مقامات: أنوار ناعمة في نفق العبور المظلم
1. فكرة
كنت «وما زلت إلى حد ما» أؤمن بأن المبدعين والشعراء تحديدًا رسل السلام والمحبة والحرية في هذا العالم الممتلئ بالحروب والشر والقيود والغباء، بل وأظن «برومانسية وشطط» أن القبيلة الجاهلية كانت تحتفي بميلاد شاعر لهذا السبب تحديدًا، لأنها ستواجه الصحراء الكامنة في النفوس بالقليل من المطر وستواجه القيظ الطويل بظل نخلة سامقة.
لا يحتاج الشاعر إلى أشياء البشر الصغيرة، ولا يخوض حروبهم التافهة، لأن عليه أن يكون ممتلئا من الداخل بالجمال والحب فقط.
إنه مترفع بلا جهالة التكبر، وعميق كالجرح وليس كالسكين، يسكن أعلى الشجر والسطوح غير المرئية، يؤمن بالروح وبالحرية فقط كأعمق ما وهب الله للإنسان ليجعله لائقا بالتميز.
الشاعر الأوسع من كون يستوعب كل ما حوله، يأخذ ما يميل له، ويترك للآخر أن يأخذ وأن يترك أيضًا ولكأن الإبداع هبة مقرونة بالنبل والحرية والاتساع غير المشروط والإنسانية الظليلة كغابة وافرة الشجر والماء تستوعب كل شيء بامتنان أم، ووعي سماء.
لا يوجد مبدع كبير، ومبدع صغير إلا من حيث عمق الرؤية ونبل الروح، الكتب الكثيرة ليست معيارا حقيقيا، الترهات غالبا كثيرة، والهذيان سمة الممسوسين أكثر من المبدعين، والكتب القليلة ليست معيارًا أيضًا فالشلل قد يصيب الروح قبل الجوارح.
والحضور والشهرة والاحتفاءات المجانية هي وسيلة قتل بطيء للإبداع، يقابلها المبدع الحقيقي غالبا بالهروب للظل والعزلة الداكنة.
الوعي العميق ليس مرادفًا للإبداع، هناك وعي أكثر اجتراحًا للحكمة، وأكثر امتثالًا للتأمل الكوني الجارح في الحياة وبين الكثير من البشر خارج الكتابة.
الحكم الإبداعي نسبي، ومشفوع بالرؤية الذاتية مهما كانت موضوعية الحكم، وثقل رؤية وتجربة من أطلقه، فما قد يراه البعض جميلا، قد لا يراه البعض كذلك، والعكس جائز دائما.
الإبداع ثقل كبير يجعل من صاحبه ثقيلا محفوفا بالهدوء والتواضع، وبطء الخطوة وعمق التأمل.
يزيد عدد من ينتمي للإبداع كل لحظة، وينقص عدد المبدعين الحقيقيين بالتوازي مع ذلك أيضا.
الغرور خفة وارتباك في الرؤية العميقة لحقيقة الأشياء لا تليق بالمبدع.
النميمة الثقافية هي حالة جهل وقبح في الأوساط الثقافية العربية، تربّت بلا وعي عميق لقيمة الإبداع وأثره في الرقي الإنساني، في مجتمعات مريضة بالعتمة والنفاق وكل الأمراض الاجتماعية.
المبدع «الكبير» هي حالة سلطوية قادمة من مناطق الدين والسياسة، في المجتمعات القائمة على الأبوية والتبعية، يجر إليها الإبداع بلا تفكيك عميق للمفاهيم.
الزاوية الواحدية للرؤية الإبداعية، وتكفير ما دون هي حالة جاهزة من النرجسية المتوارثة ضمن فكرة السياسي والديني «هذا من شيعني وهذا من عدوي».
القمة هي حالة متوهمة في الحالة الإبداعية العربية، يسعى الجميع لها، وقد يضع كل مبدع نفسه في قمتها، وهي غير موجودة أصلا، وليست أكثر الأوهام الثقافية حضورًا وإثارة للشفقة.
