No Image
إشراقات

كهلان الخروصي: لا يمكن أن نبلغ المستوى الحضاري الذي نرتضيه لوطننا دون أن يؤدي كل واحد منا مسؤوليته

01 ديسمبر 2022
في حلقة بعنوان «الوطن.. زاوية النظر المختلف» على برنامج سؤال أهل الذكر
01 ديسمبر 2022

خصص برنامج سؤال أهل الذكر الذي يعده ويقدمه الدكتور سيف بن سالم الهادي حلقة خاصة عن الوطن، استضاف فيها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان، تناولت المعاني العلمية التي يمثلها هذا المصطلح، وأهم المقومات التي أكدت عليها الشريعة الإسلامية، والأدلة عليها من القرآن والسنة والأمثلة التي يمكن استقراؤها من الواقع المعاصر.

ما المقومات التي أكدت عليها الشريعة الإسلامية حتى يكون للوطن معنى مختلفا في شريعتنا الغراء؟

قد أتت بما يغنينا عن كثير بحث وعن إطالة سبر أغوار تجارب هذا الإنسان فيما يتعلق ببناء الأوطان وحفظ مكتسباتها وإشاعة الأمن فيها وتحقيق ما يبتغيه الإنسان منها إذ باستقراء ما في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجد أن هنالك جملة من القيم والمبادئ والمقومات التي يقوم عليها أود المجتمع وتبنى عليها الأوطان وتؤسس بناء عليها الحضارات تأسيسا متكاملا معرفيا وماديا وروحيا وفي كل مطالب هذا الإنسان فردا كان أو جماعة أو مجتمعا وإجمالا قبل الخوض في التفصيل وبتتبع ما في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك مأمورات جاءت بها هذه الشريعة ومنهيات حذرت منها، باجتماعها أي بإتيان المأمورات واجتناب المنهيات تبنى الأوطان بناء متكاملا قويا شامخا عزيزا ويحافظ على نهضتها وتحقق لها حضارتها أما المأمورات فهي خمسة: أولها الإيمان والعمل الصالح وثاني هذه المأمورات العدل والإنصاف، وثالثها الحق والتزامه واتباعه، ورابعها الإصلاح، وخامسها العلم.

وحينما نقلب ما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم نجد شواهد كثيرة وأدلة متضافرة على أن أي بناء مجتمعي صحيح قويم لا يمكن أن يتحصل إلا بإتيان هذه المأمورات، ومعها لا بد من اجتناب أسباب تدعو إلى التأخر والفساد والضعف والمذلة، وهذه هي المنهيات وهي أيضا خمسة: أولها التنازع والتفرق، وثانيها البطر وثالثها الترف، ورابعها كفران النعمة، وخامسها الكسل والعجز هذه المنهيات هي غير ما يقابل المأمورات، أي المقصود أن المأمورات تدل على نفي أضدادها، فعندما نقول العدل فهذا يعني أن الظلم نهي عنه، وأنه لا يمكن أن يتحقق بناء مجتمع بشيوع الظلم فيه، فما كان مقابلا للمأمورات اقتصرت على ذكر المأمور به دون بيان المنهي عنه مما يدل عليه المأمور به، وإنما خصصت بالذكر في المنهيات ما نجده في كتاب الله عز وجل مما كان سببا لزوال الحضارات وتهدم أركانها وتلاشي وجودها مما حذرنا منه كتاب ربنا تبارك وتعالى أو مما نجده أيضا في سنة رسول الله صـلى الله عليه وسلم.

ولا بد لهذه الأمور من مقومات تحفظها وتمكن الناس من التزامها في سبيل بنائهم لمجتمعاتهم وفي مسعاهم لرقي أوطانهم، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يدخل فيه التناصح والتشاور والتواصي بالحق، ثم مبدأ التآخي الذي أيضا نجد له أدلة كثية في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صـلى الله عليه وسلم ثم الأخلاق القويمة لأبناء المجتمع، ثم التكامل فيما بينهم، هذه المقومات هي التي تمكنهم من حفظ المأمورات ومن اجتناب المنهيات.

