إشراقات

ما أشبه الليلة بالبارحة

16 يناير 2020
16 يناير 2020

عبدالكريم شحات اللقاني - مقرئ بمسجد الخور - مسقط -

ما أشبه الليلة بالبارحة.. إن أول ما خطر ببالي في غمرة أحداث مساء يوم الجمعة وصباح يوم السبت - العاشر والحادي عشر من يناير 2020م- من رحيل ووداع وتنصيب.. هو أحداث يوم السقيفة «مع الفارق طبعا»، فقلت ما أشبه الليلة بالبارحة؟ ثم قلت في نفسي عن أي شئ أتحدث؟ أعن قابوس المجد!؟ أم عن جنازته!؟ أم عن شعب عمان الأبي!؟ أم عن سلطان عمان المبايع!؟ أم عن أجواء التنصيب الهادئة المتعقلة!؟ أم عن أجواء الغيث المنهمر!؟ فكل هؤلاء يستحقون الحديث، فعن سلطان القلوب قابوس المجد أقول: رحمك الله يا سلطان القلوب قابوس، رحمك الله يا قابوس العز والفخر العلا والمجد، رحمك الله يا فخر السلاطين، رحمك الله.. ما رأينا منك إلا خيرا، رحمك الله.. بفقدك فقدنا حكيما.. بشعبه رحيما.. وبرعيته حليما.. وفي أخلاقه وعطائه كريما، فكم من حكايات عن كرمه سمعنا، وكم من روايات عن حلمه وحكمته علمنا، وكم من مواقف مرت وبحسن تصرفه فيها شهدنا وأشدنا عبر بعمان إلى بر الأمان في خضم أحداث تضج بها المنطقة.. بل والعالم الحيران، جعل الله ذلك في ميزانكم إنه هو الكريم المنان. وأما عن جنازته: فهي درس في التواضع.. جنازة عادية.. سار خلفه فيها أبناء شعبه المحب الوفي، ولم يمنع أحد من وداعه بمنتهى الرقي والصبر إلى جانب الحزن والأسى، لم تتقدمها أكاليل الورود، وتم الدفن في قبر عادي جدا.. فلم يصنع له قبر من الذهب، ويكسى بالحرير، بل من التراب وإلي التراب نعود.. رحمك الله يا قابوس عمان وقائدها وفخرها وعزها.. نم قرير العين مطمئنا في جوار رب كريم يجزي المحسنين أضعاف إحسانهم. وأما شعب عمان: فما أجمله من شعب.. وما أكرمهم من فضلاء نجب، ما رأيت أكرم ولا أوفى منهم، وما رأيت شعبا يجمع على حب قائده، كما رأيتهم، كلهم يدعون له، وكلهم ينتظرون صوته، وكلهم يشتاقون لطلعته.. الصغير قبل الكبير، تحبس الأنفاس حين يسمعون أن شيئا ألمّ به، وتبتسم الوجوه وتسعد القلوب حين يسمعون خبر خيرا عنه، يغادر البلاد للعلاج فتصحبه الدعوات، وتكسو عمان ظلمة لا تنجلي عنها حتى يعود.. طالت الغيبة أو قصرت فإن عاد أقيمت الولائم ونحرت الذبائح حمدا لله وشكرا، يهنئ بعضهم بعضا بعودته ولا يتحدث عنه أحد باسمه مجردا ..صغيرهم وكبيرهم - وربما كان من جيله - يعتبره أبا. وأما سلطان عمان المبايع: فحديثه كله وفاء.. بدا عليه التأثر.. وعلاه الوقار.. أعطى كل ذي حق حقه.. خطابه موجز لكنه شامل.. وفّى لسلفه.. وترسّم خطاه.. ورسم ملامح سياسته.. كل ذلك في بساطة وهدوء.. أعانه الله على ما أوكل إليه.. وجعله مفتاحا للخير مغلاقا للشر.. بلسما للضعفاء وعونا للمحتاجين وخير خلف لخير سلف إن شاء الله. أما عن أجواء التنصيب والبيعة: فقد كانت بفضل الله موفقة ذكرتني - شخصيا - بيوم السقيفة العظيم.. وفي إيجاز أنقل مقولة أحد العلماء عن يوم السقيفة: «بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي، نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال».. وإني لأتساءل - مع اعتبار الفارق في التشبيه طبعا - ألا تذكرنا أجواء مجلس بيعة اليوم بأجواء يوم السقيفة ألم تعطر هذه الذكرى بشذاها رياح هذا اليوم الحزين السعيد؟ إني لألمح هذا العطر الميمون في هذه الأجواء والتي ربما بسببه انهمرت السماء بأمطار الخير عقب فض هذا المجلس، فما أجمله من مجلس، وما أعظمها من ذكرى، جزى الله خيرا من شارك وأعان وساعد على تذكيرنا بها.

ثم أقول في ذات المقام ونحن نتنسم عبق الماضي الجميل: إن الصبر الجميل المقصود في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً) هو الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى.. لقد كان صبر الأنصار رضي الله عنهم صبرًا جميلاً، صبرًا عند الصدمة الأولى، وهذا ما يفهم في ضوء سيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل ثمة تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟.. أبدًا.. فإن المسلم الإيجابي مهما حزن، فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب، وإذا فكرنا في الموقف قليلاً.. ترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين، أو أسبوعًا أو أسبوعين، حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون النتيجة؟ ماذا لو هوجم المسلمون؟ من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟ من يجهّز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟ ماذا يحدث لو حدثت فتنة من أي نوع أو نقض اليهود عهدهم مع المسلمين؟ من يأخذ قرار الحرب ضدهم؟ من يجمع ومن يوحّد؟.. أقول: ماذا لو أسقطنا ما سبق على واقعنا اليوم؟ فالحزن يعتصر القلوب لكنه لن يغفل القوم عن فعل الواجب وعمل الصواب بإذن الله عز وجل، والمنطقة بل والعالم كله من حولنا يموج بالصراعات وأجواء القلق! أليس توفيقا من الله عز وجل أن يوفق القوم الآن إلى هذا الصنيع الذي قاموا به.. ولعله ببركة هذه الخطوة يكون الحفظ والتوفيق من الله عز وجل هو حليفهم في قادم الأيام.