الاقتصادية

التوجه نحو العمل الحر يعكس المتغيرات الكبيرة في بيئة الأعمال العالمية

27 يناير 2023
تأثيرات واسعة للجائحة والتقنيات الحديثة
27 يناير 2023

ينتشر هذا النمط في الدول الغربية ويتسم بزخم بطيء في أماكن أخرى بسبب ثقافة العمل التقليدية لدى الشركات والأفراد على حد سواء

القوة العاملة المستقلة تعتمد على التقنيات وتعمل بشكل حر في مجموعة من التخصصات ومتوفرة في أي وقت ومكان

يتيح ذلك للأفراد القيام بمهام تتناسب مع مؤهلاتهم وأوقاتهم من خلال مشروع أو عبر ساعات معينة يوميا

إحصائيات العمل الأمريكية تشير إلى استقالة 4 ملايين شهريا.. أين يذهب هؤلاء؟

الذين يتركون شركاتهم يعملون مستقلين أو تحولوا إلى رواد أعمال فيما يعد مؤشرا نحو التوجه المتزايد لتوديع نمط العمل التقليدي

بين ما يشهده العالم من تطورات تقنية ضخمة تؤثر على كافة نواحي الحياة وما نتج عن الجائحة من متغيرات اقتصادية واجتماعية عميقة ستمتد آثارها لوقت طويل، ينعكس كل ذلك بشكل كبير على سوق العمل العالمي من خلال تغير أنماط العمل ونوعيات الوظائف المطلوبة والاعتماد المتزايد على المتخصصين والموهوبين كبديل لفكرة التوظيف التقليدية حيث تلبي أنماط العمل الحر احتياج العاملين للعمل في مكان أو أكثر وفق أنظمة مرنة لا تتضمن التزاما بالحضور ولا مواعيد محددة للدوام، كما تتيح للشركات وأصحاب الأعمال اقتناص ما يحتاجون إليه من مواهب بكلفة أقل من نفقات التشغيل مع اختصار إجراءات التوظيف.

بشكل متزايد يتوجه الأفراد إلى الوظائف المؤقتة والأعمال التخصصية التي تتضمن مهام محددة تتيحها الشركات ومنصات العمل والتطبيقات على الإنترنت والهواتف النقالة، حيث يقوم الأفراد بمهام تتناسب مع مؤهلاتهم وأوقاتهم وغالبا ما يكون الارتباط بالعمل لفترة زمنية محددة من خلال مشروع أو عبر ساعات عمل معينة يوميا.

ويطلق على هذا النمط من العمل الحر "جيج إيكونومي" ومعناه العربة التي يجرها حصان واحد، ويشير المصطلح إلى ما يسمى "اقتصاد الأفراد أو اقتصاد الخدمات المستقلة"، كما تطلق دراسات سوق العمل على هذا النوع من العمل "تالنت كلاود" أي القوة العاملة المستقلة التي تعتمد في عملها على التقنيات وتعمل بشكل حر في مجموعة من التخصصات، وهي متوفرة في أي مكان وفي أي وقت للشركات التي تحتاج إليها.

وبينما ينتشر هذا النمط من الأعمال في الدول الغربية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه يتسم بزخم بطيء للانتشار في العديد من الدول الأخرى وحتى في بعض الدول المتقدمة التي يسودها بيئة عمل تقليدية تقوم على التواصل المباشر بين الشركات من جانب وبين الشركة وموظفيها من جانب آخر مثل اليابان، ويرجع ذلك لثقافة العمل التقليدية لدى كل من الشركات والأفراد على حد سواء.

ووفقا لتقرير حول بيئة العمل العالمية خلال عام 2022 أصدره "جالوب" الذي يعد أكبر معهد عالمي متخصص في استطلاعات الرأي، ترصد نتائج استطلاع للرأي العديد من المشكلات في بيئات العمل التقليدية، وقال 60 بالمائة من المشاركين أنهم يعملون ولكن لا يشعرون بالرغبة في استمرار العمل وأفاد 19 بالمائة بأنهم غالبا "غير مشاركين بنشاط في العمل"، فيما تشير إحصائيات مكتب العمل الأمريكي إلى استقالة نحو 4 ملايين أمريكي شهريا من أعمالهم خلال النصف الأول من العام الماضي، مع وصول عدد الوظائف الشاغرة إلى 10.1 مليون في نهاية تلك الفترة.

أين يذهب هؤلاء؟

حسب مسح أجرته شركة فيفر العالمية لخدمات وأبحاث العمل الحر والمستقل في ديسمبر الماضي، قال مديرو الموارد البشرية والتوظيف في الولايات المتحدة إن الأشخاص الذين يتركون شركاتهم أصبحوا يعملون مستقلين أو تحولوا إلى رواد أعمال فيما يعد مؤشرا نحو التوجه المتزايد لتوديع نمط العمل التقليدي، ويتوقعون أنه بحلول عام 2027 سيعمل 86.5 مليون شخص لحسابهم الخاص في الولايات المتحدة، حيث يشكل المستقلون 50.9 بالمائة من إجمالي القوى العاملة في الولايات المتحدة، ولدى 56 بالمائة من العاملين في الولايات المتحدة بالفعل وظيفة يمكن القيام بها عن بعد جزئيا أو كليا.

وتعكس دراسات أخرى بعض النتائج الاجتماعية للجائحة، وتوصلت أكبر دراسة استقصائية حول النساء في بيئة العمل التقليدية أجرتها شركة ماكينزي أند كو أن النساء في المناصب القيادية تترك عملها بأعداد كبيرة وأن 10 بالمائة فقط من النساء يرغبن في مواصلة العمل في الموقع، حيث تسعى معظم النساء إلى فرص عمل أكثر مرونة، وفي المملكة المتحدة يخرج الكثير من الناس من إطار العمل التقليدي لرعاية الأقارب وعدد هؤلاء في أعلى مستوى منذ مايو 2020 وتشير الأرقام الرسمية إلى أن 43 ألف من النساء تركن القوى العاملة بسبب التزامات الرعاية الأسرية في العام الماضي، وهي زيادة بنسبة 3 بالمائة عن العام الأسبق.

ورغم أن الظروف وسمات سوق العمل تتباين بين دولة وأخرى، وقد يعتبر البعض أن ما ينطبق على سوق عمل قد لا يصلح مع دول أخرى، لكن يظل الواقع يثبت أن التغير والتطور لا بد أن يشمل الجميع في نهاية المطاف خاصة أن المعايير المتغيرة بسرعة في سوق العمل تؤدي إلى قبول أوسع في مختلف قطاعات الأعمال ومرونة في تغيير الإجراءات الروتينية المطلوبة لإشراك المواهب المستقلة بنجاح، وتدريجيا يفتح هذا فرصا جديدة لمزيد من العمالة للانضمام إلى القوى العاملة المستقلة وإعادة تشكيل الطريقة التي يدمجون بها بين حياتهم المهنية والشخصية، ويتيح ذلك فرصا للعاملين ذوي الطموح والقدرات الذين تشعرهم الوظيفة بمحدودية آفاق التطور المهني، بينما قيامهم بدور محدد في المشروع أو افتتاح مشروع لحسابهم الخاص يتيح لهم الشعور بالتمكين والنجاح المهني، وغالبا ما يذكر الموظفون الذين تركوا وظائف بدوام كامل أن السبب هو عدم الشعور بالتقدير أو الافتقار إلى الشعور بالانتماء وفقا لبحث قامت به شركة الاستشارات العالمية ماكينزي اند كو.

من جانب آخر، تتمثل إحدى التبعات الإيجابية الدائمة التي أسفر عنها تفشي الوباء العالمي في الطريقة التي عجل بها القدرة على إنجاز العمل بغض النظر عن المسافة والموقع، وأجبرت الجائحة المديرين وأصحاب الأعمال على التركيز على الإنتاج بدلا من الالتزام بساعات عمل محددة.

العمل الحر لا يخلو من التحديات

لا يخلو عالم العمل الحر من التحديات،

فمعايير الإنتاجية لم تتسم بعد بالوضوح الكافي لدى الجميع، وبعض الباحثين عن المرونة في العمل يجدون أنفسهم يعملون ساعات أطول وفي كل الأوقات، وحتى الآن لم تتطور أنظمة التأمين الصحي والتقاعد بما يكفي لدعم العمالة المستقلة، وفي استطلاع للرأي أجرته "فيفر"، قال أكثر من 40 بالمائة من العاملين لحسابهم الخاص في الولايات المتحدة إن الرعاية الصحية كانت التحدي الأكبر بالنسبة لهم، ورغم أن قانون الرعاية الصحية يتيح لأي شخص التسجيل للحصول على خطة صحية لكن لدى 24 بالمائة فقط من العاملين لحسابهم الخاص بدوام كامل خطة يساهمون فيها على نفقتهم الخاصة،

كما ترصد تقارير صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن العمل الحر بشكل عام ما زال يفتقد إلى شبكات الأمان المالي والاجتماعي التي يتمتع بها الموظفون بدوام كامل، على الرغم من أنه بحلول نهاية العام الجاري، من المتوقع أن ترتفع مساهمة الاقتصاد المرن في الاقتصاد العالمي إلى 455 مليار دولار، وفقا لمؤسسة ماستركارد المالية العالمية، لكن الأبحاث التي قامت بها المؤسسة ترصد أيضا أن عددا متزايدا من الشركات التي تعتمد على القوى العاملة المرنة تدرك أن توفير شبكة أمان يمنحها ميزة تنافسية لا سيما مع تزايد الطلب على العمالة وفق أنظمة مرنة.

على نطاق أوسع، ما زال سوق العمل العالمي التقليدي يعاني من تعافٍ غير متكافئ منذ الجائحة، واعتبرت منظمة العمل الدولية أن مجموعة من الأزمات الاقتصادية والسياسية تعرض تعافي سوق العمل العالمي للخطر، ومنذ عامين كان 94 بالمائة من العاملين في مختلف أنحاء العالم يتعرضون لإغلاق أماكن العمل بسبب قيود الجائحة، والصراع في أوكرانيا جعل التعافي من الجائحة أكثر صعوبة خاصة في البلدان منخفضة الدخل التي تتسم أيضا بفجوة واسعة في ساعات العمل بين الجنسين، وبينما تعافى سوق العمل في معظم الاقتصادات المتقدمة الآن أو تجاوز مستويات ما قبل الجائحة مع حدوث نقص في العمالة في بعض الدول، فقد وجدت اقتصادات البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل صعوبة أكبر في التعافي، وتقول منظمة العمل الدولية إن الآثار غير المباشرة للوباء، إلى جانب "مجموعة من الأزمات المتعددة والمتداخلة" التي تفاقمت بسبب الصراع في أوكرانيا، أدت إلى زيادة التضخم مما تسبب في انخفاض الأجور الحقيقية في العديد من البلدان حول العالم. ويؤثر تضخم أسعار الغذاء والطاقة على الأسر أكثر من غيرها، كما يقلل التباطؤ في النمو الاقتصادي من الطلب على العمالة حيث يؤثر عدم اليقين على التوظيف.

كما ترى المنظمة أن هناك انتعاشا غير متكافئ بين مجموعات مختلفة من العمل، فالمهن التي تتطلب مهارات عالية شهدت تعافيا قويا بعد الوباء لكن لا يزال التوظيف في معظم المهن ذات المهارات المتوسطة والمنخفضة المهارات أقل من المستوى الذي كان عليه في منتصف عام 2019، من ناحية أخرى، زادت العمالة غير الرسمية - التي تحددها منظمة العمل الدولية على أنها نشاط اقتصادي لا تحميها ترتيبات رسمية بشكل كامل سواء من الناحية القانونية أو في الممارسة بعد انخفاضها بشكل كبير أثناء الجائحة.

ولكن رغم كل هذه التحديات، فمع انتشار نموذج العمل الجديد وسهولة تطوير المهارات اعتمادا على البرامج والتقنيات، سيثبت مع الوقت أن نموذج العمل الحر مناسب لكثير من الأعمال وسيوفر العديد من الخيارات المهنية لأولئك العمال الذين يتطلعون إلى الابتعاد عن المهن التقليدية أو اكتساب خبرات متعددة عبر تجربة عدد من الأعمال، وتنتشر مفاهيم العمل الجديدة أكثر بين الشركات الأصغر حجما والأسرع حركة، ومن جانبها، ترى التقارير الصادرة عن منظمة العمل الدولية أن إدخال ترتيبات أكثر مرونة على صعيد العمل، مثل تلك التي تم اعتمادها خلال فترة جائحة كوفيد-19، مفيد للاقتصاد وللشركات وللعاملين، وبالاستفادة من دروس الجائحة يمكن الوصول إلى سيناريو مفيد للجميع من خلال تحسين أداء الشركات وتحقيق التوازن بين الحياة المهنية والحياة الخاصة في آن واحد.

واعتبرت المنظمة أن الإجراءات التي اتُخذت خلال أزمة كوفيد-19 توفر أدلة جديدة على أن منح العمال مزيدًا من المرونة حول كيفية عملهم ومكانه ووقته يمكن أن يكون إيجابيًا لأنفسهم وللشركات وأن يساهم مثلًا في زيادة الإنتاجية، لكن الأمر يتطلب سياسات شاملة ومتكاملة ومتوازنة على الصعيد الوطني والعالمي والتزام قوي بالمبادرات التي أعلنتها الأمم المتحدة للوظائف والحماية الاجتماعية.

تعليق الصور. تغيرات واسعة في توجهات سوق العمل. رويترز