كيف توجه الآيات والأحاديث التي تأمر بهذه المأمورات وتنهى عن هذه المنهيات في خدمة الوطن نفسه؟

المأمور به الأول هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا» فالله تبارك وتعالى تكفل لهؤلاء الذين يأمرهم بهذه الأوامر بصيغة الوعد ببيان ما يتحلون به، فتكفل لهم بـ» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا»، ولهذا نتذكر أن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه: « وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ»، فالإيمان والعمل الصالح والعبادة لله تبارك وتعالى هي أساس تشييد صروح الأمن الشامل، سواء كان أمنا فكريا أو نفسيا أو مجتمعيا أو معيشيا، أسه هو الإيمان بالله تبارك وتعالى والعمل الصالح، هذا ظاهر في هذه الآيات الكريمة كما نجد في المقابل أن الله تبارك وتعالى أهلك القوم الذين كفروا بالله تبارك وتعالى وجانبوا الصراط المستقيم، فقال: « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ»، وهكذا فعل بقوم نوح وقوم صالح وقوم هود وقوم ثمود وقوم شعيب، تتكرر العبر والعضات في كتاب الله عز وجل لتؤكد لنا هذا المعنى، فحسن التدين لله تبارك وتعالى بالإيمان والعمل الصالح هي من أقوى العوامل التي تدعوا إلى التمكين في الأرض وإلى استتباب الأمن في كل صوره وأنواعه وإلى زوال أسباب الفساد التي تدعو إلى هدم أركان هذا المجتمع وتقويض بنيانه.

والمأمور به الثاني هو العلم، ولا يمكن لأحد أن يجادل في منزلة العلم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن من شأن العلم إلا أن أول آية نزلت من كتاب الله عز وجل كانت: « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» مما يعني أن هذه الحضارة التي يراد إقامة صروحها وتشييد بنيانها هي حضارة قائمة على العلم وعلى نفي أسباب الجهل، ولذا نجد قوله تعالى: « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ» و» أَفَلَا يَنظُرُونَ» و» قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» والعلم المقصود هنا هو نوعان لأنه تأسيس معرفي شامل، فهو اكتساب العلم اللازم لسعادة هذا الإنسان في الحياة الدنيا، ولسعادته في الآخرة ولتمكنه من رد الشبهات ودحض الأباطيل، وإقامة الحجة على مبادئه وقيمه والثبات عليها على علم وبصيرة، فآيات العلم ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء مجتمع المسلمين في المدينة المنورة كلها أدلة شاهدة على أن بناء الأوطان لا يمكن أن يكون إلا بالعلم، وهذا أيضا ما يخبرنا به ربنا تبارك وتعالى عن أحوال الأنبياء والرسل قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ما سخره لهم ربهم تبارك وتعالى كله شاهد على أن ذلك إنما كان بدعوة الناس إلى العلم والتعلم ونفي الجهل ونبذ الخرافات والأساطير والإقبال على اكتساب العلم النافع والمعرفة التي يتمكنون بها من حفظ دينهم وبناء مجتمعاتهم.

وفي جانب العدل، فيلخص لنا ربنا تبارك وتعالى دعوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاث كلمات: « وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ» يخاطب بها المشركين والمنافقين، ويخاطب بها أهل الإيمان أن شعار هذا الدين هو «إقامة العدل» وهو تأكيد لما في كتاب الله عز وجل حينما قال ربنا تبارك وتعالى: « لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» ويتأكد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ» والله تبارك وتعالى يبين أن هذه الحياة، وهذا الكون بكل ما فيه إنما قائم على ميزان العدل: «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» فالعدل هو أس بناء المجتمعات وهو الذي يضمن توفية الناس لحقوقهم، ورفع الظلم عنهم، وكف يد الباغي عنهم، ومنع عدوان من تسول له نفسه أن يعتدي على حقوقهم أو على الحقوق العامة، أو على الأموال العامة، أو على شيء مما يمكن أن يكون من أنواع الظلم، ومجاوزة الحدود والعدوان، فإن ما يردع هؤلاء جميعا إنما هو نصب ميزان العدل بين الناس، هو الذي يحفظ الحقوق للناس ولهذا فإن هذه الشريعة أكدت على ذلك من خلال قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ» ويقص لنا ربنا تبارك وتعالى عن الأمم ودعوة الأنبياء والمرسلين لأممهم وأقوامهم قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التأكيد على هذا المبدأ «ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ» ما من وطن يمكن أن يبنى بعيدا عن ميزان العدل والقسطاس.

