No Image
الاقتصادية

بين الاقتصاد والطاقة والنفوذ هكذا غيّر الذكاء الاصطناعي موازين القوى في العالم في 2025

30 ديسمبر 2025
كتبت - رحمة الكلبانية:
30 ديسمبر 2025

عندما زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منطقة الخليج العربي في مايو الماضي لم يكن تركيزه موجها إلى غزة أو إيران أو غيرها من القضايا الساخنة في المنطقة، بل انصب اهتمامه على الصفقات التجارية وعلى الذكاء الاصطناعي قبل كل شيء، إذ وافق خلال الزيارة على بيع رقائق إلكترونية أمريكية متقدمة لدول الخليج والاستثمار في مجمعات ضخمة للذكاء الاصطناعي في المنطقة. 

ويأتي هذا الاهتمام في ظل ما كشفته هذه التقنية من إمكانيات واسعة وقدرتها على إحداث تحول في المشهدين الاقتصادي والسياسي، فبعد عقود هيمنت فيها الموارد الطبيعية على معادلات القوة العالمية يبرز الذكاء الاصطناعي اليوم بوصفه أحد أهم محركات التحول في موازين القوة الدولية لما يتيحه من أدوات جديدة تعزز حضور الدول على الساحة العالمية وتطور قدراتها العسكرية وتدعم نموها الاقتصادي. 

ويكشف تقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي 2025 الصادر عن جامعة ستانفورد أن عام 2025 يمثل مرحلة ترسيخ لا مرحلة تجربة في مسار الذكاء الاصطناعي العالمي إذ لم يعد هذا القطاع محصورا في المختبرات البحثية أو التطبيقات التجريبية بل تحول إلى عنصر أساسي في بنية الاقتصادات المتقدمة وقرارات الشركات الكبرى. كما يبرز عام 2025 بوصفه عاما شهد تصاعدا ملحوظا في الطلب على القدرة الحاسوبية والطاقة والبنية الأساسية الرقمية؛ حيث ارتبط التقدم في الذكاء الاصطناعي بزيادة الاستثمار في مراكز البيانات والرقائق المتقدمة وشبكات الحوسبة واسعة النطاق ويؤكد التقرير أن الذكاء الاصطناعي في 2025 بات قوة اقتصادية قائمة بذاتها تؤثر في الإنتاجية وسوق العمل وتنافسية الشركات والدول في آن واحد مع استمرار التحديات المرتبطة بتركز القدرات والفجوات بين الاقتصادات المتقدمة والنامية. 

ومنذ عام 2017 كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد نقل الذكاء الاصطناعي إلى صدارة معادلات القوة الدولية حين صرّح بأن الذكاء الاصطناعي هو المستقبل، ليس لروسيا فحسب بل للبشرية جمعاء، وأنه يرافق هذا التحول فرصٌ هائلة، لكنه ينطوي في الوقت ذاته على تهديدات يصعب التنبؤ بها مؤكدًا أن من يتصدر هذا المجال سيصبح «حاكم العالم». 

ويعد الصراع الروسي الأوكراني نفسه نموذجا واضحا وحيًا لتأثير الذكاء الاصطناعي في النزاعات الحديثة؛ حيث أسهمت التقنيات المتقدمة التي وفرتها الدول الغربية لأوكرانيا في تمكينها من الصمود أمام خصم أكبر حجما مثل روسيا وهو ما يؤكد أن الحروب غير المتكافئة المدعومة بالتكنولوجيا المتقدمة مثل الطائرات المسيرة والمركبات ذاتية القيادة قادرة على تعديل موازين القوة ومنح الدول مزايا عسكرية نوعية. ولا يقتصر أثر الذكاء الاصطناعي على ميدان القتال فقط بل يمتد إلى الفضاء السيبراني؛ حيث بات يشكل خط دفاع أساسيا في مواجهة الهجمات الإلكترونية المتزايدة من خلال قدرته على رصد التهديدات والتنبؤ بها والتصدي لها بما يعزز من منظومات الدفاع الوطني للدول. 

