1620525
1620525
الثقافة

العلمانية الفرنسية "غير الليبرالية"

11 أبريل 2021
11 أبريل 2021

بقلم: نيكولا كادين -

ترجمة : أحمد شافعي -

خلال الشهور الأخيرة، أثارت فكرة اللائكية laïcité، أو العلمانية الفرنسية، عددًا من الجدالات على الساحة العالمية، وبخاصة في الولايات المتحدة،. فقد أثار عدد من الأصوات مخاوف من نموذج اللائكية الفرنسية، ووصفه البعض بـ"اللاليبرالي". وعقد آخرون مقارنة مع نموذج الفصل الأمريكي بين الكنيسة والدولة لم تأت نتيجتها في صالح النموذج اللائكي.

تشترك فرنسا والولايات المتحدة تاريخيًا في أكثر مما تتذكرانه في بعض الأحيان. فاللائكية نفسها فكرة نشأت خلال عصر التنوير الذي كان إلهامًا أيضًا للولايات المتحدة. تبنت الولايات المتحدة فكرة الحد الواضح لأثر الدولة على الشؤون الدينية من خلال التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة في عام 1791. وتبنت فرنسا المبدأ نفسه في عام 1795 قبل التخلي عنه ثم تبنيه تبنيًا كاملًا في عام 1905.

ثم إن الظروف التي دخل فيها المفهوم نفسه حيز التنفيذ تشعبت على نحو غير هين. فترسخت العلمانية الأمريكية في تجربة المهاجرين الذين هربوا من أوروبا بعد تعرضهم للاضطهاد بسبب ممارساتهم الدينية. وبتأثير من ذلك التاريخ، ركزت مادة التأسيس في دستور الولايات المتحدة على منع الحكومة الفيدرالية من التدخل في ممارسات الأفراد الدينية.

أما في فرنسا، فتأسست فكرة الفصل على غاية تحرير الدولة من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية التي أدى نفوذها إلى اضطهاد الأقليات الدينية. والنتيجة متماثلة، هي الفصل بين الدولة والدين حفاظًا على السلم المدني في مجتمعين متعددين. غير أن علمانية الولايات المتحدة تركز على حرية الفرد الدينية فيما تركز اللائكية الفرنسية على الحرية الجمعية من المؤسسات الدينية.

ثمة عامل أساسي آخر يفسر الاختلافات الفرنسية الأمريكية، ويكمن هذا العامل في اختلاف عمليتي إحلال العلمانية في البلدين. فالمقارنة تبين أن الأمريكيين كانوا لوقت طويل أكثر تدينًا من الفرنسيين، برغم أن تراجع الالتزام الديني في الولايات المتحدة ربما يكون قد ضيَّق هذه الفجوة إلى حد ما في السنوات الأخيرة. أما العلمانية الفرنسية ـ على النقيض ـ فقائمة منذ القرن التاسع عشر، ويتزايد عدد المواطنين الفرنسيين غير الممارسين لأي دين، إذ يعد ثلاثون في المائة من الفرنسيين أنفسهم ملاحدة في مقابل أربعة في المائة فقط من الأمريكيين.

في عالم تصوغه دوائر الأخبار ووسائل الإعلام الاجتماعي، يمكن أن تضيع قضايا معقدة مثل "اللائكية" في الترجمة؛ لأن اختلاف السياسات التاريخية والسياسية والاجتماعية يجعل لـ"العلمانية" معنى مختلفا في كل مجتمع. وبهذا الاعتبار تكون اللائكية الفرنسية شديدة القرب من العلمانية المكسيكية أو الألبانية، لكنها شديدة الاختلاف عن النموذج القائم في تركيا أو بلجيكا أو البرازيل.

يذهب منتقدو اللائكية إلى أن روح عام 1905 الليبرالية التأسيسية باتت الآن أداة لقمع المسلمين. وينفصل هذا الافتراض عن الممارسة الفعلية للائكية. فهي ليست معادية للدين أو معادية للمسلمين. إنما يفترض باللائكية أن تحمي قوات الأمن الفرنسية المساجد شأن أي مكان عبادة. وبفضل اللائكية تضمن الدولة الحرية الدينية وتحمي بفاعلية هذه الحريات عندما يدعو الداعي. فالحكومة على سبيل المثال تنظم وتدفع للقساوسة في المستشفيات والجيش والسجون والمدارس الداخلية العامة لتضمن للمتدينين ممارسة دينهم.

ثمة عدد محدود من الاستثناءات للحرية الدينية، حيث يقيَّد التعبير الديني لأسباب تتعلق بالنظام العام. في ما يتعلق بارتداء رموز دينية، كالحجاب أو الصليب، فإنها ممنوعة على الموظفين المدنيين في العمل؛ لأنهم يمثلون الدولة المحايدة. في المدارس العامة الفرنسية، يطلب من التلانيذ الاقتصار على ارتداء الرموز الدينية الخفية حفاظًا على بقاء المدارس الابتدائية والثانوية فضاءات محايدة واجتنابًا للتأثير على الآخرين. ويقصد باللائكية أن تضمن للمدارس لقدرة على تقديم التعليم دونما تأثر بالمعتقدات الدينية. وهذا لا يمنع مناقشة الدين كموضوع تاريخي، مع التمييز بين المعرفة والمعتقدات.

وللجميع أن يجادلوا في ما إذا كان يجب تحديث الإطار اللائكي المتعلق بهذه الاستثناءات. لكن تصوير هذه الاستثناءات باعتبارها أشكالًا ممنهجة للقمع هو تصوير مضلل. فبرغم أن الاستثناءات الفرنسية من الحرية الدينية كثيرًا ما تتعرض للتشكيك في النقاشات الدولية، فإنه يجدر بالملاحظة أن قانون 2004 بحظر الرموز الدينية ـ ومنها ارتداء أغطية الرأس ـ في المدارس العامة مقبول على نطاق واسع من المسلمين الفرنسيين، مثلما يتبين من خلو المحاكم بصفة عامة من قضايا أو حوادث تتعلق بمعارضة القانون منذ 2008.

لا يعني هذا أن اللائكية لا تواجه تحديات. فالقانون لا يطبق دائمًا على النحو الصحيح، لكن بوسع ضحايا التمييز أن يقاضوا المجرمين، والمحاكم متاحة للتوضيح. فحينما أراد بعض حكام الولايات حظر ارتداء ما يعرف بالبوركيني في أحد شواطئ الرفييرا الفرنسية، أدانت إحدى أرفع المحاكم الفرنسية الحكومة المحلية وألغيت الغرامات.

إن الممارسات الدينية تتطور وبوسعها أن تخلق قضايا جديدة مثل النقاب ـ أي غطاء الوجه ـ الذي لم تكن تستعمله مسلمات فرنسا حتى بدايات القرن الحالي لكنه يعد الآن التزامًا دينيًا لما بين 1000 إلى 2000 منهن. في بعض الحالات، تظهر تصرفات منعزلة، أو صراعات محلية، أو جماعات دينية لتمتحن الحدود القانونية والتماسك الاجتماعي. وكثيرًا ما يتجاهل منتقدو اللائكية تطورات من قبيل الضغوط المتواترة من المتطرفين باسم دينهم بهدف فرض قواعدهم الخاصة على المؤسسات العامة المحلية وعلى المجتمعات. وقد اضطرت السلطات الفرنسية إلى التعامل مع أوضاع إشكالية متعلقة بأقلية أكثر راديكالية ضمن جماعة علمانية عمومًا من المسلمين الفرنسيين.

فعلى سبيل المثال، يعارض عدد محدود من الإسلاميين تدريس مواد معينة في المدارس العامة، ويتحدون تطبيق قوانين كالمتعلقة بزواج المثليين أو المساواة بين النساء والرجال. بل إن منهم من يمضي إلى حد التهديد بقتل الموظفين المدنيين والمعلمين، مثلما تبين للأسف من ذبح صمويل باتي. كما تمتحن الهجمات الإرهابية قوة المجتمع وتستهدف إضعاف المؤسسات، وبخاصة في الوقت الذي يشهد صعود أشكال أخرى من التطرف، ففي ديسمبر 2020 قتل كاثوليكي متطرف ثلاثة ضباط شرطة.

وإلى الآن يبقى المجتمع الفرنسي قويًا. غير أن هذه التحديات تثير جدالا محتدما ـ ومريرا في بعض الأحيان ومتزايد الاستقطابية ومربكا ـ حول الردود الحالية والمستقبلية، ومنها الردود على الممارسات الدينية واللائكية. ويستعمل المتطرفون اليمينيون هذا السياق غطاء لخطابهم المعادي للأجانب وتعصبهم ضد المسلمين.

وهم كثيرا ما يظهرون حالات محدودة ـ من قبيل رفض رجال أن تعالجهم طبيبات في المستشفيات العامة ـ باعتبارها ممارسات منتشرة في حين أنه يمكن التعامل مع هذه التصرفات المنعزلة في إطار القانون القائم. والحق أن الجماعات اليمينية المتطرفة تستعمل فكرة اللائكية على نحو يناقض الغرض منها، فهم يسعون إلى قسمة المجتمع بينما الغاية من اللائكية هي تقوية التماسك. وقد أثار هذا جدالًا، شمل الحكومة الفرنسية نفسها، حول أفضل سبل منع اليمين المتطرف من السطو على اللائكية وتشويهها.

إن العلمانية مفهوم حي يمكن أن تحاول جماعات مختلفة إعادة صياغته. فقد استعمل بعض الساسة والنشطاء من اليمين واليسار هذا الجدال لإعادة فتح نقاشات كانت قد استقرت منذ عام 1905. فيدفعون مثلا بفكرة أن اللائكية لا ينبغي أن تنطبق فقط على الموظفين المدنيين والمدارس العامة بل على جميع الفضاءات العامة، بما يعني إقصاء الرموز الدينية عن الشوارع والميادين والجامعات التابعة للدولة.

لا يجب الخلط بين الضغوط من أجل فرض إطار علماني أكثر تزمتًا والمحاولات الرامية إلى تطبيقه والحفاظ على روحه. لكن هذه النقاشات ـ مجتمعة ـ يمكن أن تخلق بيئة متوترة وبخاصة حينما يقع المواطنون ـ في كلا جانبي المحيط الأطلنطي ـ في شرك غرف الأصداء الإعلامية التي تضخم الأصوات الاستقطابية أو تشوه نية سياسة معينة، كما حدث مثلا عندما اتهمت الحكومة بـ"تتبع" التلاميذ المسلمين.

من المهم أيضا عدم الخلط بين نقاش لكيفية تعريف العلمانية وقضايا أخرى أوسع. ففرنسا ـ شأن بلاد أخرى ـ لا بد أن تعالج التعصب والعنصرية والعزل الاجتماعي والتمييز، وبخاصة ما قام منه على الدين. ولا بد أن تستمر الحكومة الفرنسية في معالجة جذور هذه المشكلات.

وما من حل سحري، لكن هناك تدخلات حكومية جوهرية ومطردة، مثل الخطة الجديدة لاستثمار قرابة أربعة بلايين دولار في الإسكان والتعليم وإجراءات جديدة لتيسير تولي الوظائف العليا في المجتمع المدني. هذه إجراءات محورية لرفع الحواجز دون المساواة والتي غالبًا ما تؤدي إلى التمييز والإقصاء الاجتماعي، وفرنسا ـ مثل بلاد أخرى ـ سوف تضطر إلى بذل المزيد من أجل تقوية التماسك الاجتماعي والحفاظ على القيم الديمقراطية.

لكن استعمال اللائكية الفرنسية ككبش فداء في هذه المشكلات الأعم يقوض أداة ثمينة هدفها الربط بين المواطنين وترسيخ المؤسسات. لقد أجريت العديد من التدريبات في شتى أرجاء البلد وتبين لي أن الأغلبية الكاسحة من الشعب الفرنسي ـ بغض النظر عن الخلفية ـ تؤمن أن العثور على توازن بين حماية الحريات الدينية والحفاظ على النظام العام مسألة مهمة.

إن لدى الجماعات الدينية مساحة لتنظيم عبادتها كما تشاء. ومؤسسة مراقبة اللائكية كثيرا ما تلتقي وتدرب المواطنين الفرنسيين من شتى الخلفيات ـ ومنهم المسلمون بالطبع ـ الذين يعتبرون ارتباطهم باللائكية كمبدأ يتيح لهم التعبير عن معتقداتهم مع ضمانه دولة محايدة. وتأكيدا لذلك أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسستي أخيرًا أن 73% من المواطنين الفرنسيين عبروا عن تأييدهم للائكية.

سواء أكانت حكومة ما تؤكد حرية الدين أم التحرر من الدين، فمن المفيد أن نتأمل التماثلات بين نظامي الولايات المتحدة وفرنسا وألا نسقط الحروب الثقافية لكل نظام على النقاش.

ولكي نشهد على ذلك، يجدر بنا أن نتذكر شخصية أمريكية كانت مصدرًا أساسيا ملهما لمستقبل نموذج اللائكية الفرنسي المستقبلي: في عام 1936 كان القس البيوريتاني روجر وليمز ـ مؤسس مدينة بروفيدنس بعد طرده من مساتشوستس ـ هو أول من استعمل صيغة "جدار الفصل" بين الدين والدولة، وقد طبقه في تلك المدينة، ضامنًا حرية العبادة للجميع، مهم يكن دينهم.

كتب يقول: "لا مغزى للانفصال عن البابوية، وترجمة الإنجيل إلى العامية، والسماح حتى لأبسط الرجال والنساء بدراسة الكتب المقدسة، لو أنهم مرغمون من بعد على الإيمان بمثل ما تؤمن به الكنيسة". وينتهي بتذكر ضرورة يتفق عليها الأمريكيون والفرنسيون: "إن الحرية المطلقة للضمية ضرورة للجميع".

*كاتب المقال هو السكرتير العام لمنظمة مراقبة اللائكية، وهي مؤسسة غير حزبية تستشيرها الحكومة الفرنسية وتدرب عناصر تابعة للدولة أو غير تابعة لها على شؤون الحرية الدينية.

نشر المقال في فورين بوليسي بتاريخ 7 أبريل2021