1414
1414
الثقافة

مرفأ قراءة.. كيف كون نجيب محفوظ ذائقته الأدبية؟

17 أبريل 2021
17 أبريل 2021

إيهاب الملاح -

- 1 -

كل عام وحضراتكم بخير وسلام بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم أعاده الله علينا وعلى الأمتين العربية والإسلامية بالخير والبركات. ورمضان عندي فضلا عن مكانته وروحانيته هو شهر المعرفة والإحسان؛ وشهر القربى والاكتشاف؛ في رمضان منذ الصغر ارتبطت بالقراءة واكتشاف كنوز وعيون التراث العربي والإسلامي الزاخر.

وها هي المناسبة تتجدد وأجدد بالتذاذ اكتشافات وسياحات وجولات بعض من كبار مبدعينا مع التراث العربي وقراءاتهم المبكرة في مجالاته وفروعه، وأنا ممن يعتقدون جازمين أن ما من كاتب أصيل ومعتبر في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة لا يشكل الرافد التراثي محورا رئيسا في تكوينه الذاتي وثقافته العامة والشخصية.

- 2 -

وعلاقة نجيب محفوظ بالتراث العربي؛ كيف بدأت ونمت وتطورت، والأساتذة الذين لعبوا دورًا مؤثرًا في هذا الجانب من تكوين نجيب محفوظ الثقافي، علاقة معروفة ومشهورة وتفاصيلها مبثوثة في العديد من كتب السيرة والحوارات،

وسيكون لهذا التكوين أكبر الأثر في ما بعد، سيتجلى ظاهرًا وعميقًا، وعلى مستويات عدة في أعماله الروائية الكبرى؛ فقد كان محفوظ -المفكر العبقري بالرواية- سبّاقًا إلى توظيف التراث، واستلهام أشكاله السردية القديمة في إبداع رواياته، وسنجد تمثيلًا وتجسيدًا واضحا لهذا الاستلهام في كل مراحل كتابته الروائية والقصصية، منذ أعماله التاريخية "الفرعونية" الأولى التي نشرها خلال الفترة (1939-1944) وصولًا إلى آخر رواية كتبها «حديث الصباح والمساء» [التي] استلهم فيها الشكل التراثي المعروف "كتابة التراجم والحوليات مرتبة على حروف المعجم"، قبل حصوله على نوبل بعام واحد.

كان نجيب محفوظ ينطلق في قراءاته، ورحلة تكوينه الثقافي والإبداعي العام، من مبدأ راسخ هو أن "التراث جزءٌ لا يتجزأ من تكوين الأديب"؛ وكان يرى أن هذا التراث (بمفهومه العام، ودوائره التي لا تتسع فقط للتراث العربي ولا الإسلامي ولا تراث الأمم والحضارات القريبة، إنما تتسع لتشمل التراث الإنساني كله) ينقسم إلى "تراث قديم" ويستوعب كل نتاج الأمم العريقة المتحضرة أو التي أسهمت في الحضارة الإنسانية بنصيب، و"تراث قريب" وهو الذي يشمل كل الإبداع الفكري والثقافي والفني والأدبي الذي تم إنتاجه في المائتي سنة السابقة على ميلاده هو شخصيا.

وبناء على تلك الفكرة الواضحة في ذهن نجيب محفوظ، رغم حداثة سنه آنذاك، فقد اعتبر، مثلًا، دراسته لمصر القديمة‏:‏ تاريخها وآدابها وأساطيرها جزءًا أساسيًا من دراسة التراث‏،‏ بل إنه قرر وهو ما زال في المرحلة الثانوية أن يضرب عصفورين بحجر واحد، وأن يقوم بترجمة كتاب صغير الحجم اسمه «مصر القديمة» لمؤلف إنجليزي شهير اسمه "جيمس بيكي"، كي يتعرف أولًا على لمحة عامة وكلية عن تاريخ مصر القديمة وحضارتها، ويكون بمثابة مدخل مناسب للتوسع في القراءة عن هذه الفترة فيما بعد، وثانيا كي يقوي لغته الإنجليزية، ويدرب نفسه على القراءة بها والترجمة عنها بمستوى لا يقل عن أعظم المترجمين وأكثرهم كفاءة.

وقد أفاد نجيب محفوظ من ذلك إفادة عظيمة جدًا، واستغل تلك القراءات بالفعل في كتابة أربعٍ من رواياته‏ التي أطلق عليها النقاد "الروايات التاريخية"، أو "الفرعونية" في تسمية أخرى، وهي «عبث الأقدار» (1939)، و«رادوبيس» (1941)، و«كفاح طيبة» (1944)، ثم «العائش في الحقيقة» (1984).

وسوف نتوقف ربما في مناسبة أخرى، تفصيلا، عند تلك المرحلة التي اتسعت فيها قراءات محفوظ في التاريخ القديم، والحضارة الفرعونية، واستجلاء مظاهر التأثر بهذه القراءات، مع إطلالة على توظيف واستلهام هذه الثقافة في كتابة روايات المرحلة الأولى.

- 3 -

في الوقت ذاته، اتسعت قراءات نجيب محفوظ -في تلك الفترة- لتشمل التراث الأدبي الحديث؛ من شوقي وحافظ ومطران والعقاد ومدرسة أبوللو‏،‏ فضلا على قراءة الآداب الأجنبية؛ إنجليزية، وفرنسية، وألمانية، وروسية، وغيرها‏،‏ يقول محفوظ: "كانت في ذلك الوقت لغتنا العربية جيدة. ومع السنوات توالت قراءاتي، فعرفت بعد ذلك جيل الرواد الذي أدين له بالكثير، العقاد وطه حسين والمازني ومحمد حسين هيكل، وبعدهم عرفت توفيق الحكيم ويحيى حقي.. وقد كان لكل ذلك تأثير لا أستطيع إنكاره على ما كتبت من أعمال‏".

لكن، كيف وازن نجيب محفوظ في تلك الفترة المبكرة بين كل هذه القراءات الغزيرة المتسعة وبين تركيزه بشكل أخص على قراءة التراث الأدبي "العالمي" بشكل منظم غاية التنظيم، وبحيث تترك هذه القراءات أثرها العميق في نفسه وروحه، في عقله وتكوينه العام؟

الإجابة جاءت تفصيلا على لسان محفوظ، وفي أكثر من مصدر موثق، وفي أكثر من مناسبة، لقد كان محفوظ حريصًا على الوفاء بإجابة تامة شافية عن قراءات هذه الفترة ومصادرها بل أيضًا عن الطريقة التي كان يقرأ بها، وينظم من خلالها هذا الكم الهائل من الكتب والروايات والمصادر الأدبية.. يقول محفوظ:

"بعد ما قرأت لجيل الرواد، ثم قرأت لتوفيق الحكيم ويحيى حقي، قررت أن أضع لنفسي برنامجًا للقراءة، قرأت الأدب العالمي، الإنجليزي، والفرنسي، والإغريقي القديم. لقد تكونت عقليتي الأدبية من الكتب والمقاهي، فالناس الذين عرفتهم أو شاهدتهم في المقاهي وفي الحواري التي عشت بها كانت مكونا مهمًا لتفكيري".

ويضيف: "لقد سألتُ نفسي: هل أقرأ بالتسلسل الزمني؛ أي أبدأ بالقديم، ثم الأحدث، إلى أن أصل إلى الحاضر؟ لكني قلتُ إذا بدأت بالفرعوني ثم الإغريقي وهكذا، قد ينتهي العمر قبل أن أصل إلى القرون الوسطى، وفضلتُ أن أبدأ بالحديث وأعود إلى الماضي، لذلك كان من أوائل الروايات التي قرأتها ضمن برنامجي هذا رواية «عوليس» لجيمس جويس، والتي كانت هي آخر مدرسة في ذلك الوقت، بما اعتمدت عليه من تيار الوعي، ومن بناء جديد تمامًا للرواية، ثم عدتُ بعد ذلك إلى "بينيت" و"جالزورثي"، وكذلك في الفرنسية قرأت مارسيل بروست وأندريه موروا وغيرهم كثيرين، وكنت أبحث عن الرواية مترجمة إلى العربية، فإذا لم أجدها أقرأ الترجمة الإنجليزية، فإذا لم أجدها أجازف وأقرأها بالفرنسية".

- 4 -

في مصدر آخر (المجالس المحفوظية لجمال الغيطاني)، يكشف محفوظ أنه استعان بكتاب مهم في تاريخ الأدب يستعرض تاريخه منذ أقدم العصور حتى سنة 1930 (لم يذكر اسمه للأسف) لمؤلف يدعى "درنك ووتر"، يذكر محفوظ أن هذا الكتاب ساعده في اختيار وتنظيم قراءاته للأعمال الأدبية الكبرى عبر العصور، وأنه أرشده أيضًا إلى الأعمال المتميزة لكل كاتب؛ فقرأ الأعمال التالية:

«الحرب والسلام» لتولستوي، و«الجريمة والعقاب» لدويستويفسكي، وقرأ في القصة القصيرة لكل من "تشيكوف" و"جي دو موباسان" و"إدجار آلان بو"، وفي الوقت ذاته قرأ لكل من: كافكا، بروست، جويس.. وأعلن أنه وقع في غرام شكسبير "أحببت سخريته، وفخامته، ونشأت بيني وبينه مودة وصداقة حميمية، وكأنه صديق حقيقي".

كما صرح بحبه الشديد لكل من يوجين أونيل، هنريك إبسن، ستراندنبرج، وعشق هيرمان ميلفيل ورائعته الأسطورية «موبي ديك»، (في حوار من حواراته التي أجراها معه محمد سلماوي، أقر محفوظ بأنه يعتبرها أهم رواية قرأها في حياته).

يقول محفوظ أيضًا: "ساعدني هذا الكتاب في اختيار قراءاتي الأدبية، ولأنني بدأت متأخرًا (هكذا!!)، لم أدرس أي أديب دراسة متكاملة (بمعنى قراءة مجمل أعماله أو الاطلاع على كل ما كتب)، فكان الكتاب يرشدني إلى الأعمال المتميزة لكل كاتب". ويعقب محفوظ تعقيبًا ذا دلالة بالغة وبليغة على قراءات هذه المرحلة؛ يقول:

"وهنا تلاحظ أنني لم أتأثر بكاتب واحد، بل أسهم كل هؤلاء في تكويني الأدبي".. وقد كان هذا هو الدرس الأهم الذي تركه نجيب محفوظ فيما يخص القراءة والتكوين والتأهل الجاد الحثيث للكتابة والإبداع الأدبي:

"اقرأ باهتمام كأنّ الكتاب صدر لأجلك فقط، واكتُبْ بجديّة كأنّ البشرية كلها ستقرأ لك"..

(وللحديث بقية...)