333-Recovered.ق٣٢٢ق٣٢٣ق
333-Recovered.ق٣٢٢ق٣٢٣ق
الثقافة

أجراس: رحمة المغيزوية.. غياب يشبه خاتمة قصة قصيرة

11 أبريل 2021
11 أبريل 2021

حسن المطروشي

برز قبل قرابة 10 سنوات اسم رحمة المغيزوية، كأحد الأصوات المميزة في مجال القصة القصيرة في السلطنة. وقد كانت آنذاك نشطة في النشر عبر الصحافة الثقافية، كما كانت حاضرة في الفعاليات الثقافية والأدبية المختلفة. وقد صدر لها ـ على حد علمي ـ مجموعتان قصصيتان، هما (كاذية بنت الشيخ) 2008م، عن دار الفرقد، و(جميلة وأشياء أخرى) 2011م، عن منشورات مؤسسة الدوسري للثقافة والإبداع، ضمن إصدارات البرنامج الوطني لدعم الكتاب بالنادي الثقافي. ولكن رحمة المغيزوية بعد صدور مجموعتها الثانية انسحبت من المشهد بهدوء، وابتعدت عن النشر، حتى غابت تماما، كأنما تكتب بغيابها نهاية إحدى قصصها اللافتة.

شكلت رحمة المغيزوية صوتا قصصيا متفردا بين تجارب جيلها، ولفتت إليها أنظار القراء والنقاد على حد سواء. كانت قصصها مزيجا من الواقع والتاريخ والخيال والحكايات والأساطير والغموض والسحر والطقوس التي تعيشها الحارات العمانية القديمة، لاسيما في ساحل الباطنة حيث ترعرعت القاصة وعاشت كل مراحل حياتها، وجمعت كل تلك الحكايات والمرويات التي تتناقلها الألسن وتدور في المجالس بعد العصر أو وقت العشاء عندما تجتمع النسوة ويسردن قصصهن ويروين حكاياتهن ويتبادلن النمائم ويحكين أوجاعهن ويبُحْن بأسرارهن الصغيرة ويثرثرن حول همومهن وما تجيش به لواعجهن.

كانت رحمة المغيزوية ترصد كل ذلك عبر مخيلة المبدع وتختزنه في ذاكرتها التي شكلت فيما بعد موردا خصبا لمشروعها الإبداعي، نتج عنه مجموعتان قصصيتان في فترة وجيزة. وقد تشكلت ملامح هذه التجربة منذ المجموعة الأولى (كاذية بنت الشيخ).

في قصتها (جميلة وأشياء أخرى) تقول رحمة المغيزوي تحت عنوان (حلم): ""في الصباح الباكر كانت صورة "جميلة" حاضرة، في أذهان النساء في القرية، كل واحدة تسنى لها ـوعلى مدار الأسبوع الفائت ـ أن ترى "جميلة" كطيف مهاجر، وفي الأحلام كانت "جميلة " ترسم وجه صاحبة الحلم، تضحك ومن ثم تعود إلى كل واحدة شاهدت الطيف لتسر لها شيئا غير مسموع، وفي الفجر الذي شاهدتها "فاطمة" فيه في نومها شككت، كانت في شك من أمرها أن تزورها بعد كل ذلك الغياب، ولكنها هي "جميلة" ، بشعرها الأسود الذي إذا لم ينسدل على جبينها فإنه طوله يفضحه على ظهرها. "جميلة" ظهرت في الحلم كأيام "أم مبارك"، مبتسمة وأكثر شبابا، كان طيفها يتلون أحيانا مع طيف "أم مبارك" يمتزجان ومن ثم يعودان للانفصال. لم تبسم "جميلة". قبل انتهاء الحلم كان طيفها يملأ غرفة".

يقول الناقد العراقي الدكتور ضياء خضير في "دراسة فـي النصوص السردية العُمانية لـ(رحمة المغيزوية ـ هدى الجهورية ـ بشرى خلفان ـ جوخة الحارثي)، نشرت في مجلة "نزوى": "نشعر عند قراءتنا قصص رحمة المغيزوية أن فضاء اجتماعيا وتاريخيا وجغرافيا معينا يكتب نفسه ويتعرف إلى ذاته ويعيد النظر في صورته من خلال استعادة هذه المجموعة المدهشة من الحكايات والأمثال والمأثورات الشعبية والأغاني والأشعار والمعتقدات. إن القصة (تحيي، بذلك، عروق الفرح المنطفئة) في المكان، كما تذكر الساردة مرة على لسان أحد أبطالها.

ويضيف الدكتور ضياء خضير: "ويمكن الإشارة بهذا الصدد إلى سمتين رئيستين موجودتين ومتداخلتين في بناء كثير من هذه الحكايات، وهما غرابة الشخوص الذين يمثلون أبطال هذه الحكايات وقدرتهم الاستثنائية على الخروج عن أعراف القرية وتقاليدها القارة، ثم إحساس المفارقة والسخرية الذي ينتظم بنية بعض هذه الحكايات من أولها إلى آخرها."

نصوص رحمة المغيزوية تأخذ قارئها فور دخوله إليها إلى عوالمها الغامضة الخاصة التي تتكئ على المخيلة الشعبية وتنسج منها سحرها الخاص، لتصوغ نصوصا تملأ قارئها بالدهشة والخوف والترقب، وتصحبه في جولة غريبة بين أصوات جنها وسحرتها وطقوسها وأغانيها وكائناتها العجائبية الكثيرة.

في مستهل مجموعتها (جميلة وأشياء أخرى) تبدأ رحمة المغيزوية بقصة (شرقا جهة ... أبو راشد العود)، لتأخذ القارئ مباشرة إلى فضائها الحكائي الخاص، وهو ما يتضح من مطلع القصة التي تقول: "يتكلم جدي "محمد بن صالح" ووجهه معقود إلى الشرق، جهة الشمس العظيمة، بأنه دأب عبر العشرين سنة الماضية على الاستظلال بالحجر، رأيته يعلق أحداقه إلى الجبال، المكان الذي يغزو قبله ويبقيه كائنا جديدا، ويشعره بأنه يسمو إلى الأعلى، إلى السحاب الأبيض. وكلما شاهد التقاء جبلين شهق بحسرة وقاده الحنين إلى موطئ أقدامه العتيق، كان إحساسه يعظم بأن هنالك حياة متواصلة تدب بتفان عجيب بين الصخر الصامت.

بعينين متقدتين يخرج "محمد بن صالح" عصاه العتيدة ليصل إلى ذاته، يشير إلى رأسه ليخبرني أن لا شيء يموت في ذاكرة الجبال، لأنها تبقي كل ما تراه وتسمعه بين طياتها، و يقول بلهجة خبير متمرس:

- معهم هناك، ستلقى تحت كل حجر وجها وحكاية !"

لسنا في هذا المقال في سبيل تقديم رؤية نقدية لقصص رحمة المغيزوية أو مساءلة القاصة عن غيابها ـ ولها الحق التام في ذلك ـ ولكننا في سبيل مناقشة غياب المبدع بشكل عام. إن غياب مبدع يشكل ثلمة في جمال الوجود، ويمثل خسارة فادحة للحياة، ولا بد من البحث عنه ومعرفة أسباب غيابه المفاجئ. لقد كانت رحمة المغيزوية يوما صوتا قصصيا ساطعا، ثم اختفى فجأة دون مقدمات.

يمر المبدعون عموما بفترات متفاوتة من الغياب والسكون والحضور، وهو توقف مرحلي لأسباب كثيرة، كل حسب تجربته. وبكل تأكيد أن رحمة المغيزوية ليست بدعا من ذلك، ولكننا نأمل أن يكون هذا الغياب تكتيكا استراتيجيا مرحليا بهدف ترتيب الأوراق ومراجعة الحسابات وتطوير الأدوات والبحث عن فضاءات جمالية وتعبيرية جديدة، تعود بعدها الكاتبة بأعمال إبداعية مغايرة. إن الكتابة فعل إلحاح داخلي، ليس بوسع المرء أن يتخلص منه على نحو تام. وإذا قرر المبدع مغادرة جزيرته، فإنه قد اتخذ قرارا بالقفز في المحيط واختيار الغرق!