مقابل التقدم العلمي الخارق، أما البعد الثالث فهو أهمية بناء القيادات العلمية الشابة القادرة على صناعة الفارق الإيجابي في التنمية والاقتصاد، وهنا تظهر أهمية تضمين مهارات المستقبل في مختلف مراحل التعليم، مع التركيز على المهارات المرتبطة بالابتكار مثل ثقافة العمل الجاد، والمثابرة والإصرار، والاعتماد على خلق الفرص والمبادرة، وتغيير المنظور النمطي للإخفاق كونه مدعاة للتراجع والبقاء في محيط الراحة، والانفتاح على ثقافة تحويل الإخفاق إلى أساس للتعلم، وإعادة المحاولة حتى تحقيق النجاح، والإدراك الواعي بأن عدم تحقيق الهدف المرجو من المحاولات الأولى هو جزء لا يتجزأ من عملية الابتكار، هذا إضافةً إلى مهارات صناعة القرار، واكتساب الخبرة الإقليمية والدولية، وبناء مثل هذه المهارات ليس بالأمر الهين.

إن مهرجان عُمان للابتكار ليس مناسبةً احتفالية، ولكنه يمثل ما يسمى «اللحظة التاريخية» لمنظومة الابتكار الوطنية في أزهى صورها، وهذه اللحظة هي بمثابة المسرّع في خلق الزخم والحراك الفاعل بين جميع الفاعلين والشركاء والمجتمع، وهي في الوقت ذاته مصدر إلهام للباحثين والمبتكرين الشباب؛ فنجاح رحلة صناعة المستقبل لا سبيل لها سوى من خلال الإبداع والابتكار، وفي هذه الرحلة كل مرحلة أو إنجاز مهما قلَّ حجمه فهو مكسب استراتيجي نحو الطموحات والتطلعات الكبرى، ويستحق الإشادة، ومهرجان عُمان للابتكار هو بحق مدعاة للفخر والاعتزاز، وهو دافع لنا جميعا للعمل معا في توجيه الابتكار والإبداع والمعرفة لتحقيق الأهداف التنموية الاستراتيجية.