أما عن دوره في تغيير القوى الاقتصادية والسيادية في العالم، فتشير الدراسات والتقارير إلى أن الدول التي تنجح في توظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل كميات ضخمة من البيانات ومعالجتها تمتلك القدرة على تطوير صناعاتها الوطنية وتحسين عملية صنع القرار على مستوى السياسات العامة وتحفيز الابتكار، مما يفتح المجال أمام نشوء أسواق وصناعات جديدة بالكامل تعزز مرونة الاقتصادات الوطنية ويقوي موقعها التنافسي عالميا. 

وقد أشارت ورقة بحثية بعنوان «الذكاء الاصطناعي في الجيوبوليتيك: الفرص والتحديات لتعزيز القوة الوطنية» نشرت على منصة ريسيرش غيت في أوائل سبتمبر الماضي، أن الذكاء الاصطناعي عبر المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والعلمية، قادر على تعزيز كلٍّ من القدرات المادية مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة عدد المنشورات العلمية، وإنتاج المنتجات عالية التقنية، وتطوير الطائرات المسيّرة غير القابلة للرصد والقدرات غير المادية، مثل زيادة المشاركة العامة، وترشيد عملية اتخاذ القرار السياسي، ومكافحة التمييز العرقي والسياسي، مما يسهم في رفع قدرة الدول على المنافسة الدولية وتأمين الفضاء الرقمي العالمي. 

الحوسبة .. النفط الجديد 

إن ظهور الذكاء الاصطناعي وإتاحة تقنياته على نطاق واسع لم يؤديا إلى تراجع هيمنة الدول المتقدمة أو خروجها من موقع التحكم والسيطرة، كما أن دول الخليج المصدرة للنفط لن تفقد زخمها كما توحي بعض العناوين بل على العكس فان ما تمتلكه من ثروات وسيولة ومصادر طاقة يؤهلها للعب دور محوري في قيادة التحول القادم وهو ما أكد عليه مقال نشرته مجلة فورين أفيرز بعنوان «الحوسبة ..النفط الجديد»؛ حيث يشير إلى أن بفضل امتلاكها للرقائق المتقدمة، والثروات السيادية، ومصادر الطاقة الوفيرة، قد تتجاوز دول الخليج أوروبا والهند من حيث البنية الأساسية للذكاء الاصطناعي، لتصبح في نهاية المطاف ثالث أكبر مركز عالمي لقدرات الحوسبة الخاصة بالذكاء الاصطناعي، بعد الولايات المتحدة والصين. ولتحقيق ذلك يتعين على دول الخليج إثبات قدرتها على بناء مراكز بيانات ضخمة، وتقديم أسعار تنافسية لخدمات الذكاء الاصطناعي، وخلق طلب حقيقي على القدرات التي تبنيها، كما يجب أن تكون قادرة على تجاوز اضطرابات السوق التي قد تبطئ موجة الاستثمار والبناء الحالية في هذا القطاع. 

كما يبرز الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة لتحسين كفاءة الطاقة وفي الوقت نفسه عاملًا مهمًا مولدًا للطلب على الطاقة، من خلال تحقيق مكاسب في الكفاءة عبر تحسين التنبؤ، وإدارة شبكات الكهرباء، وخفض الانبعاثات، إضافة إلى ما سيتسببه في رفع استهلاك مراكز البيانات للكهرباء بأكثر من الضعف بحلول عام 2030، وهو ما أكدته الورقة البحثية بعنوان «اقتصاديات الطاقة للذكاء الاصطناعي في نظام عالمي متشظٍ» للباحثة ريم برهاب، الصادرة عن مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد هذا العام؛ حيث تقول: في خضم الزخم المحيط بالذكاء الاصطناعي تظل الحقيقة الجوهرية واضحة «الذكاء الاصطناعي يعمل بالطاقة»، فكل نقطة بيانات تتم معالجتها وكل خوارزمية يتم تدريبها وكل عملية استدلال تُنفذ، تتطلب طاقة، وغالبًا بكميات هائلة ومركزة. ويتم تلبية هذا الطلب الضخم عبر مراكز بيانات كثيفة الاستهلاك للطاقة، يصل استهلاكها من الكهرباء إلى مستويات تضاهي اقتصادات متوسطة الحجم، كما أن أنظمة التبريد التي تُبقي الخوادم قيد التشغيل، وأشباه الموصلات التي تنفذ تريليونات العمليات في الثانية، والبنية الأساسية العالمية التي تربط هذه الأنظمة جميعها تعتمد على طاقة ميسورة وموثوقة، ويُتوقع أن تصبح أكثر نظافة بمرور الوقت. 

ويُنظر إلى الذكاء الاصطناعي أيضًا بوصفه قوة تحويلية داخل قطاع الطاقة نفسه، فوفقًا للورقة البحثية من المتوقع أن تسهم هذه التقنية في تحسين تشغيل شبكات الكهرباء والتنبؤ بتوافر الطاقة المتجددة وتمكين الإدارة الديناميكية للطلب، بل وحتى توجيه تخطيط البنية الأساسية. ومن الناحية النظرية، يخلق ذلك حلقة إيجابية فالذكاء الاصطناعي يحتاج إلى الطاقة، لكنه في المقابل يمكن أن يساعد في إدارة أنظمة الطاقة وخفض انبعاثاتها. غير أن السؤال الجوهري يتمثل فيما إذا كانت مكاسب الكفاءة التي يحققها الذكاء الاصطناعي قادرة على تعويض الزيادة في استهلاك الطاقة التي يتسبب بها. 

اليد اليمنى للاقتصاد في 2025 

مثل عام 2025 نقطة تحول في دور الذكاء الاصطناعي داخل الاقتصاد العالمي كما أسلفنا إذ لم يعد حضوره مقتصرا على الابتكار التقني بل امتد ليصبح عنصرا فاعلا في تحسين الأداء الاقتصادي عبر قطاعات متعددة، وهو ما أوضحه تقرير تكنولوجيا والابتكار 2025 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية؛ حيث أشار أن الذكاء الاصطناعي اسهم في رفع كفاءة عمليات الإنتاج الصناعي من خلال تحسين إدارة الموارد وتخطيط العمليات وتقليل فترات التوقف غير المخطط لها عبر الصيانة التنبؤية التي تعتمد على تحليل البيانات التشغيلية للمعدات، كما مكن الشركات من تقليل الهدر وخفض تكاليف التشغيل وتحسين جودة المخرجات. وفي مجال سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية ساعد الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالطلب بدقة اكبر وتحسين إدارة المخزون وتنظيم عمليات التخزين والتوزيع بما أسهم في تسريع حركة السلع وتقليل الاختناقات وتحسين كفاءة التجارة العالمية. 

وفي قطاع الخدمات أبرز التقرير دور الذكاء الاصطناعي في مجالات التمويل والتجارة والخدمات الرقمية؛ حيث استخدم في تسريع معالجة المعاملات المالية وتحسين تقييم المخاطر الائتمانية ودعم الخدمات المالية الرقمية مما أسهم في توسيع نطاق الشمول المالي والوصول إلى شرائح جديدة لم تكن مغطاة بالخدمات المصرفية التقليدية، كما أسهم في تحسين كفاءة منصات التجارة الرقمية وتحليل سلوك المستهلكين ودعم قرارات التسعير والتوسع في الأسواق. 

وكان لقطاع الزراعة نصيب من الأتمتة الذكية؛ حيث أشار التقرير إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي أدت دورا متزايدا في تحليل البيانات المتعلقة بالمناخ والتربة وأنماط المحاصيل ما مكّن المزارعين من تحديد مواقيت الزراعة المثلى وتحسين استخدام المياه والأسمدة ورصد الأمراض والآفات في مراحل مبكرة الأمر الذي أسهم في رفع الإنتاجية الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي لاسيما في الاقتصادات النامية. 

