Untitled-1
Untitled-1
الثقافة

مرفأ قراءة... تأملات في محبة النحو العربي!

13 فبراير 2021
13 فبراير 2021

إيهاب الملاح -

(1)

أعترف بأنني من عشاق علوم العربية في نسختيها التراثية والعصرية، وأرى أن علومنا اللغوية الأصيلة (النحو والصرف والبلاغة) لا تمثل مجرد تراث مطمور في بطون الكتب والمجلدات بل تحتوي حقا على نظرات ورؤى وتصورات رائعة خاصة فيما يتصل بطرق استنباطها واستقراء مادتها وتحديد موضوعها.. إلخ

سيكون حديثنا هذه المرة عن واحد من أعرق العلوم العربية، وأكثرها أصالة وحيوية ورسوخا في نظري. أعني ما كان يطلق عليه القدماء «فن النحو» أو «علم العربية» أو «صنعة العربية»؛ وهي كلها تسميات ومفاهيم تعني شيئًا واحدًا هو ما نطلق عليه في زمننا الآن «علم النحو العربي».

(2)

وكان صدور طبعة جديدة من الكتاب التأسيسي «إحياء النحو» للمرحوم العلامة إبراهيم مصطفى (عن سلسلة كلاسيكيات؛ الدار المصرية اللبنانية 2020) حافزًا على إعادة النظر والتأمل في واحد من أرفع وأشرف علومنا التراثية؛ أقصد فن النحو العربي (وأنا أفضل تسميته التراثية التي تجمع في إهابها دلالات العلم بانضباطه وهندسيته ومعقوليته مع مسحة من الفن والإبداع والابتكار) ذلك الفن الذي نضج دون أن يحترق (كان التراثيون القدماء يقولون إن البلاغة العربية من العلوم التي نضجت حتى احترقت!)

وكان لافتًا بالنسبة لي أن يحقق كتاب مثل «إحياء النحو» للمرحوم إبراهيم مصطفى، هذا النجاح، وهو من الكتب السابقة في طرح نظرات تجديدية رائدة في النحو العربي وتيسيره. كان المرحوم شكري عياد يقول عن مؤلف هذا الكتاب «لم أكن أعلم أن من بين هؤلاء الأساتذة الذين لم أسمع بهم من قبل رجلين سينفعني علمهما أكثر من كل ما تعلمت من غيرهما. سآكل عيشي في الدنيا، وأتقرب إلى الله به في الآخرة: أولهما إبراهيم مصطفى أستاذ النحو الذي غرس في قلبي عشق هذا العلم حتى أصبحت أراه (ولا تعجب لما أقول) قمة الفلسفة العربية، وقمة الفن العربي»..

وإبراهيم مصطفى هذا واحد من أهم وأبرز رجالات النهضة العلمية في مصر في القرن العشرين؛ كان معاصرا لطه حسين وزميلا له بالجامعة، وكان طه حسين يحترم الرجل ويجل قيمته وعلمه معتبرا إياه «سيبويه العصر الحديث»، وقد قدم له كل كتبه تقريبا وأشهرها «إحياء النحو»، و«معاني النحو»..

(3)

وكلما تقدم المرء في العمر، وتراكم لديه بعض خبرةٍ ومعرفةٍ بتفاصيل وأسرار وجماليات لغتنا العربية، أدرك أنه رُزق فعلًا نعمة كبيرة جدًا بأن يكون مفتاح التواصل في هذا العالم ومعه، من خلال هذه اللغة العظيمة «العربية»، وكلما عدت إلى قراءة فلسفة النحو العربي وأعدتُ النظر في نشأته وتكوينه وتطوره تراءى لي هذا البنيان المحكم المتماسك المترابط؛ بكامل هندسيته المنمقة ومعقوليته التي تعود بجذورها إلى فلسفة عميقة ورؤية للعالم، وتصور نظري يثير الإعجاب لمفهوم اللغة والتواصل اللغوي عموما.

وربما سيذهل الباحثُ أو المعني بتتبع تاريخ هذا العلم، وتطوره، عبر ما يزيد على الألف سنة من هذه القدرة على الاستقراء والتأمل والاستدلال، وصولا إلى إقامة هذا البنيان الشامخ الذي طُمر جزء كبير منه للأسف تحت ركام التعليم الرديء والإفساد المتعمد للملكة اللغوية (وهذا موضوع يستحق حديثًا بل أحاديث مفصلة أخرى)

وكان المرحوم شكري عياد؛ صاحب واحد من أبرز وأهم الاجتهادات العلمية في النظر إلى جماليات لغتنا العربية اعتمادا على فهم وتوظيف إمكانات النحو العربي وثرائه المدهش في تركيب الجملة والخيارات والبدائل التي يمنحها للتعبير عن المعنى بأدق اختيار تركيبي للجملة بمرونة مدهشة وأساليب متنوعة وطاقات خلاقة، كان يرى النحو العربي «قمة الفلسفة العربية، وقمة الفن العربي»..

(4)

ولعل الباحثين الألمانيين الشهيرين كليفورد بوزورث وجوزيف شاخت قد انتبها مبكرا في كتابهما الشهير (تراث الإسلام)، إلى خصوصية وفرادة علم النحو العربي من بين كل العلوم اللغوية والنقلية الأصيلة؛ وقد انتبها بذكاء وهما الألمانيان اللذان ينتميان إلى ثقافة غريبة لكنهما في الوقت ذاته يتجردان للعلم ويدرسان أمور الفكر والثقافة والمعرفة بمنهج منضبط وأدوات إجرائية دقيقة؛ إلى أن الكتاب لسيبويه الذي يعد أول ما وصلنا مؤلفا في النحو العربي؛ ليس كتابا في القواعد والمعايير بقدر ما هو كتاب في تقعيد العلوم ووضع نظرية تنطوي على البحث في طرق المعرفة وطرائق الاستقراء والاستدلال بدرجة من الدقة والإصابة تكاد تقترب من أدق ما وصلت إليه المناهج الوضعية الحديثة في علوم الاجتماع واللغة والثقافة.. اقرأ ما كتبه المستشرقان الألمانيان:

«أما تجويد نظرية النحو فقد بلغ ذروته من قبل في نفس ذلك القرن في كتاب سيبويه، وأدت الحاجة العلمية إلى ظهور إنتاج غزير في النحو بقي مميزا للدراسات النحوية. ولما كانت هذه الدراسات تعتمد أساسا على الأسلوب الوصفي، فإن هذا العلم بقي علما صعبا، ولكنه كان مع ذلك ميدانا عظيم الأثر لتدريب أهل الأدب والعلم.

وأدى إتقان اللغة العربية، وتناولها بطريقة فنية، بوصفه الشرط الأول لكل إنتاج أدبي ذي قيمة، إلى تأكيد تفوق اللغة العربية وتبوئها المكانة الأولى بين اللغات التي تتكلمها الشعوب الإسلامية. فعلم النحو وتصنيف المعاجم مدينان بصفة خاصة لعبقرية اللغة العربية، والظروف الخاصة التي رافقت تطورها في الجاهلية والإسلام».

(راجع كتاب «تراث الإسلام»، ج2، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة حسين مؤنس، وإحسان صدقي العمد، ومراجعة فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، 1994)

(5)

ماذا أريد من الاستشهاد بهذا النص الذي يثير الفخر بقدر ما يثير من نظر ويبعث على طرح الأسئلة؟

على مدار سنوات طويلة من معايشة هذا الفن ومدارسته والقرب منه والتعرف إليه والتوغل في تفاصيله وأبوابه وفصوله؛ أكاد أصل إلى ما يشبه الاستقرار على بضع حقائق من وجهة نظري ألخصها فيما يلي:

أولا: أومن بأن «النحو العربي» أو «فن النحو» (بالمفهوم التراثي لمعنى العلم) لم نحسن التعامل معه، ولم نطوره كما ينبغي، وكما يليق بقدرات وإمكانات هذا النظام شديد الدقة والإحكام فيما يخص بنية الجملة العربية أو «التركيب» بالمصطلح المعاصر، ولطه حسين آراء شبيهة بهذا، وله دراسة غاية في الأهمية نشرها بالفرنسية عن استخدامات الضمير في القرآن الكريم (ترجمها إلى العربية عبد الرشيد صادق المحمودي، ونشرها في كتابه «طه حسين من الشاطئ الآخر»، كتاب الهلال، يوليو 1997).

ثانيا: أن الرغبة في تطوير اللغة، بما فيها من نحو وصرف، وما يستتبع تلك الرغبة من محاولات لها نصيبها من النجاح والفشل، ليست قسرا على فرد بذاته أو مؤسسة (أو مؤسسات بعينها)، إن فكرة التطور عموما والتطور اللغوي وأنظمته المكونة له هي في النهاية نتاج تطور ثقافة ووعي مستخدمي هذه اللغة. فبقدر إدراكهم ووعيهم لإمكاناتها وطاقاتها سيستطيعون بكل سهولة تطويرها ومنحها الحيوية اللازمة للبقاء والاستمرار، وببساطة شديدة جدا..

ثالثا: أنا عند رأيي ما زلت بأن نجيب محفوظ برهن على أن اللغة العربية، وهو يطوعها من خلال نصوصه، يمكن أن تكون لغة روائية بامتياز. إن نصوص نجيب محفوظ قدمت للغة العربية، والثقافة العربية، أهم تجلياتها اللغوية والجمالية منذ القرن الخامس الهجري..

لقد أثبت بالبرهان والدليل والنصوص الثابتة أن اللغة العربية لغة إبداع وجمال ومرنة، وقابلة للتشكل كي تستوعب أشكال التعبير وأساليبه لفن زئبقي مثل الرواية.. أثبت أن اللغة العربية قادرة على التعبير والتشكيل سردا وحوارا وتصويرا عبر كل المستويات.. ترك نصوصه للأساتذة والمشتغلين بدراسات اللغة ومستوياتها لعقود وعقود لاكتشاف أسرارها وقدراتها.. وقس ذلك على كل المبدعين الكبار.. ليست الترجمة فقط ولا علمها المقدر هو الذي يستطيع الكشف أو الفهم أو الإدلاء بدلوه في بحار اللغة ومعضلاتها ومشكلاتها.. أبدا.. ولدينا بالمناسبة في الخمسين سنة الأخيرة بحوث ودراسات تضارع مثيلاتها في أرقى جامعات العالم، في البحث اللغوي المعاصر (قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، ومدرسة جامعة الإسكندرية على سبيل المثال) تطبيقا وتحليلا علميا ومعرفيا على اللغة العربية.. لكننا كسالى ولا نقرأ بجدية، ومنا من يأخذه الزهو الفارغ والادعاء الكاذب بقدرات متوهمة ومعرفة ضحلة فقيرة للتنظير وادعاء ما لا يحسن.. للأسف الشديد

(وللحديث بقية)...