أما بالنسبة للحق، فيمكن لنا أن نستشهد له بقول الله تبارك وتعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ» والفساد هو خروج عن حدود الاعتدال، ويقابل ذلك الإصلاح ويعني الاعتدال ويعني استقامة الحال، ولهذا فإن الإفساد هو إخراج الأمور عن حدود الاعتدال، وبناء على ذلك يكون الإصلاح هو رد الأمور إلى نصابها المستقيم، والعود بها إلى استقامة الحال، ولهذا قال:» «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ» ويقول تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ»، وهذا أمر واضح جلي، وهناك أمثلة من واقع حياة الناس مما يحتاجون إليه لتصور مفهوم التزامهم وتمسكهم بالحق في بناء أوطانهم.

أما فيما يتعلق بالإصلاح فهو وصف شامل، والأدلة المتقدمة كلها تدعو إلى ما يتعلق بالإصلاح، فالإصلاح هو رد الأمور إلى استقامة الحال، بإزالة أسباب الفساد ورد الأحوال إلى الاستقامة والاعتدال، ولذلك نجد موسى قال لأخيه هارون عليهما السلام: «وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» وربنا تبارك وتعالى يقول: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ».

من المكلف بتحقيق هذه المعاني وترسيخها والعناية بها؟ هل هم الأفراد أم الجماعات، أم الدولة والأفراد جميعا؟

الحقيقة أنها مسؤولية الجميع، فهي مسؤولية الأفراد ومسؤولية المجتمع، ومسؤولية المؤسسات العامة والخاصة ليس أحد من هؤلاء خلوا من تحمل قسطه من المسؤولية بإزاء بناء الوطن بالتزام هذه المأمورات واجتناب المنهيات التي يمكن أن تهد أركان المجتمع، فالفرد بصلاحه في نفسه وبأرضه بالمعروف وبحسن تدينه وبنهيه عن المنكر وباتباعه للحق وبمنع نفسه من ظلم الغير مع سعيه إلى الحصول على حقه ومع أخذه بأسباب التعلم والتزامه بالإصلاح فإنه شريك لا يمكن أن يستغنى عنه في سبيل بناء الوطن، لكن ذلك لا يكفي فإن هذه المأمورات لا يقتصر مقتضاها على الفرد وحده، بل لا بد أن ينوء بها المجتمع أيضا، لا بد أن تتحمل المسؤوليات العامة والخاصة قسطها من هذا الأمر، ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلـم يغرس هذا المعنى بقوله: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع ومسئول عن رعيته» فإذن هي مسؤولية الجميع ولا يمكن أن نبلغ بأوطاننا المستوى الحضاري الذي يرتضيه لوطننا دون أن يؤدي كل واحد منا مسؤوليته وأن يتحمل قسطه.

