1619827
1619827
الثقافة

مرفأ قراءة... "الأهواني" وتحقيق نصوص الفلسفة الإسلامية

10 أبريل 2021
10 أبريل 2021

[gallery type="rectangular" columns="2" size="full" ids="852231,852230"]

إيهاب الملاح -

- 1 -

ضمن نشرتها الكاملة المدققة الأنيقة لأعمال المرحوم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1908-1970)؛ أصدرت دار (آفاق) طبعة جديدة رائعة من واحدٍ من ذخائر تراثنا الفلسفي العربي الأصيلة؛ أحد نصوص الفلسفة الإسلامية المبكرة، والرائدة، وهو نص «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»؛ الذي يقع في 144 صفحة من القطع الأقل من المتوسط، بتحقيق وتقديم وتعليق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني.

والكتاب من عنوانه، ألفه أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف الذي برع في علوم عصره النقلية والعقلية؛ كالفلك والكيمياء والرياضيات والفيزياء والطب والفلسفة.. إلخ. يقول عنه ابن النديم في كتابه «الفهرست»:

"فاضل دهره، وواحد عصره، في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ويسمى فيلسوف العرب، ضمت كتبه مختلف العلوم كالمنطق والفلسفة والهندسة والحساب والفلك وغيرها"، فهو متصل بالفلاسفة الطبيعيين لشهرته في مجال العلوم، كما اعتبره باحث عصر النهضة الأوروبية الإيطالي الشهير؛ جيرولامو كاردانو، واحدًا من أعظم العقول الإثنى عشر في العصور الوسطى.

- 2 -

أما الأهواني، لمن لا يعرفه من الأجيال المعاصرة، فهو أحد رواد الثقافة الرفيعة في مصر والعالم العربي في القرن العشرين، وأحد كبار أساتذة الفلسفة الذين قدموا كتابات ومؤلفات وترجمات أقل ما توصف به أنها "ممتازة"، وأنها من أفضل ما كتب في العربية في بابها، لمن يبتغي البحث عن البدايات والخطوات الأولى في مدارجها؛ ماهية الفلسفة، وتاريخها، وأعلامها، وقضاياها وموضوعاتها الرئيسية، توقف عند بعض شخصياتها التأسيسية (الكندي الفيلسوف، وابن سينا، وأرسطو، وأفلاطون، وجون ديوي، وإميل بوترو) وكتب عنها أفضل ما يمكن أن تقرأه بلغةٍ عربية سلسة وعميقة في الوقت ذاته؛

وخلال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، نهل المثقفون من علمه وتدارسوا أفكاره التي كان يطرحها بسلاسة ويسر بعيدا عن التعقيد، بأسلوب سهل بسيط. وقد رافقت كتاباته الفلسفية الأصيلة؛ تأليفا وترجمة وتحقيقا، سلسلة كتب رائعة ألفها في المعارف العامة وعلم النفس والثقافة العلمية (منها كتبه ذائعة الصيت عن النوم والأرق، والخوف، والنسيان، والحب والكراهية.. إلخ)، وبهذا صار بحق أحد أهم رواد التيار التأسيسي العلمي للفلسفة وعلم النفس في النهضة العربية في القرن العشرين.

- 3 -

ولقد كان الأهواني من المدركين تماما لأهمية الترجمة من الثقافات الأخرى، وتعامل معها تعاملاً أسبق فيه المعنى العام للفكرة دون إهمال حَرْفِية النص، الأمر الذي اعتبره المتخصصون في الترجمة خبيرًا قديرًا لمعرفته كيفية استعمال روح الترجمة من لغة أخرى إلى اللغة العربية.

لقد كانت قدرته الفائقة على ترجمة النصوص الأجنبية تعطيه قوة على ترجمة الأفكار، وبالتالي نقلها ونقدها. وكان يؤمن أن سلسلة الحضارات متصلة الحلقات، فكل حضارة كبرى كانت تنهل من قريناتها، وتستفيد من مسيرتها، ولذا كان يرى أن الحضارة العربية الإسلامية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا من خلال الترجمة.

بدأت حركة الترجمة في العصر الأموي على يد خالد بن يزيد، ثم عمر بن عبد العزيز، وازدهرت خلال العصر العباسي في عهد هارون الرشيد، ووصلت إلى ذروتها في عهد المأمون العباسي. وعلى الرغم من اهتمام العرب بترجمة كتب الطب والكيمياء والفلك، من أجل تمام الصحة وتعلم الصناعة ومعرفة مواقيت العبادات، فإن الترجمة توسعت لتشمل جميع الجوانب المعرفية والثقافية، وبخاصة تراث العلوم العقلية (الفلسفة) عند اليونان والأمم القديمة.

من هنا حرص الأهواني على الدعوة إلى ترجمة الفلسفة القديمة والوسيطة والعلوم من الغرب، ونادى بتبنى منهجهم العلمي في البحث، والأخذ منهم ما يناسب المجتمعات العربية وطرح ما لا يناسب خاصة في السلوك والأخلاق، وكان ذلك عندما رأى أن الأخلاق قيمة مفتقدة في العمل والتعامل في العالم العربي.

