الاقتصادية

كيف يمكن أن تطيح الأسواق باقتصاد العالم؟

21 نوفمبر 2025
21 نوفمبر 2025

إذا انهارت سوق الأسهم الأمريكية سيكون ذلك أحد الانهيارات المالية الأكثر توقعا على الإطلاق. فكل أحد، من قادة البنوك والى القائمين على صندوق النقد الدولي، حذروا من الإفراط في تقييم شركات التقنية في الولايات المتحدة.

على أية حال يستعد مسؤولو البنوك المركزية للمتاعب المالية. والمستثمرون الذين اشتهروا بسبب نجاح رهانهم على انهيار سندات قروض رهانات العقارات الأمريكية في الفترة 2007-2009 ظهروا مجددا لمراهنة أكبر. فعند أية إشارة على تذبذب الأسعار مثل الانخفاض الطفيف الذي حدث مؤخرا في مؤشر "ناسداك" لسندات شركات التقنية تتكاثر التكهنات بأن السوق على حافة الانهيار.

ولا عجب في ذلك. فنسبة الأسعار إلى الأرباح المعدَّلة دوريا لمؤشر ستاندارد اند بورز والتي رفعتها أسهم شركات التقنية العملاقة بلغت مستويات لم يشهدها الناس منذ فترة ازدهار شركات الإنترنت. (نسبة الأسعار إلى الأرباح المعدَّلة دوريا تعني متوسط الأرباح الحقيقية للسهم على مدى فترة زمنية طويلة مثلا عشرة سنوات وذلك لتحديد احتمال حدوث تصحيح سعري أو فقاعة أو حتى انهيار في السوق عندما يكون المتوسط مرتفعا بشدة أو أعلى كثيرا من مستواه التاريخي الذي يتراوح بين 15 و16. أما الآن فهو عند حوالي 40 تقريبا- المترجم).

يراهن المستثمرون على أن الإنفاق الضخم على الذكاء الاصطناعي سيؤتي أُكُلَه. لكن من الصعب بلوغ الأرقام المستهدفة. فلكي تحقق الشركات عائدا بنسبة 10% على رأس المال الذي من المتوقع استثماره في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 ستحتاج في مجموعها إلى إيرادات سنوية بحوالي 650 بليون دولار أو ما يزيد على 400 دولار سنويا من كل مستخدم لهاتف آيفون، بحسب تقدير بنك جيه بي مورجان. وتوضح التجارب السابقة أن مثل هذه التوقعات الكبيرة من التقنيات الجديدة كثيرا ما تخيب في البداية، حتى إذا غيرت هذه التقنيات العالم لاحقا.

مع ذلك وعلى الرغم من أن حدوث انهيار في السوق لن يدهش أي أحد تقريبا إلا أن قليلين هم أولئك الذين فكروا في عواقبه. أحد أسباب ذلك الاحتمال الضعيف في أن يقود هبوط كبير في أسواق الأسهم إلى أزمة مالية كبيرة في الوقت الحالي. ففورة الحماس تجاه الذكاء الاصطناعي الحالية مدفوعة في معظمها بالتمويل بالأسهم (الاستثمار في شركات الذكاء الاصطناعي) خلافا لما حدث في أواخر العشرية الأولى عندما ساهم الاستخدام واسع النطاق للرافعة المالية إلى جانب الهندسة المالية المعقدة في انفجار فقاعة مدفوعة بالديون في الرهونات العقارية عالية المخاطر.

ما هو أكثر من ذلك، أظهر الاقتصاد الحقيقي في السنوات الأخيرة أنه يستطيع تحمّل الصدمات بشكل لافت بداية من أزمة الطاقة في أوروبا وإلى الرسوم الجمركية الأمريكية. فالانكماشات الاقتصادية تتحول باطراد إلى أحداث نادرة.

مع ذلك من الخطأ الاعتقاد بأن أثر الخسائر الكبيرة في سوق الأسهم سيقتصر على محافظ المستثمرين. فكلما طال أمد الازدهار كلما صار تمويله أقل شفافية. وحتى بدون كارثة مالية قد يؤدي هبوط مثير في سوق الأسهم إلى تراجع اقتصاد العالم الذي لايزال مَرِنَا حتى الآن.

السبب الأساسي للضعف هو المستهلك الأمريكي. فالأسهم تشكل 21% من ثروة العائلات في الولايات المتحدة أو ما يزيد بحوالي الربع عن نسبتها من هذه الثروة أثناء ذروة ازدهار شركات الإنترنت. أما الأصول المتعلقة بالذكاء الاصطناعي فمسؤولة عما يقارب نصف الزيادة في ثروة الأمريكيين خلال العام الماضي.

ومع ازدياد ثرائها، صارت العائلات الأمريكية أكثر ميلا لتقليل ادخارها مقارنة بفترة ما قبل جائحة كوفيد-19 ولو أن ذلك ليس بالمستوى الذي قللت به ادخارها خلال فترة ازدهار القروض العقارية عالية المخاطر.

الانهيار سيعكس هذه الاتجاهات. وفقا لحساباتنا في الإيكونومست، سيقلص هبوط أسعار الأسهم على نحو مماثل لانهيار أسهم شركات الإنترنت صافي ثروة العائلات الأمريكية بنسبة 8%. ويمكن أن يسبب ذلك خفضا كبيرا في الإنفاق الاستهلاكي. فوفقا لأحد المقاييس الشائعة سيشكل التراجع في هذا الإنفاق (التقشف) 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ما يكفي لدفع أمريكا التي تعاني سوق العمل بها إلى انكماش اقتصادي. وسيكون أثر انخفاض إنفاق المستهلكين على الاقتصاد أكبر بكثير من أثر نضوب الاستثمار في الذكاء الاصطناعي الذي يذهب جزء كبير منه إلى الرقائق الإلكترونية المستوردة من تايوان.

سيتسلل تأثير الصدمة والطلب الأمريكي الضعيف إلى أوروبا المتدنية النمو والصين التي تواجه انكماشا في الأسعار مما يفاقم أثر الضربة التي تعرض لها المصدرون من رسوم ترامب الجمركية. ولأن الأجانب لديهم انكشاف بقيمة 18 تريليون دولار على الأسهم الأمريكية سيكون هنالك أثر ثروة بسيط (تأثير طفيف) على الإنفاق الاستهلاكي عالميا.

ما هو جيد أن الانكماش العالمي الذي تعود جذوره إلى أسواق الأسهم لا يلزم أن يكون عميقا. وذلك تماما مثلما كان التراجع الذي أعقب انهيار أسهم شركات الإنترنت والذي تجنبته اقتصادات كبيرة وعديدة. وما هو مهم أن بنك الاحتياط الفيدرالي لديه مجال كاف لخفض أسعار الفائدة وتعزيز الطلب. وستتعامل معه بعض البلدان بالتحفيز المالي. مع ذلك سيكشف التراجع في النمو مكامن الضعف في المشهد الاقتصادي والجيوسياسي الحالي بإضعاف هيمنة أمريكا المتراجعة أصلا وتقويض الموازنات الحكومية وتقوية النزعة الحمائية.

بدون ازدهار الذكاء الاصطناعي سيكون الاقتصاد الأمريكي مماثلا لحاله في الربيع. أي مهددا بالرسوم الجمركية وبالمؤسسات التي تحاصرها المشاكل والصراعات السياسية المتزايدة (أطول أغلاق حكومي في الولايات المتحدة انتهى قبل فترة وجيزة فقط).

حين يحدث انكماش اقتصادي تكون الولايات المتحدة عادة ملاذا. لكن في هذه الظروف ومع أكبر خفض لتوقعات نموها قياسا باقتصادات البلدان الأخرى لن يكون الاندفاع نحو الدولار مضمونا بعد تراجع الطلب عليه بنسبة 8%هذا العام. وعلى الرغم من أن ضعف الدولار سيحل بركة على باقي العالم، والذي يشدِّد ارتفاع سعره الأوضاع المالية، إلا إنه يعزز الفكرة القائلة إن الاستثنائية الأمريكية (امتياز الدولار كعملة الاحتياط العالمية) ليست كما كانت في السابق. وستكون الخطورة على الدولار كبيرة خصوصا بالنظر إلى أن عام 2026 قد يشهد تأثيرا سياسيا كبيرا جدا على قرارات بنك الاحتياطي الفيدرالي. الانكماش من شأنه أيضا أن يضع الحكومات المدينة في كل مكان أمام اختبار مالي صارم. ستخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة. وهذا يقلل تكاليف خدمة الدين الهائل لبلدان العالم الغني والذي يساوي 110% من ناتجها المحلي الإجمالي. لكن العجوزات ستزداد أيضا مع ارتفاع الإنفاق على الرعاية الاجتماعية وهبوط الحصائل الضريبية.

في بلدان الاقتصادات الأكثر هشاشة قد تتسبب المخاوف المالية في مراوحة عوائد السندات طويلة الأجل في مكانها أو حتى ارتفاعها مع خفض البنوك المركزية أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وهذه دينامية ظلت تظهر بين الفينة والأخرى خلال العامين الماضيين. ومن الصعب تخيل أسواق تتيح لبلدان كفرنسا أو بريطانيا مساحة كبيرة للتحفيز المالي.

النتيجة الأخيرة للانكماش ستتعلق بالتجارة. فمن المؤكد تقريبا أن الأمريكيين حين يقللون إنفاقهم سيقلصون العجز التجاري. وهذا ما سيسعد دونالد ترامب. ومع سوء وضع الأسواق سيكون البيت الأبيض أقل تشددا في سياساته التجارية. لكن ستشتعل بؤرة التوتر الأخرى في التجارة العالمية والمتمثلة في الفائض الصيني من السلع المصنَّعة.

لقد توجب سلفا على المنتجين الأوروبيين والصينيين المنافسة مع تخمة السلع الصينية والتي تزداد مع انخفاض صادرات الصين إلى أمريكا. سيتسبب تباطؤ الاقتصاد في الولايات المتحدة في تعاظم تلك التخمة. وهذا سيعزز رد الفعل الحمائي.

ربما يتوقع العالم انهيارا في سوق الأسهم الأمريكية. لكن ذلك لا يعني أنه مستعد لعواقبه.