وعلى سبيل المثال عندما نقول العدل، قد يلتزم المرء في نفسه حينما يطالب بحقوقه بالعدل، لكنه يطف في الكيل حينما يؤمر بتأدية الحقوق إلى غيره، وهذا من أسوء أنواع الظلم ومجانبة العدل، فالله تعالى يقول: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» فصاحب السلطة أيا كانت هذه السلطة، ليس له أن يحابي قريبا، أو أن يجانف مبدأ العدل، أو أن يستأثر لنفسه ولا يراعي بني وطنه، ولا ينصفهم في تلك السلطة التي خول إياها، لأنه إن فعل ذلك فهذا من الظلم والفساد، هذا الذي يسلط على مال عام على سبيل المثال، فإن عليه أن يكون ذا علم وأمانة، إن لم يكن أمينا فإن ذلك يعني أنه خائن للأمانة وأنه مقارف لما يسخط الله تبارك وتعالى بمجاوزته لحدود العدل وبظلمه فيما خول إياه فلذلك فإن عليه لزوما أن يكون حريصا على وضع ذلك المال في المحل الصحيح الموافق لما فيه بناء للوطن وصلاح للمواطنين ونجاح لأحوال المجتمع، ليس له أن يبدد هذا المال في السفه واللهو، فعليه أن يراعي الأولويات التي يحتاج إليها المجتمع والتي تحقق للناس ما يبتغونه من كفاف ورضى وعيش هانئ كريم، بما يحفظ لهم كرامتهم وبما يدعوهم إلى مزيد من الإنتاج والعمل لا أن يسيء في هذه السلطة التي خول إياها فإذا به يبعثر هذا المال يمنة ويسرة غير مبال بحدود ولا بشرع ولا بمبادئ للعدل، أو أن يكون جاهلا من الجهال وإذا به بعد ذلك يسيء في هذه السلطة التي تحت يده، وكذا الحال فيما يتعلق بمختلف الإدارات والمسؤوليات والأمانات التي يخول إياها.

وخذ على سبيل المثال أيضا أرباب الأموال وأصحاب المؤسسات والشركات، هل من الإنصاف أن يتركوا أبناء وطنهم يبحثون عن الأعمال ويتكففون الناس ويسألون وهم مؤهلون قادرون على أداء وظائف في هذه الشركات الكبرى والمؤسسات ذات رؤوس الأموال الكبيرة وذات القوى العاملة الكثيرة، ولكنه يؤثر غير بني وطنه بهذه الوظائف، فهل هذا من الإنصاف والعدل، وهل هذا من تقدير ما يحتاج إليه الوطن، وهل هذا يتناسب مع العلم الذي نتحدث عنه، وهل يتناسب مع مبدأ التزام الحق والتمسك به، أن يترك بني مجتمعه ووطنه لا يجدون في عيشهم كفافا وقد تعلموا وبذلوا واكتسبوا من المهارات، وإذا بالمؤسسة أو الشركة التي يملكها توظف المئات وقد توظف الآلاف من غير بني وطنه، وكأن هؤلاء المواطنين لا يصلحون لمثل هذه الوظائف، أو أنه يقصد أن يكونوا في عوز شديد وألا يلتفت إلى احتياجاتهم، ولا أن ينصفهم من نفسه ولا مما منَّ الله تبارك وتعالى به عليه من بسطة في الرزق، فهذه المبادئ والقيم ولمَّا نتعرض بعد للمنهيات، هذه كفيلة ببناء الأوطان بناء راشدا يحقق للناس العيش الكريم، ويمكّن أيضا بني الوطن من تشييد صروح مجتمعاتهم على أسس صحيحة سليمة تؤدي بهم إلى الأسس الخلقية اللازمة لحفظ قوام هذه المجتمعات.

فيما يتعلق بالمنهيات، ما الأدلة التي تربط الالتزام بها بقضية إشاعة الأمن والطمأنينة في الأوطان؟

قلت بأن المنهي عنه الأول هو التنازع والتفرق، وهذا واضح في كتاب الله عز وجل، فالله تبارك وتعالى يأمر بالاعتصام بحبل الله والتحذير من التفرق فقال: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»، ويحذرنا من التنازع فيقول: « وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» إنما ينخر في بناء المجتمع التنازع والتفرق، ويعيث ذوو المطامع فيه ببذور الفتنة فإن هذا المجتمع إن استجاب لبواعث التفرق والتشرذم والاختلاف والتنازع والشقاق فإنه مؤذن بذهاب ريحه وبفشله، أي بتقوض أركانه وانهداد بنيانه.

والمنهي عنه الثاني البطر، لقول الله تبارك وتعالى: « وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ» هذا المعنى يتكرر كثيرا في كتاب الله عز وجل، فإن البطر هنا بمعنى أن هذه الأمم استكبرت وأشِرتْ وطغت بهذا فسر الإمام الطبري وابن كثير وأغلب مفسري السلف معنى «بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا» وأن ذلك هو غير الترف والذي هو المنهي عنه الثالث، فإن البطر هو الاستكبار وغمط الناس حقوقهم، وهو الأشر والزهو والغلو، والتعالي عن اتباع الحق، فهذا مؤذن بخراب الديار وزوال الأمم، كذلك الترف، فالله تبارك وتعالى يقول: « وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا» وكان مما حكاه لنا ربنا تبارك وتعالى مما يبين حال أهل النار والعياذ بالله أنهم كانوا من المترفين، فهم يتحسرون ويتوجعون على ما كانوا عليه مما أدى إلى هلاكهم في الدنيا وإلى شقائهم في الآخرة والعياذ بالله، إذن الترف هو من الأسباب الداعية إلى تقويض أركان المجتمع، ويؤسفني أن أقول بأن نصيب كثير من مجتمعاتنا الخليجية اليوم، والعربية والإسلامية عموما من الترف نصيب كبير، سواء انتبه الناس لذلك أو لم ينتبهوا فإن عوامل الدعة والطمأنينة والراحة دفعت الناس إلى مجاوزة الحدود في الإنفاق وفي مطالب الحياة مع عوامل الجهل التي فرطوا في أسباب العلم المأمور به دينا لحفظ مجتمعاتها وحفظ أوطانهم فإن كل ذلك دفعهم إلى تقليد غيرهم في وسائل التسلية والترفيه، وفي فشو ثقافة الاستهلاك لما لا يحتاجون إليه، ودفع ذلك إلى نشوء طبقية يكاد أن كثيرا من المجتمعات اليوم ما عادت فيها طبقة وسطى، هذه الطبقة التي في الغالب هي التي تقوم بصنائع المعروف، وبفعل الخير وبالصدقات وبالأعمال الخيرية والتطوعية، لأن جملة من الأسباب في صدارتها الوقوع في حبال الترف، فذابت هذه المعاني القويمة التي تحفظ أود المجتمع لانغماس أبناء المجتمع في كثير من مظاهر الترف فكان الحال فقرا مدقعا وطبقية واضحة جلية بين أغنياء وأثرياء فاحشي الثراء، وبين فقراء في حالة من العوز الشديد سبب ذلك في كثير من الأحوال إنما هو الترف الذي دفع أيضا إلى تغير في الأخلاق والسلوك وأورثهم التقاعس والخمول في الأجيال الجديدة والبعد عن الهمة والطموح.

ومن المنهيات أيضا كفران النعم أو الجحود، وأدلته واضحة في كتاب الله عز وجل: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»، إذن هذا مثال لوطن مطمئن مستقر فيه رفاهية، ولكن أهله كفروا بأنعم الله فانقلب حالهم وأذاقهم الله الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وهذا مما يؤكد أن ترك شكر نعمة الله تبارك وتعالى وجحود النعم، وعدم القيام بحق شكرها مؤذن بزوالها وبأن يلبس الله تبارك وتعالى ذلك المجتمع بما صنع أهله لباس الجوع والخوف والعياذ بالله.

ومن المنهيات أيضا الكسل والعجز، فنجد أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم يحذر من ذلك فقال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، وقال: «واسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلـم يستعيذ ويعلم أصحابه الاستعاذة من الكسل والعجز، وما ذلك إلا أن هذه الأسباب تدعو إلى الخمول والتقاعس وعدم أداء واجب الدين وواجب الدنيا، وعندما ننظر في أحوال بعض الأمم كما كان من شأن الأمم المترفة التي جاوزت الحدود، ومثال ذلك بنو إسرائيل حينما خاطبهم ربنا تبارك وتعالى على لسان موسى بالجهاد في سبيل الله عز وجل فتقاعسوا وقالوا: « فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ» فكانت النتيجة أن جعلهم في تيه 40 سنة يتيهون في الأرض، حتى تجدد ذلك الجيل المترف المنعم الخامل الكسول بجيل نشأ في شظف العيش ليتمكن من القيام بالواجبات التي أمر بها.