No Image
الاقتصادية

المخاطرة بعقد "تنمية" ضائع لفقراء العالم

10 مايو 2024
ترجمة: قاسم مكي
10 مايو 2024

تراجعت نسبة البشر الذين يعيشون على حد الكفاف من 80% تقريبا في عام 1820 إلى أقل قليلا من 10% في عام 2018، حسب التقديرات، وما يجعل هذا التراجع لافتا بقدر أكبر أن عدد سكان العالم ارتفع من بليون نسمة في عام 1820 إلى 7.7 بليون نسمة في عام 2018، كما ساعد تعاظم الازدهار على مضاعفة المتوسط العالمي للعمر المتوقع إلى 71 سنة. باختصار لقد انتقلنا من عالم كانت الحياة فيه لمعظم الناس "سيئة ووحشية وقصيرة" حقا إلى حياة أفضل في كل جوانبها. حتى وقت قريب لا يتعدى عام 1970 كان معدل "الفقر المدقع" لا يزال عند 50%، ويعود هذا الخفض السريع وغير العادي مؤخرا في نسبة البشر الذين يعيشون في فقر مدقع إلى التقدم الهائل في عصر العولمة الاقتصادية المستهجَن بشدة. من جانبي، لن أستصغر أبدا هذا الإنجاز؛ فهو يكشف عن نجاح اقتران الفرصة الاقتصادية العالمية بالعون الخارجي.

ظلت اعتمادات (قروض ومنح) المؤسسة الدولية للتنمية المصدر الحيوي لهذا الأخير (العون الخارجي). وعلى عكس ما خشي العديدون لم يكن إنهاء الفقر الشديد شبيها بمحاولة ملء "حفرة بلا قاع"، فكما لاحظ تقرير صدر مؤخرا عن البنك الدولي بعنوان "الانتكاسة الكبرى" كانت كوريا الجنوبية والصين والهند في وقت ما دولًا مستفيدة من هذه الاعتمادات، بل قبل 60 عاما كانت المؤسسة الدولية للتنمية يُطلق عليها اسم غير رسمي هو "المؤسسة الهندية للتنمية". كان التقدم الذي تحقق لافتا ولا يزال كذلك، فمتوسط العمر المتوقع في البلدان المستفيدة من اعتمادات المؤسسة ارتفع من 58 سنة إلى 65 سنة في الفترة بين عامي 2000 و2021. المؤسسة الدولية للتنمية حسب موقع البنك الدولي هي ذراعه المعنية بمساعدة أفقر بلدان العالم، وأنشئت عام 1960 للحد من الفقر من خلال تقديم قروض معفاة من الفائدة أو بفائدة منخفضة تسمى اعتمادات ومنحًا؛ بهدف تعزيز النمو الاقتصادي، وتخفيف حدة التفاوتات وعدم المساواة وتحسين الأحوال المعيشية للناس- المترجم).

أخيرا أصبح القضاء على الفقر المدقع من كوكبنا قريب المنال، لكن من المؤسف أن عنوان تقرير البنك الدولي الذي أشرنا إليه (الانتكاسة الكبرى) يقول لنا: إن ذلك ليس كذلك.

صدمات السنوات القليلة الأخيرة كانت قاسية وموجعة للناس الذين يعيشون أشد الظروف المعيشية هشاشة في العالم. فمنذ أيام الجائحة ظل متوسط دخل الفرد في نصف البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية (75 بلدا) ينمو ببطء أشد مقارنة بالمتوسط في بلدان اقتصادات الدخل المرتفع، وفي الواقع بين كل ثلاث دول مؤهلة للحصول على اعتمادات المؤسسة الدولية للتنمية هنالك دولة واحدة أكثر فقرا في المتوسط مقارنة بوضعها عشية اندلاع جائحة كوفيد 19.

لماذا هذا مهم؟ الإجابة هي أن أقل قليلا من ربع سكان العالم، ولكن حوالي 70% من أفقر الناس في العالم يعيشون في 75 بلدا من البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية والتي تنتج فقط 3% من الإنتاج العالمي، هذه البلدان هي التي سيتم فيها كسب أو خسارة معركة القضاء على الفقر المدقع.

نحن اليوم نخسر هذه المعركة؛ فالصدمات المتعاقبة الأخيرة ترتبت عنها آثار قاسية بما في ذلك جائحة كوفيد وتضخم ما بعد كوفيد والقفزات في أسعار الطاقة والغذاء التي حفزتها الحرب وارتفاع أسعار الفائدة. لكن ما هو أسوأ من ذلك الاحتمال الوارد بأن يصبح المسار الضعيف للنمو في السنوات الأخيرة جزءا من بِنْيَة هذه البلدان الهشة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، وأن يوجد هذا المسار عقدا ضائعا (للتنمية) أو ربما حتى شيئا أسوأ.