الأصنام الثقافية هي امتداد للثقافي ضمن الديني والسياسي أيضا، فصناعة الأصنام هي صناعة التبعية والأوهام والسجود والانحناء والطواغيت.
الخجل الإبداعي هو جوهر الإنساني العميق في المبدع، المتمثل في التواضع الشفيف القائم على احترام تجارب المبدع الأسبق، واجتهاداته وما بذله من زمن وجهد ضمن فعل الإبداع المضني.
وحدها المحبة والحرية والإيمان، ثمار الروح الطيبة، ولوحها النقي الصالح للإبداع، فآمنوا ثم اكتبوا.
2. فيلم
من أجمل الأفلام الواقعية التي تجعلك تقترب من الحياة بهامشها الكبير وأوجاعها النيئة فيلم «ROMA» الفيلم الذي يجعلك تتأمل فكرتين، الأولى: تكمن في حظوظ البسطاء والفقراء على هذه البسيطة، وحقهم في الحب وفي الحياة، وكيف لا ينتبه الناس غالبًا لهم، لأحلامهم ولأيامهم التي تمضي بلا أقل الاحتياجات وأكثرها إلحاحًا كالفرح والحب والأمان، تربيهم القسوة والحاجة فيعيشون ضمنها قانعين بأبسط المعطيات الإنسانية، وربما تعلموا الظلم والاستغلال فيسحقون بعضهم بعضا، ويستغلون الآخر أحيانا. ا
لحياة التي ليست عادلة أبدًا لا تعلمهم قيم العدالة الإنسانية، بل كثيرا ما تفعل العكس تماما انتقاما واستغلالا لأبسط الفرص. كما تتأمل فكرة الذكورية الكونية، الرجل الذي يسعى وراء لذته المؤقتة أبدا غير مبالٍ بشيء وهو يجد المبررات لذلك، مهما كانت مكانته العلمية والاجتماعية، ومهما كان مستوى زوجته الرفيع جمالًا ووعيًا وثقافة، ومهما كانت روعة عائلته وأطفاله، الخيانة التي تتخذ أشكالا متعددة سرية وعلنية شرعية وغير شرعية فتضطر معها المرأة مواجهة الحياة وحيدة إلا من عزيمتها وحب أطفالها.
الفيلم عمل فني متقن برسالة إنسانية عميقة، وهو ينتصر لروح المرأة المكافحة وعزيمتها القوية في مواجهة الصعاب التي تواجهها ولذا تخرج منه ممتلئا بالحزن والتأمل العميق.
3. كتاب
الحب العظيم هو اتحاد الأرواح العظيمة، ولا يكتمل كيان الإنسان ولا تظهر حقيقته إلا عبر هذا الحب، وقد عرف الشاعر الأمير جوفري روديل هذا بعد حياة الترف التي عاشها، وظل يبحث عن حبه الضائع والبعيد (جميلة بدون صلف الجمال، نبيلة بدون صلف النبل، تقية بدون صلف التقى)، حتى دله عليه صديقه الحاج وعرّفه على حبيبته الحلم التي يبحث عنها وهي الكونتيسة كليمانس في طرابلس، وأخبرها عنه أيضا في رحلته للشرق، ونقل لها أشعاره التي تغنى فيها بجمالها فشغفت روحها بلغته وسحرها فنه، وفتنتها كلماته، فحدث الحب عن بعد بين قلبين وروحين يتوقان للحب العظيم، حتى قرر الشاعر الأمير السفر لمحبوبته عبر البحر، ولكن ولأن الحب الكبير هو دائمًا الحب المستحيل يصل الشاعر وهو يحتضر، ويموت في أحضانها.
هذا هو ملخص مسرحية «الحب عن بعد» لأمين معلوف، التي لا يتمنى قارئها الذي يتشرب جمال الفكرة العظيمة، واللغة الرقيقة، سوى مشاهدتها في عرضها الأوبرالي من إخراج بيتر سيلر، كما قدمت فعلا على مسرح الشاتليه في فرنسا 2001 ودارت العالم بعد ذلك.
