الاقتصادية

تكاثر أنظمة المدفوعات الوطنية

24 مايو 2024
ترجمة: قاسم مكي
24 مايو 2024

في فبراير 2022م دَهَنَ المتظاهرون ضد حرب أوكرانيا وجوههم بالطلاء ولفُّوا أجسامهم بالأعلام الأوكرانية، ورفعوا لوحات تحمل رسائل هائجة حول الجمعية العالمية للاتصالات المالية بين البنوك (شبكة سويفت). كان ذلك شيئًا معقولًا (من وجهة نظر الغرب)، فعندما هاجمت روسيا أوكرانيا بحثت البلدان الغربية عن سبلٍ لمعاقبتها، وكان خيار عزل البنوك الروسية من هذه الشبكة الأساسية التي تُستخدم للمدفوعات الكبيرة عبر الحدود سهلًا وواضحًا؛ فهو سيقطع شريانًا حيويًا يربط العالم بالنظام المالي الروسي مما يضيف إلى حزمة العقوبات التي من شأنها سحق اقتصادها، لكن روسيا كانت مستعدة، فقد سبق لها بعد دخول قواتها شبه جزيرة القرم وشرقي أوكرانيا في عام 2014 أن واجهت نفس التهديد بفصلها عن سويفت. وقالت ألفيرا نابيولينا محافظة البنك المركزي الروسي لشبكة سي ان بي سي في عام 2018: هنالك مخاطر في استخدام الشبكات المالية العالمية، لذلك منذ عام 2014 شرعنا في تطوير أنظمتنا الخاصة بنا. هذه الأنظمة هي نظام (اس بي اف اس) وهو خدمة رسائل مالية القصد منه أن يحل محل سويفت للتحويلات بين البنوك وشبكة بطاقة المدفوعات (مير) لإحلال الشركات الغربية التي تقدم خدمات الدفع الإلكتروني والتحويلات المالية مثل فيزا، لكن استبعاد روسيا من أجزاء من نظام المدفوعات العالمي في عام 2022 سيزعج العديدين من أمناء أموال شركاتها ومن المؤكد أنه جعل المعاملات عبر الحدود أشد صعوبة، غير أنه لم يوجه ضربة قاصمة.

أنظمة مدفوعات الصين والهند

روسيا حالة متطرفة لاتجاه عريض؛ فشبكات المدفوعات الوطنية تكاثرت حول العالم الذي هيمنت عليه في وقت ما الشبكات الغربية، هذه الأنظمة الوطنية ظهرت في معظمها ليس بسبب الرغبة في تجنب العقوبات عند غزو الجيران ولكن لتقديم بنية أساسية رقمية حيوية لسكان بلدان يتسارع نموها الاقتصادي. كما يشتهي مهندسوها تدفقاتِ الإيرادات والنفوذ السياسي المصاحب للسيطرة على بنية المدفوعات الأساسية المدفوعات التي ترتكز عليها التجارة الدولية، إلى ذلك هم منتبهون أيضا إلى تحويل الغرب النظام المالي لسلاح ويبحثون عن سبل تجنب الوقوع ضحايا له، الأمثلة الأكثر تطورا لهذه الأنظمة الوطنية توجد في الصين والهند، لنأخذ الصين أولا: حوالي نفس الوقت الذي كانت روسيا تطور فيه نظام نقل الرسائل المالية (اس بي اف اس) كانت الصين تعكف على تطوير نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود (سي آي بي اس). وهو نظام رسائل مالية آخر القصد منه أن يكون بديلا لشبكة سويفت. دُشِّنَ هذا النظام في عام 2015، وعلى الرغم من أنه ما يزال صغيرا مقارنة بمنافسه الغربي إلا أنه يتوسع بسرعة، فحتى شهر مارس كانت تستخدمه 1511 مؤسسة مالية أو ما يساوي 13% فقط من عضوية سويفت التي تبلغ 11500 مؤسسة مالية، لكن عدد مستخدميه ارتفع بأكثر من الضعف منذ عام 2018، وتزعم جماعة «اتركوا أوكرانيا» التي تقود حملة مناصرة لأوكرانيا أن هذا العدد يشمل حوالي 30 مصرفا روسيا مما يعني المزيد من إضعاف تأثير العقوبات الغربية وذلك بتمكين موسكو من سداد المدفوعات عبر الحدود بعملة اليوان. في الوقت الحاضر حجم المعاملات التي تنفذ من خلال نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود (سي أي يس إس) ضئيل نسبيا، فقد بلغ في المتوسط 482 بليون يوان (67 بليون دولار) يوميا في عام 2023، بالمقارنة تقول شبكة سويفت: إنها تجري معاملات بحوالي 34 تريليون دولار في اليوم، لكن أيضا حجم معاملات نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود يزداد بسرعة، فمبلغ الـ67 بليون دولار الذي سجل في عام 2023 أعلى بنسبة 24% من المتوسط اليومي لحجم معاملاته في العام السابق له، وإذا استمر الارتفاع في عدد مستخدميه قد يقود تأثير ذلك (وهوما يسمي أثر الشبكة: المترجم) إلى انفجار في نمو قيمة المعاملات المالية. في نفس الوقت شهدت شبكات مدفوعات التجزئة في الصين نموا يدفعها إلى منافسة الشركات الغربية القائمة مثل ماستركارد وفيزا؛ فشبكة بطاقات الدفع الصينية «يونيون باي» هي الآن الأكبر في العالم من حيث حجم معاملاتها ومقبولة في 183 بلدا. وخدمة المدفوعات الرقمية «علي باي» يتعامل بها 80 مليون متجر حول العالم مقارنة بحوالي 100 مليون متجر لخدمة فيزا. نسبة إلى نفور الصين من الغرب تجتذب أنظمة مدفوعاتها المزدهرة معظم الاهتمام، لكن الابتكار الأكثر إثارة حدث في الهند، لقد بدأت واجهة المدفوعات الموحدة (يو بي آي) عملها هناك في عام 2016. وبحلول مارس 2023 كانت قد أنجزت معاملات بحوالي 139 تريليون روبية (1.7 تريليون دولار أو 50% من الناتج المحلي الإجمالي) خلال 12 شهرا، وتشكل معاملات الواجهة الآن أكثر من ثلاثة أرباع مدفوعات التجزئة الرقمية. تقدر شركة «بي دبليو سي» الاستشارية أن حصتها تلك سترتفع إلى 90% بحلول عام 2027 فيما سيزداد إجمالي حجم المدفوعات الرقمية بحوالي أربعة أضعاف خلال نفس الفترة.

خدمة مجانية وسهلة

تسمح واجهة المدفوعات الموحدة للمستخدمين بإرسال الأموال مجانا عبر رسالة نصية أو مسح رمز الاستجابة السريعة. لقد يسرت المعاملات للشركات والمستهلكين وجعلتها أرخص وأكثر أمانا في أرجاء الهند، في ذات الوقت أحدَث نظام الهوية الرقمية الذي رُبطت به الواجهة ثورة في نظام الرفاه الاجتماعي للدولة الهندية؛ فمئات الملايين من الناس يمكنهم الآن استقبال «تحويلات فوائد مباشرة» إلى حسابات مصرفية مرتبطة بهوياتهم الرقمية بدلا من استلامها يدا بيد (نقدا)، هذا يقلل من احتمال تحويل مسؤولين فاسدين هذه المدفوعات إلى منفعتهم الشخصية(اختلاسها) ويبسِّط توزيع أموال الطوارئ (كما في أثناء جائحة كوفيد-19). الآن تتحول واجهة المدفوعات الرقمية هذه إلى نظام مدفوعات عالمي، لقد تم ربطها بأنظمة مدفوعات في سريلانكا والإمارات العربية المتحدة وسنغافورة وموريشيوس وبوتان، وفي فبراير، أعلنت الذراع العالمية لمؤسسة المدفوعات الوطنية في الهند غير الربحية والتي تدعمها الدولة وتدير الواجهة عن إطلاقها في فرنسا. وأوردت صحيفة تايمز أوف انديا أن المؤسسة وقعت اتفاقيات تسمح بإجراء مدفوعات الواجهة الرقمية المرتكزة على رمز الاستجابة السريعة في ماليزيا وتايلند والفلبين وفيتنام وكمبوديا وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان وهونج كونج. في الأثناء تستخدم الهند التقنية التي تقف وراء بنيتها الأساسية الرقمية لتعظيم نفوذها في الخارج. فمنذ عام 2018 أتاحت منصة الهوية مفتوحة المصدر والمجزَّأة «موسيب» غير الربحية في بنجالور للبلدان الأخرى نسخة عامة من الشفرة التي تدعم نظام الهوية الرقمية في الهند، تقول كالبانا كوتشار، مديرة سياسات وتمويل التنمية بمؤسسة بيل وميليندا غيتس الداعمة للمنصة: الفكرة هي السماح للبلدان النامية بإقامة بنية أساسية رقمية عامة لمقابلة احتياجاتها الخاصة بها بدلا من الاعتماد على الآخرين. يمكن أن يمتد ذلك إلى أبعد من المدفوعات الرقمية لكي يشمل سجلات الرعاية الصحية ووضع موازنة القطاع العام وإدارة المرافق مثل خدمات المياه، هنالك مشروعات تجريبية قيد التنفيذ في 17 بلدا من بينها أثيوبيا والفلبين والمغرب ومدغشقر والنيجر سجَّلت هُوَّيات لحوالي 109 ملايين شخص. تطوير مثل هذه البنية الأساسية سيكون نعمة وخيرا عميما للبلدان التي تتكئ على نجاح الهند، ومن المحتمل أيضا أن يقدم هذا التطوير حافزًا لشركات التقنية الرقمية الهندية والتي بفضل إلمامها بالتقنية التي تستند عليها واجهة المدفوعات الموحدة ستكون أول المتقدمين للأعمال الاستشارية في البلدان المستخدمة لمنصة موسيب.

تأمَل كوتشار أن تكون لدى أنظمة المدفوعات التي تقام على أساس بنية أساسية رقمية شبيهة ترتكز على معايير مفتوحة مثل موسيب القدرة على التعامل بسهولة مع الأنظمة الأخرى التي تتبع نفس المعايير. إذا تحققت مثل هذه الآمال يمكن أن توجد الارتباطات الناتجة عن ذلك في يوم ما بديلا لشبكة سويفت ونظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود تحت إدارة الهند وبعيدًا عن سيطرة أمريكا أو الصين.

أثر ازدياد عدد المستخدمين

هل من الممكن أن يفيد تكاثر شبكات المدفوعات ليس فقط البلدان التي تطلقها ولكن أيضا النظام المالي العالمي؟

ينبغي الترحيب بالضغوط التنافسية المتزايدة على الأنظمة القائمة والابتكارات وتحسينات الخدمات التي تحفز عليها. يقول أحد كبار المسؤولين في إحدى شركات المدفوعات الدولية: إن استخدام شبكة سويفت أصبح أكثر سلاسة في السنوات الأخيرة، وانخفضت رسوم معاملاتها أيضا إلى الربع خلال السنوات العشر الماضية بعد حساب التضخم، مع ذلك الشبكات الجديدة تجلب معها مخاطر التشظي. فبالنظر إلى استخداماتها لتجنب مراقبة المنافسين الجيوسياسيين ستجد الحكومات أن من المغري لها الإصرار على التزام الشركات المحلية باستخدام أنظمتها الخاصة بها. حتى بدون نصب مثل هذا الحواجز يوجد تكاثر الشبكات الوطنية احتكاكات جديدة. لا يزال لدى سويفت دور تلعبه في الربط بين أنظمة المدفوعات. لكن المشكلة هي أن كل شبكة تملك معاييرها الخاصة للبيانات والأمان والخصوصية. لذلك إيجاد سبل لاقتسام المعلومات اللازمة لتنفيذ المعاملات عبر الأنظمة سيزداد صعوبة مع ربط المزيد والمزيد من هذه الأنظمة. كما سيزيد ذلك من التكاليف للمؤسسات الكبيرة التي تريد العمل عبر شبكات متعددة بما أنها سيتوجب عليها الاحتفاظ بموارد رأسمالية منفصلة لكل شبكة. وعند المقارنة باستخدام شبكة واحدة سيعني ذلك أنها أقل قدرة على المُقاصَّة بين المعاملات في نفس الشبكة. وسيلزمها تسريع دورة نقل رؤوس الأموال بين الشبكات المختلفة، إلى ذلك الصراع من أجل الهيمنة على المدفوعات الدولية ليس ببساطة مسألة أي نظام من بين أنظمة المدفوعات العديدة ستكون له الغلبة؛ فهو أيضا جزء من معركة أكبر هي معركة خلع الدولار عن مكانته بوصفه عملة احتياط العالم.