وفي السياق ذاته يوضح تقرير AI Index 2025 الصادر عن جامعة ستانفورد أن الذكاء الاصطناعي بات جزءا أساسيا من بنية الاقتصاد العالمي خاصة في العام المنصرم، حيث استخدم على نطاق واسع في تحسين كفاءة سلاسل التوريد العالمية من خلال نماذج تحليل البيانات والتنبؤ مما ساعد الشركات على خفض تكاليف المخزون وتحسين سرعة توصيل البضائع كما شهد قطاع الصحة توسعا في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتسريع تشخيص الأمراض وتحسين إدارة نظم الرعاية الصحية وتخصيص الموارد الطبية بصورة أكثر كفاءة الأمر الذي انعكس على تحسين أداء الأنظمة الصحية وتقليل التكاليف التشغيلية. 

ويؤكد التقريران في المجمل أن هذه الاستخدامات العملية جعلت من الذكاء الاصطناعي في عام 2025 أداة مركزية لدعم صنع القرار الاقتصادي على مستوى المؤسسات والحكومات من خلال تحليل كميات ضخمة من البيانات الاقتصادية والاجتماعية بما يتيح تصميما أدق للسياسات العامة والتخطيط الاقتصادي غير أن تعظيم هذه المكاسب يظل مرتبطا بالاستثمار في البنية الأساسية الرقمية وتنمية المهارات وبناء القدرات المؤسسية إذ يحذر التقريران من أن غياب هذه العناصر قد يحد من قدرة الدول على الاستفادة من الفرص التي يتيحها الذكاء الاصطناعي ويعمق الفجوات بينها وبين الاقتصادات الأكثر تقدما وهو ما يستدعي تبني سياسات تنموية تجعل من الذكاء الاصطناعي أداة لدعم النمو الشامل وتعزيز التنافسية الاقتصادية على المدى الطويل. 

مستقبل يتجاوز التوقعات 

ورغم استمرار تركز الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي داخل البلدان مرتفعة الدخل حتى نهاية عام 2025، إلا أن ملامح المشهد مرشحة للتغير في أي لحظة إذ بدأت بعض البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل في اللحاق بالركب مستفيدة من التسارع الكبير في ابتكارات الذكاء الاصطناعي وتراجع تكاليف الحوسبة والبيانات وهو ما أتاح ظهور تطبيقات موجهة للسياقات المحلية دون الحاجة إلى إعادة ابتكار التقنيات الأساسية. ووفقًا لتقرير حديث صادر عن البنك الدولي بعنوان «التقدم والاتجاهات الرقمية 2025: تعزيز أسس الذكاء الاصطناعي» : تستحوذ البلدان مرتفعة الدخل على 87% من نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، و86% من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، و91% من تمويل رأس المال الجريء التراكمي الموجه لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة، وذلك حتى يوليو 2025، وتُعد هذه البلدان مصدر 54% من طلبات براءات اختراع الذكاء الاصطناعي البحثي و32% من طلبات براءات اختراع الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) خلال الفترة 2014–2023، رغم أنها تمثل 17% فقط من سكان العالم و64% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وباستثناء الصين والهند، تمثل البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل 4% فقط من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وأقل من 1% من تمويل الشركات الناشئة في هذا المجال. ويمثل الذكاء الاصطناعي لحظة مفصلية للتنمية العالمية خاصة للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ويُعد الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ضرورة استراتيجية حيث تعيد هذه التقنية تشكيل المزايا النسبية للدول مما سيفتح آفاقًا جديدة لنمو الصادرات، وخلق فرص العمل وتحقيق مكاسب تنموية طويلة الأمد وتحولات هيكلية عميقة. وهو ما أكد عليه البنك الدولي قائلًا: من خلال توطين نماذج الذكاء الاصطناعي وتكييفها، يمكن للدول النامية أن تواجه تحديات تنموية ملحّة، وتحول مواطن الضعف إلى فرص، وفي نهاية المطاف تُحدث تغييرًا جوهريًا في حياة الناس.