هذا التهديد خطير، خصوصا في إفريقيا جنوب الصحراء، وسيهدد بوقوع كارثة إنسانية ستهدد أيضا باضطرابات تتعدى البلدان المتأثرة به مباشرة. إحدى مكامن الضعف البارزة في البلدان المؤهلة لتلقي اعتمادات المؤسسة الدولية تتعلق بالتمويل؛ فحشد الموارد المحلية صعب للبلدان الفقيرة التي بها قطاعات غير رسمية ضخمة نسبيا (تشكل في العادة أكثر من ثلث الاقتصاد) وقطاعات مالية متخلفة وتعتمد بشدة على إيرادات غير ثابتة من الصادرات السلعية وتعاني من نقص مزمن في العملات الأجنبية ولديها إدارات ضعيفة وغالبا فاسدة.

نتيجة لذلك أصبحت هذه البلدان تعتمد على الإقراض الأجنبي. لكن إقراضها حتما ينطوي على مخاطرة، وهذا ما يزيد كثيرا من تكلفته. بدورها تزيد تكلفة الإقراض المرتفعة هذه من احتمال تعثر الدين والعجز عن السداد وتوجد وضعا تقود فيه توقعات ارتفاع أسعار الفائدة إلى ارتفاعها بالفعل مما يبرر شكوك المقرضين. ليس مفاجئا بعد كل الصدمات الأخيرة أن تزيد مدفوعات الفوائد الصافية كحصة من الإيرادات المالية في البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية بوتيرة أسرع من البلدان الصاعدة والنامية الأخرى. واليوم للأسف حوالي نصف البلدان المستفيدة من قروض المؤسسة تتعثر في ديونها أو معرَّضة بدرجة عالية إلى مخاطر تعثر الديون.

كان الهدف من إنشاء المؤسسة الدولية للتنمية بالضبط إيجاد مخرج من مثل هذه الحلقة الشريرة (حلقة عدم كفاية الموارد المحلية والخارجية) وحققت نجاحا في ذلك. البلدان الحالية المؤهلة للاقتراض من المؤسسة بحاجة إلى زيادات ضخمة في الاستثمار لتسريع النمو واستغلال تقنيات الطاقة الجديدة. لن تأتي هذه الأموال من مصادر خاصة في المستقبل القريب. وستكون هنالك بدلا عن ذلك حاجة لزيادة كبيرة في الائتمان الرسمي الأجنبي بتكلفة شديدة الانخفاض. والعامل المفتاحي لتحقيق ذلك سيكون الحل السريع لمشكلة أعباء الديون الحالية التي لا يمكن سدادها وزيادة ضخمة في موارد المؤسسة الدولية للتنمية.

من المقرر استكمال الدورة التالية (الحادية والعشرين) لتمويل المؤسسة بواسطة الدول الأعضاء في ديسمبر القادم. وكما قال أجاي بانجا رئيس مجموعة البنك الدولي في حديث له نهاية العام الماضي: الحقيقة هي أننا نتجاوز الحد في استخدام هذا المصدر المهم للتمويل الميسَّر ولن تعوضنا أية هندسة مالية إبداعية عن حقيقة أننا نحتاج إلى المزيد من التمويل. يجب أن يدفع ذلك كل أحد منا لكي نجعل دورة التمويل القادمة للمؤسسة الدولية للتنمية الأكبر في أي وقت من الأوقات. أجاي مصيب في ذلك؛ فتقرير البنك الدولي يوضح الحاجة الملحة ولكن أيضا العائدات الممكنة لمثل هذا التمويل الكبير.

آخر دورة تمويل للمؤسسة في عام 2021 كانت لحوالي 93 بليون دولار خلال الفترة 2022-2025. قد يبدو هذا مبلغا كبيرا. لكنه كان يجب أن يغطي ثلاث سنوات مالية وشكل 0.03% فقط من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للعالم الذي يبلغ 100 تريليون دولار. في الأزمة الحالية لأفقر بلدان العالم زيادة هذا المبلغ بقدر كبير ضرورية وصحيحة أخلاقيا ومن الواضح أنها ممكنة، وعدم القيام بذلك سيكون حقا غير عملي.

عندما كنت أعمل بالبنك الدولي في سنوات السبعينيات بدا هدف القضاء على الفقر المدقع في العالم والذي أعلنه رئيس البنك وقتها روبرت مكْنمارا غير واقعي لأناس عديدين. أما اليوم فهو في متناولنا. وتهدد الآن سلسلة من المصائب المتعاقبة بإخفاق غير ضروري في بلوغ ذلك الهدف مع أن النجاح وشيك يجب ألا نقبل ذلك.

مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز