880641
880641
إشراقات

مدارس للبناء الروحي والتربوي والاجتماعي

29 ديسمبر 2016
29 ديسمبر 2016

عمارة بيوت الله .. تفعيلٌ لدورها المؤسسي في المجتمع -

مساجد عُمان .. مدارس أنجبت العلماء -

د. ناصر بن علي الندابي -

المسجد كلمة لها وقع في النفوس المؤمنة، المسجد أفضل بقاع الأرض وأطهرها وأقدسها، تهفو إليه القلوب وترتاح إليه النفوس وتطمئن، وكيف لا يكون كذلك وهو بيت الله عز وجل ومكان المثول بين يديه، ومعراج النفوس البشرية إلى خالقها وبارئها، يقول المولى جلت قدرته: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».

كان المسجد وما زال منارة للمسلمين وشعارًا للمؤمنين، وعلامة للقرية المسلمة، ونورًا للسّالكين على الطريق، ومأوى لذوي السبيل، من مآذنه العالية تصدع كلمة الحق، فيتناغم الآذان معها، ويردد الكون صداها، وتبتهج الكائنات الحية بها، فالكل يسير في فلك واحد، وسبيل أوحد؛ إنه طريق الذاكرين المسبحين، الخاضعين لخالق الكون ومكوره.

حين قدم نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم إلى مدينته المنورة بدأ به، وأمر ببنائه ليخبر من حوله ومن سيأتي بعده أنه شعار الإسلام، ومنطلق بناء المدن، وأساس قيامها، ففهم سلفه الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين أن بناءه أهم من بناء المنازل وتشييد القصور وتحصين المدن، فتحصين النفوس أولى من تحصين البيوت، فحين تتربى القلوب على المساجد وعلى سلوك طريقها لن يتمكن العدو من الاقتراب من مدنها ومساكنها .

كان المسجد في عهد السراج المنير عليه السلام مكانًا للعبادة، وموطنًا لإدارة الدولة، ومكانًا لاستقبال الوفود، فيه تفض النزاعات، ومنه تعقد الرايات، ومن خلاله تعمر العقول معرفة وعلما، ومن حلقاته تربت النفوس، فامتلأت نورا ويقينا وتقى وورعا.

وعلى هذا سار أجدادنا العمانيون، أسسوا المساجد في كل بقعة تطؤها أقدامهم وفي كل أرض يحطون فيها رحالهم، عرفوا مكانتها وقيمتها فأعطوها حقها، فأخرج لهم جيلا عارفا بربه عالما بدينه موقنا بعقيدته.

ذلكم التنوع في دور المسجد والفوائد المختلفة من تأسيسه وعاها العمانيون في تاريخهم، فما إن دخل شعاع الإسلام إلى عمان حتى قام الصحابي الجليل مازن بن غضوبة بتأسيس مسجده في مدينته العريقة - سمائل - متعلما من حبيبه وسيده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائرًا على نهجه وهداه في تأسيس هذا المكان الطاهر.

وعندما نحث الخطى متجهين إلى الغرب من سمائل تمثل لنا مدينة المساجد التاريخية ومعقل أقدمها وأشهرها، مدينة نزوى، مدينة العلم والتراث، مدينة الخير والفلاح، من مساجدها خرج العديد من العلماء والأئمة الصالحين والأدباء والشعراء والفقهاء والقادة الفضلاء الذين ملأوا عمان علما وعدلا وأمنا.

ومن أقدم تلك المساجد التي أخرجت لعمان طلاب العلم والمعرفة مسجد الجامع الذي يقع في قرية العقر والذي أصبح يعرف اليوم بـ - جامع السلطان قابوس-، ثم مسجد الشيخ الذي بناه الشيخ بشير بن المنذر في القرن الثاني الهجري، وفي القرية نفسها أيضا يقع مسجد الشواذنة الذي يرى بعض العلماء والمؤرخين والأثريين أنه الأقدم في هذه المدينة الأثرية؛ إذ يروى أنه بني في السنة السابعة من القرن الأول الهجري، وقد عمره الكثير من العلماء بحلقاتهم التعليمية من بينهم العلامة أبو عبدالله عثمان الأصم، وأبو علي الحسن بن سعيد، وأبو زكريا يحيى بن سعيد، وأبو علي أحمد بن محمد بن عثمان.

ويأتي بعد هذا المسجد في القدم مسجد سعال الذي بني في السنة الثامنة من القرن الأول الهجري، وقد خرج هذا المسجد أيضا العديد من العلماء في شتى فنون العلم والمعرفة، وقد اشتهر بذلكم المحراب الذي يدل على البراعة التي وصل إليها علم الزخرفة في عمان.

ومن المساجد التي تتوسط مدينة نزوى جامع نزوى الذي يقع في قرية العقر كما أسلفنا، وقد بنى هذا المسجد الإمام غسان بن عبدالله الذي تقلد الإمامة سنة اثنتين وتسعين ومائة للهجرة، وقد جُدد بناؤه عدة مرات، مرة على يد الإمام الصلت بن مالك الخروصي، وبعدها بسنين جدد بناءه الإمام سلطان بن سيف اليعربي . إلى جانب هذه المساجد هناك العديد والعديد من المساجد في هذه المدينة العريقة وما ذكرناه سلفا ما هو إلا من باب ذكر المثال لا الحصر ، كما أن المساجد القديمة لم تكن في محيط نزوى فقط فقد شيدت الكثير منها في شتى مدن وقرى عمان وفي سنوات متقاربة من تلك السنين التي أسست فيها مساجد نزوى، بل بعضهم يذهب إلى أن هناك مساجد شيدت في عمان تعد الأقدم من نوعها حتى من مسجد المضمار، من بينها مسجد ذو القبلتين الواقع في ولاية إبراء بمحافظة شمال الشرقية والذي يعود تشييده إلى السنة السادسة من القرن الأول الهجري، كما لا تخلو الكثير من مدن عمان وقراها من مساجد العباد التي تبدو للناظر كأنها طيور محلقة على منحدرات الجبال.

وبعد ان طفنا في جولة سريعة في بعض المساجد العمانية نريد أن نقف وقفة تأمل ووقفت مراجعة هل ما يقوم به المسجد اليوم هو نفسه ما قام به في تلك العصور، وهل يؤدي كل الواجبات التي ينتظرها منه الناس؟ ، وإذا كانت الإجابة بالسلب فما السبب وأين الخلل؟ ، هل في قلة إعداد المساجد؟ ، أم في قلة اعداد روادها؟ ، أم أن دور المسجد قد مضى وأن وجوده اليوم لا ينبغي أن يتعدى إقامة الصلاة فقط؟

إن الأسئلة التي طرحتها آنفا أسئلة جديرة بالانتباه، وجديرة بالتأمل، وجديرة بالمراجعة، نعم مراجعة النفس لتبيان الخلل ومعرفة الداء ليسهل وصف الدواء، نعم نحتاج إلى مراجعة وضعنا اليوم ووضع مساجدنا، إن مما يندى له الجبين أن ترى المساجد خالية من روادها، بل لا أبالغ إن قلت أن أعدادها اليوم تقترب من أعداد مرتاديها.

لا أريد أن أرجع بك أخي القارئ إلى عصور الصحابة والتابعين بل أريد أن ترجع لتقرأ عن ما فعلته المساجد في بلدنا قبل مائة سنة مضت لتعرف الفرق، لا نريد أن نكون سلبيين كثيرا ونقول انه لا يوجد أي دور للمساجد اليوم ولكن نقول ان هناك فرقا شاسعا وبونا واسعا بين دورها قديما ودورها اليوم .

كانت المساجد المحضن الثاني للمسلم بعد أسرته ففيها يتعلم الطفل القراءة والكتابة، وخاصة قراءة كتاب الله عز وجل ليستقيم لسانه، وتصح صلاته، لذلك لا تستغرب اليوم إن وجدت أناسا لا يحسنون القراءة بصورة عامة ولا يتقنون قراءة كتاب الله على وجه الخصوص، فكم تتألم ويعتصر قلبك حين تسمع إمامًا يلحن في القراءة ويكسّر كلام الله عز وجل ويغير معانيه بسبب سوء قراءته وجهله بمبادئ قراءة كلام الله عز وجل.

ذلكم أحد الأدوار التي قام بها المسجد في تلك العصور، أما الدور الآخر حين كان كل فرد في المجتمع صغيره وكبيره يرتاد المسجد، كان الطفل يتربى منذ نعومة أظافره على احترام المسجد وتقديره، فحين يدخل بيت الله عز وجل ويرى المسلمين خاشعين ما بين ذاكر لله وتال لكتابه، وما بين مصل فريضته وآخر متنفل، تدخل في نفسه الطمأنينة وحب الدين، فيتربى على الخلق الحسن وعلى الورع والتقوى، ويعلم علمًا لا يخالجه شك أن كل أفراد المسجد آباؤه، فهو إن أخطأ في شيء سارع كل فرد لتعليمه الصواب، وأن بدا منه عمل أو خلق ينافي مكانة المسجد وقداسته فالكل سيمنعه ويبين له الصواب.

هذه شذرات فقط مما ينبغي أن يقوم به المسجد، ونحن نقول اليوم ان المساجد بدأت تفوق من غفوتها وبدأ دورها يظهر خاصة في تلك التي أصبحت تستقطب طلاب المدارس في الصيف، أو تلك التي تحدد يوما في كل أسبوع لاستدعاء محاضر من هنا أو هناك لوعظ الناس وتعليمهم، ونقول في الختام إن الخير قادم، وإن الجيل الجديد يسير في طريق الإيمان وما على المربين إلا الإمساك بأيديهم وتبصيرهم بأسباب المجد والعزة، وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح.