1626529
1626529
الثقافة

مرفأ قراءة... «الغيطاني» وروح التراث الهائمة في نصوصه!

24 أبريل 2021
24 أبريل 2021

إيهاب الملاح -

  • 1 -

    كان الأديب الراحل الكبير جمال الغيطاني (1945-2015) من عشاق التراث العربي، ومن كبار العارفين به والقارئين لنصوصه والملمين بتشعباته وتداخلاته، والفطنين لخوافيه وبواطنه. والحكايات التي رويت عن ولع الغيطاني بكتب التراث ومظانه الذي وصل حد حفظ نصوصه واستظهار صفحات كاملة منه، رويت بمعرفته أو بمعرفة أصدقائه ومريديه، كثيرة وشهيرة ومتنوعة (ورائعة وممتعة أيضًا أيما إمتاع للحقيقة).

    وأنا ممن تأثروا بشدة بولع الغيطاني وشغفه بالتراث العربي والإسلامي، ولا أنسى حينما تولى رئاسة تحرير سلسلة الذخائر (سلسلة معنية بنشر كتب التراث العربي مصورة عن طبعاتها القديمة في طبعات جديدة) في التسعينيات من القرن الماضي، أخرج عددًا رائعًا وممتازًا من عيون كتب التراث العربي في الأدب والتصوف والتاريخ الإسلامي، والنثر العربي الوسيط.

    ولولا هذه السلسلة العظيمة، ولولا جهود الغيطاني، ما تيسر لي ولا لغيري من أبناء جيلي أن يقرأوا لأول مرة ديوان المتنبي كاملا بتحقيق الدكتور عبد الوهاب عزام، ولا أن تصافح عيوننا مقامات بديع الزمان الهمذاني بشرح وتعليق الإمام محمد عبده، ولا كنا قرأنا نص الإشارات الإلهية للتوحيدي. وكانت المرة الأولى التي أقرأ فيها كتاب «التيجان في ملوك حمير» لوهب بن منبه أحد كنوز السرد القصصي العربي القديم، ولا عشرات الكتب التي كونت نواة مكتباتنا التراثية التي نمت وتضخمت لتشمل كل ما أمكننا الوصول إليه من كتب محققة في نشرات علمية موثقة.

    كان الغيطاني، رحمة الله عليه، حجة ثقة في التاريخ الإسلامي العام، وتاريخ مصر الإسلامية، ومظان التراث العربي على اتساعه وشساعته وترامي أطرافه وتشابك مجالاته، ثقافته التراثية والتاريخية والأدبية مذهلة.. كان من العشاق الكبار للسرديات والحوليات الكبرى قرأها بوعي نافذ، وأفاد منها، واستلهم بعضها في إبداع أعماله الرائعة: «الزيني بركات»، «رسالة البصائر والمصائر»، «خطط الغيطاني»، «وقائع حارة الزعفراني»، و«التجليات»، و«رسالة في الصبابة والوجد»، وغيرها..

    بالإضافة لكل ما سبق، فقد لعب دورًا عظيما في التعريف بهذا التراث، والتعريف بتاريخ مصر في العصور الإسلامية خاصة، وكل ما أنتج من ثقافة وفنون وعمارة في الفترة من دخول عمرو بن العاص مصر وحتى غزو بني عثمان لها في القرن السادس عشر.. كل ما تركه من مقالات وكتب ومواد سمعية وبصرية من أفضل ما يمكن أن يعرِّف بهذا التاريخ خير تعريف..

  • 2 -

    ومن بين أدباء جيله اشتهر الغيطاني بنهمه الذي تحدثت به الركبان للقراءة والمعرفة والتبحر الواسع الواعي في كل الفنون والعلوم والمعارف الممكنة، وكان رحمه الله ممن أوتوا هذه الخصلة، ينقل العدوى ويثير الشهية ويشعل الفضول لقراءة أي كتاب أحبه ووقع في غرامه، وله في ذلك قصص وحكايات وطرائق وأساليب لعلها من أحسن ما يمكن أن يقوم به كاتب لتحبيب الناشئة والشباب في القراءة وإغرائهم بها ودعوتهم إليها، هذا جهد لم يلتفت إليه أحد ممن كتبوا عن الغيطاني أو حاولوا دراسة جانب من مشروعه، استأثر إبداعه الأدبي بنصيب الأسد من هذا الاهتمام، ولم تنل باقي جوانبه وإسهاماته الثقافية الاحتفاء اللائق والاهتمام المرجو.

    ربما كانت الناقدة سيزا قاسم من الآحاد الذين توقفوا عند هذا العنصر التكويني في ثقافة الغيطاني محللة وكاشفة عن سريان هذا الرافد التراثي في دماء وشرايين الغيطاني الثقافية؛ تقول إنه كان شغوفا بالكتب والقراءة منذ نعومة أظافره فالتهم الكتب التهامًا، كما كان يتمتع بذاكرة جبارة تختزن كل ما يقرأ، وبنى لنفسه مكتبة خاصة زخرت بنوادر الكتب، خاصة في التراث العربي، فلم يترك مجالًا من مجالات التراث لم يستكشفه ولم يقرأ فيه.

    ولم يكن التراث عند جمال الغيطاني مدفونًا بين طيات الكتب، ولكنه ينبض بالحياة ويعيش حيا في نفوس الناس. يقول الغيطاني في كتابه الرائع «منتهى الطلب في تراث العرب ـ دراسات في التراث»:

    «لحسن الحظ أنني بدأت أكتشف التراث داخلي منذ مرحلة مبكرة. التراث كامن داخلنا، في سلوكنا، في حياتنا اليومية، وأعني بذلك التراث بمفهوم شامل لا يقصره على حقبة معينة، أو اتجاه معين، أعني التراث العربي المكتوب، والشفاهي، العمارة، الرسم، سائر الفنون...» ( منتهى الطلب ص 5).

  • 3 -

    خلاصة وعصارة هذه الثقافة الجبارة وهذه المعرفة الأصيلة الواسعة تجسدت بحيوية وجلاء وجمال في أدب وأعمال الغيطاني، أدبٍ تمثَّل تقاطعات عديدة بين الزمان الممتد والمنفتح على كل العصور، والمكان بكل تفاصيله اللونية والزخرفية والهندسية والمعمارية، كما يكتب سمير مرقس في مقالة بديعة عنه، وبين استلهام التراث المصري المتعدد العناصر بتجلياته: الفرعونية والإسلامية النصية والصوفية، كذلك الأدب الشعبي وإبداعات المبدعين في كل مكان في الشرق والغرب...

    الغيطاني هو من راد طريق التناص الأصيل مع نصوص التراث؛ إدراكه الواعي والفذ لخصوصية هذا التراث وطرائق تشكيله جماليا ودلالات هذا التشكل في اختزان رؤية للعالم والتعبير عنها وتجسيدها في الآن ذاته، حدا به إلى خوض ما أسماه الناقد محمد بدوي خوض مغامرة الشكل الروائي في الستينيات؛ أخذ نفسه بالشدة في المران اللغوي والجمالي يحاكي النصوص أولا مرات ومرات ثم ما تلبث أن تتحول إلى تشكيل جمالي جديد تماما فيه من روح التراث وإلهامه وحيويته وجماله لكنه يجسد رؤية العالم التي امتلأ بها الغيطاني نفسه وكان هو ذاته نتاجا لها ومشكلا إياها أيضًا!

    هذا التناص المركب الصعب أصبح الخميرة الأساسية لأسلوب الغيطاني في القص، كما يرصد الناقد د.صلاح فضل، حيث يسبح في أفق المدونات والنصوص التي تشربها، يحاكي في البداية نماذجها التعبيرية، ثم لا يلبث أن يبتكر نماذجه الخاصة في لون جديد من التناص لم تعرفه الأساليب العربية في السرد قبله.

  • 4 -

    كتاب «حكايات هائمة» (الذي صدر قبل وفاته بمدة قليلة عن دار نهضة مصر) هو آخر ما صدر للغيطاني، خاتمة رحلته العامرة مع الكتابة والتأليف والإبداع، خلاصة وافية لهذه الرحلة الطويلة الممتعة الزاهية بالفتوحات والفيوضات والاكتشافات والاستبصارات، اعتصار مركز لرحلة البحث والتنقيب والقراءة والتحصيل، قد يكون الغيطاني مثل كثيرين ممن حصلوا ثقافة موسوعية هائلة ومذهلة، لكنه من القلائل الذين تمكنوا بجدارة وبراعة من السيطرة على هذا الحشد الهائل من العلوم والمعارف والفنون والفلسفات التي أمضى عمره في الإبحار بين محيطاتها؛ والتمكن من استقطار عوامل الحيوية والاستمرارية والتجدد في كل ما قرأ وعرف، وأن يمتص رحيق هذه المعارف ليحيلها بإبداعه وقدراته الابتكارية والتأملية إلى نصوص من أبدع ما قرأناه ونقرأه في تراث العربية المعاصرة، بل في كل العصور.

    يقول الناقد د.صلاح فضل لقد استطاع الغيطاني بجهده الشخصي ودأبه العبقري وثقافته الذاتية أن يعتصر روح الوجود المقطرة في اللغة والضائعة في الذاكرة حتى ينقض عليها يحملها في منقاره لسماء الأدب، يصب قطرات من ذوب نفسه العطشى للخلود، الغارقة في الوجد، يقطر بكلمات مركزة خبرته في الحياة والجمال، في تكوينات سردية خلاقة، يصفها منذ البداية باعتبارها «هائمة في الذاكرة، بعضها ربما تكون له أصول في الواقع، إلا أنه يصعب تحديدها، وبعضها توهم محض «يذكرك بتوهم المحاسبي البديع فى التراث العربي» - المصادر المذكورة لا أصول لها، ربما فقدت إلى الأبد، وربما لا توجد إلا في مخيلتي».

    هكذا يسدل الغيطاني على صفحاته غلالة شفافة من المراوغة اللعوب، وهو يحسب أنه يكشف عنها الغطاء أو يبوح بسرها الحميم.. (وللحديث بقية)