الاقتصادية

ترامب وبايدن.. كيف أخفقـا في فكّ الارتباط التجاري بين الولايات المتحدة والصين؟

01 مارس 2024
الإيكونومست - ترجمة: قاسم مكي
01 مارس 2024

دونالد ترامب وجو بايدن لا يتفقان في أشياء كثيرة. لكنهما يفكّران بطريقة متشابهة حين يتعلّق الأمر بعلاقات الولايات المتحدة التجارية مع الصين. فهما يعتقدان أن أكبر اقتصاد في العالم (الاقتصاد الأمريكي) يعتمد بأكثر مما ينبغي على ثاني أكبر اقتصاد في العالم (اقتصاد الصين). وهكذا يسافر المسؤولون الأمريكيون حول العالم، للترويج لفوائد إعادة موضعة عمليات الإنتاج في بلدٍ صديق أو نقلها من الصين إلى أسواق تقل فيها الأخطار. يرحب قادة الأعمال بذلك. وهم قلقون حقًا من النمو الضعيف لاقتصاد الصين. هذا إذا لم نذكر تقلّب سياستها. كثرت التعليقات حول إعادة العمليات الإنتاجية من الخارج إلى بلدها الأصلي في مؤتمرات الأرباح التي تعقدها شركات المساهمة العامة. لكن السؤال هو: هل هذه مجرد أقوال؟ في العام الماضي حاججت مجلة الإيكونومست بأن جزءًا كبيرًا من فكّ الارتباط المفترض بين الصين والولايات المتحدة وهمي في الواقع. فإذا دققنا النظر سنجد أن العلاقة الاقتصادية بين البلدين شديدة التماسك حتى إذا كانت هذه الحقيقة محجوبة بِحِيَل وأحابيل يلجأ إليها الجانبان. ومنذ ذلك الوقت تؤكد أدلة متزايدة الاستنتاجاتِ التي توصلت إليها المجلة. فاقتصادا أمريكا الصين لا ينفصلان. بل في الحقيقة ربما تعزز بعض التغيرات في سلاسل التوريد العلاقة بين البلدين.

تيك توك وألواح الخلايا الشمسية

الصورة الكاملة للتجارة الصينية الأمريكية تغطي التجارة في الخدمات بما في ذلك استخدام الولايات المتحدة التطبيقات الصينية، وغرام الصين بالأفلام الأمريكية. لكن من الصعب تعقُّب هذه التدفقات التجارية (في الخدمات). هذا يعني أن خبراء الاقتصاد ركزوا اهتمامهم على التجارة في السلع والتي يقيسها مسؤولو الجمارك بدقة معقولة. الأرقام الرئيسية لبيانات التبادل التجاري في السلع بين البلدين ستُسعِد بايدن وترامب. ففي العام الماضي تجاوزت المكسيك الصين كأكبر مصدَر لواردات أمريكا. منذ عام 2017 هبطت حصة واردات أمريكا القادمة من الصين بنسبة الثلث إلى حوالي 14%، وفقًا للأرقام الأمريكية. جزء من ذلك الهبوط جاء بعد فرض ترامب رسومًا جمركية عالية في عام 2018. ويعكس جزء آخر المخاوف المتزايدة بشأن طموحات الصين الجغرافية. فإذا غزت تايوان ستتعطل العديد من سلاسل التوريد الآسيوية.

لكن الأرقام الرئيسية لا تحكي كل الحكاية. لكي نفهم السبب دعونا نبدأ برسوم ترامب الجمركية والتي حافظ عليها بايدن إلى حد كبير. قبل استحداثها في عام 2018 أشارت الإحصائيات الأمريكية الى أن الولايات المتحدة استقبلت واردات من الصين أكثر من تلك التي وردت في الإحصائيات الصينية. والآن العكس صحيح. فالصين تذكر أن قيمة صادراتها إلى الولايات المتحدة ارتفعت بحوالي 30 بليون دولار في الفترة بين 2020 و2023. هذا في حين تقول أمريكا إن قيمة وارداتها الصينية تراجعت بحوالي 100 بليون دولار. إذا كانت بيانات الصين صحيحة ستكون حصتها من الواردات الأمريكية قد انخفضت حقا لكن بقدر يقلُّ كثيرا. ما الذي يفسّر الفجوة بين المقياسين (الأمريكي والصيني)؟ يشير آدم وولف خبير الأسواق الصاعدة بالشركة الاستشارية "آبسليوت ستراتيجي ريسيرش" إلى أن التحوُّل يعكس حقيقة وجود حافز لدى المستوردين الأمريكيين للتقليل في تقاريرهم من حجم ما يشترونه من الصين في الأصناف التي تغطيها الرسوم الجمركية. ويقدر وولف أن أمريكا الآن وكنتيجة لذلك تقلل من الحجم الحقيقي لوارداتها بنسبة 20% إلى 25%. وفي الوقت نفسه خفضّت الصين في السنوات الأخيرة الضرائب على المصدِّرين. وهذا ما أضعف الحافز الذي يدفع الشركات المحلية لتسجيل عدد أقل من السلع المصدَّرة إلى الخارج.