وأخذ الأهواني على عاتقه بيان أن التراث العلمي والأدبي (والفلسفي) للعرب يحوي ثروة فكرية، علينا تقييمها وتقديرها بالبحث عنها وإعادة صياغة العمل بها بما يتناسب وروح العصر؛ ومن هنا فقد زاوج بين ترجمة النصوص الفلسفية القديمة "اليونانية تحديدا" وبين تحقيق النصوص الفلسفية العربية الأصيلة ومراجعتها على نظائرها من تراث الفلسفة الوسيطة.

- 4 -

وبقدر امتلاك الأهواني ناصية اللغة والتراث العربي والإسلامي الوسيط، مكنته إجادته الممتازة لعديد من اللغات الأجنبية القديمة والحديثة من تحصيل ثقافة مترامية الأطراف سواء في مجال تخصصه الأصيل الفلسفة وعلم النفس، وما يتصل بها، أو في غيرها من الآداب والعلوم والفنون، وبالأخص التاريخ والحضارة والاجتماع وعلم النفس.

جمع الأهواني الشمائل كلها التي يطمح بل ويحلم أي باحث في الجمع بينها؛ تأليفا وتحقيقا وترجمة شرحا؛ أدرك الأهواني أن مفتاح الفهم والتحليل هو إجادة اللغة بمعناها الحرفي والثقافي (العربية أولا، واللغات الأجنبية القديمة والحديثة ثانيا) وضع يده باقتدار على لب الفكرة المنهجية في دراسة العلوم الإنسانية؛ فلا درس بدون قراءة النصوص وفهمها وتحليلها، ولا يمكن أبدا استشفاف المعاني وإدراك الدلالات بدون التمكن التام من اللغة تركيبا وصرفا ودلالة، بمستوياتها المعروفة (قراءة وكتابة وتحدثا وسماعا). والأمر نفسه ينطبق على اللغات الأجنبية التي سيتعلمها لفروض الدراسة (اليونانية القديمة مثلا) واللاتينية، والإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

ولو لم يكن الأهواني مدركا ذلك ومحيطا به ومستوعبا له لم يكن في مقدوره أن يقدم لنا تحقيقه النموذجي لـ «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى» على سبيل المثال، (ولا كتابه التعريفي الآخر بالكندي الفيلسوف)، أو تحقيقه الممتاز لرسالة ابن سينا في «أحوال النفس ـ وبقائها ومعادها». وكل منهما يستحق حديثا خاصا ومفردا.

- 5 -

وأذكر أن أستاذنا الراحل الجليل عاطف العراقي وقد درس لنا الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب، قد توقف طويلا أمام هذا النص؛ وشرح لنا عبقرية التحقيق والتقديم والتعليق والشرح، فهذا نص فلسفي صعب كتبه أحد رواد الفلسفة الإسلامية في بواكيرها البازغة "الكندي الفيلسوف"، وما زالت الآراء تتصارع بين التصورات الدينية الإسلامية الفتية، وبين ما جرى ترجمته من الفلسفات اليونانية القديمة، صعوبة المصطلحات والمفاهيم وغرابة التركيب والاشتقاق.

يقول الأهواني في معرض تحقيقه وتقديمه للنص: "العلوم المختلفة هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارات، والفلسفة هي التاج الذي يجمع أطراف هذه الحضارة، والدين هو الروح الذي ينفخ فيها الحياة، وقد استطاع الكندي أن ينطق بلسان العروبة من جهة دينها، وهو الإسلام، ومن جهة العلوم الحضارية التي ترفع من شأن الأمم، فألم بهذه العلوم وأحسن تلخيصها، وكتبها بلغة عربية سليمة، ووضع لها مصطلحات قريبة المأخذ جارية في الاستعمال مقبولة عند الذوق. وهكذا أثبتت اللغة العربية بألفاظها وتراكيبها أنها لغة حضارة".

فقدم الأهواني درسا في التحقيق العلمي المستوفي لشروطه من حيث الرجوع إلى المخطوطات المتاحة والمقابلة بينها واعتماد واحدة منها وفق شروط منضبطة كأصل تقابل عليه بقية النسخ؛ ثم وبعد الانتهاء من ذلك كله، يقدم بين يدي الكتاب بدراسة أقل ما توصف به أنها مقدمة وافية شارحة مؤطرة للموضوع؛ تاريخيا وفكريا وفلسفيا، ولا ينسى المحقق أن يعلق على ما يستدعي التعليق في هوامش الكتاب؛ نموذج متكامل للتحقيق العلمي والنصي المعاصر لنصوص الفلسفة التراثية القديمة.

كل ذلك إذا لم يكن في حسبان الباحث وفي كامل اليقظة والانتباه له سقط في براثن الغموض والتف حول نفسه وابتلعه النص الذي يعالجه! وهو ما نراه بأعيننا في العقود الأخيرة من باحثين يدعون أنهم يقدمون تحقيقات وترجمات ما أنزل الله بها من سلطان عوارها الأول والأوضح هو الجهل باللغة!

ولا أظن أن مقالا واحدا يفي بأثر الأهواني الكبير وجهوده الفذة وإنتاجه العلمي المعتبر، الموزع على مساحات شاسعة من التاريخ الفلسفي، وأعلامه وقضاياه... (وللحديث بقية).