مدخلات الإنتاج

تقدم بيانات أخرى سببا إضافيا للتشكيك في فك الارتباط التجاري بين البلدين. فجداول المدخلات والمخرجات التي ينشرها بنك التنمية الآسيوي توضح حصة النشاط الاقتصادي لبلد ما والتي يمكن تعقبها إلى البلدان الأخرى. بعد أن فحصنا (في الإيكونومست) 35 صناعة وجدنا أن القطاع الخاص الصيني في عام 2017 ساهم في المتوسط بنسبة 0.41% في مدخلات الشركات الأمريكية. قد لا يبدو ذلك الرقم كبيرا لكنه يزيد عن نسبة المدخلات التي جاءت من ألمانيا (0.38%) واليابان (0.24%). بحلول عام 2022 زادت حصة الصين من مدخلات الشركات الأمريكية بأكثر من الضعف إلى 1.06%. وهذه زيادة أكبر سواء بالنسبة لألمانيا أو اليابان. من الصعب معرفة السبب وراء ذلك. قد تكون محاولات أمريكا تشييد بنية أساسية للطاقة النظيفة أحد الأسباب. فهي تجعل المعدات الكهربائية الصينية أكثر أهمية. أيضا تبدو شركات الخدمات في الولايات المتحدة معتمدة باطراد على الملكية الفكرية في "المملوكة" في الصين. ومهما كان السبب من الصعب أن تتسق الأرقام مع فك الارتباط التجاري المفترض. التطورات على الجانب الصيني أيضا تدفع ضد فك الارتباط بين البلدين. فزعماء الصين ليست لديهم نية للتخلي عن دور بلدهم في سلاسل التوريد العالمية على الرغم من أن الولايات المتحدة أكبر شركاء الصين التجاريين تحاول -دون هِمَّة كافية- فصلها عنها. مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي هو المجلس الاقتصادي الذي يقرر أجندة الصين. في ديسمبر الماضي جعل المؤتمرُ الأولويةَ في الصين للتوسع في تجارة السلع الوسيطة التي تُستخدم لتصنيع السلع النهائية. وتعكف بنوك الدولة على إعادة توجيه الائتمان من العقارات إلى الصناعة التحويلية مما يعزز من احتمال حدوث "تخمة" في الصادرات الصينية. العديد من الشركات الصينية الصناعية العملاقة في وضع جيد للاستفادة من هذه الاستراتيجية مثل شركة البطاريات "كونتيمبوراري آمبريكس تكنولوجي" وشركة إنتاج شاشات الدايود العضوي "مجموعة بي أو إي للتقنية" وشركة تصنيع مكونات ألواح الخلايا الشمسية "لونجي لتقنية الطاقة الخضراء".

مُكابَدة الحسد

حقا نموُّ هذه الأنواع من الشركات له تأثيره. حسب تقديراتنا في الإيكونومست، ارتفعت صادرات الصين العالمية من السلع الوسيطة منذ عام 2019 بنسبة 32% مقارنة بارتفاعٍ بنسبة 2% فقط في أنواع الصادرات الأخرى مثل السلع النهائية. هذا الارتفاع تحركه الصادرات الصينية إلى بلدان أخرى كالهند وفيتنام وهما من بين شركاء التجارة التفضيلية للولايات المتحدة. التجارة الأمريكية مع هذه البلدان زادت بدورها من 4.1% من وارداتها السلعية في عام 2017 إلى 6.4% اليوم. هذه الاتجاهات في مجموعها تعني ضمنا أن هذين البلدين كثيرا ما يلعبان دورا أشبه "بمركز التغليف" للسلع التي تُصنَّع بمدخلات صينية وتشحن إلى سواحل أمريكا. حول العالم تبرز العديد من مثل هذه الترتيبات. لنأخذ حالة الهند حيث تحاول الحكومة هناك تطوير قاعدة تصنيعية. فعقب استحداث الدعومات المالية ارتفعت صادرات الهواتف النقالة بشدة مما يوحي بأن الهند "تأخذ حصة الصين".

لكن في ورقة حديثة أشار ثلاثة خبراء اقتصاد هم راهول شاوهان وروهيت لامبا وراجورام راجان إلى أن استيراد أجزاء الهواتف النقالة كالبطاريات والشاشات وأشباه الموصلات قفز أيضا. وتبدو الهند أقرب إلى وسيط هواتف نقالة من أن تكون مركزا رئيسيا للهواتف الذكية. تشهد تجارة فيتنام مع أمريكا ازدهارا. لكن إنتاجها يظل مرتبطا بشدة مع سلاسل الإمداد الصينية. وهذا يعني أن جزءا كبيرا من الزيادة في التجارة قد يعود إلى منتجات محتواها الفيتنامي ضئيل. وفي بعض الحالات المتطرفة، كما تشكو وزارة التجارة الأمريكية أحيانا، تكون الصادرات الفيتنامية بالضرورة منتجات يعاد نقلها من الصين. الارتباط بين صادرات فيتنام إلى الولايات المتحدة ووارداتها من الصين الآن أقوى كثيرا عما كانت عليه قبل تطبيق الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب. وهذا يوحي بأن البلد الصناعي الذي يرفرف عاليا في جنوب شرق آسيا (فيتنام) يلعب دور الوسيط الذي يطابق بين الإنتاج الصيني والطلب الأمريكي. في المكسيك الوضع أكثر تعقيدا. فالمعايير التي تأسست بواسطة الاتفاقية الأمريكية والمكسيكية والكندية تتطلب "محتوى قيمة إقليمية أعلى" بمعنى أن الصادرات تخضع للفحص للتأكد من أن الإنتاج يحدث في أمريكا الشمالية. في بعض الصناعات التي تشهد ازدهارا للصادرات المكسيكية إلى الولايات المتحدة كإنتاج السيارات من الصعب أن يُعزَى النمو إلى فك الارتباط نظرا إلى أن الصين لم تصدِّر إطلاقا كميات كبيرة من السيارات ومكوناتها إلى أمريكا. ففي عام 2018 كانت مصدرا لحوالي 6% فقط من الواردات الأمريكية من مثل هذه السلع. مع ذلك، ارتفعت واردات المكسيك من الإمدادات الصناعية الصينية بحوالي 40% منذ عام 2019. فحتى في الحديقة الخلفية لأمريكا لا يمضي فك الارتباط التجاري مع الصين حسبما هو مخطط له. لذلك الصورة العامة واضحة. قد تكون سلاسل التوريد الصينية أقل ظهورا لكنها تظل بالغة الأهمية للاقتصاد الأمريكي. والسؤال: هل ستحافظ على دورها المحوري؟ هدد ترامب بفرض رسوم جمركية ضخمة على كل المنتجات الصينية إذا أصبح رئيسا في نوفمبر. مثل هذه الرسوم قد تكون كافية لتشجيع بعض الشركات على الخروج من الصين نهائيا. كما يمكن أن يكون لهجوم صيني على تايوان أو غيرها أثر شبيه بذلك. بمرور الزمن قد تُطوّر بعض البلدان التي تتولى الآن المرحلة الأخيرة من إنتاج السلع قدراتٍ صناعية أكثر إثارة للإعجاب وتشكل تحديا لمكانة الصين. لكن على أية حال، في غياب تحولات جذرية في السياسة الأمريكية أو الصينية لا تتوقعوا أن يتغير الكثير في أي وقت قريب. والعديد من البلدان أكثر من سعيدة في التعامل مع الطرفين. بمعني استقبالها الاستثمارات والسلع الوسيطة الصينية وتصديرها المنتجات النهائية لأمريكا. والكفاءة الاقتصادية التي تتيحها خبرة الصين في مجال الإنتاج الصناعي الكبير تشكل قوة مؤثرة لصالح بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه. قد يكون فك الارتباط التجاري بين البلدين خطابا دعائيا بليغا. لكن حججه تفتقر إلى القدرة على الإقناع.