No Image
إشراقات

خسران النفس في القرآن الكريم

25 مايو 2023
تأملات قرآنية
25 مايو 2023

المتأمل في المصطلحات القرآنية يجد هنالك تكرارا لمعانٍ محددة في آياتٍ متعددة، وهذا التكرار يفيد التأكيد على أهمية معرفة تلك المعاني وسبر أغوارها، وكشف دلالاتها، ولو أتينا إلى معنى الخسران ومشتقاتها في القرآن الكريم لوجدنا أنه يستظهر معنى الخسران في سياقات متعددة على الرغم من تكراره في آيات مختلفة، ومن تلك المعاني التي ركز عليها هو خسران النفس، فما هو هذا الخسران الذي حذرنا الله منه، واستظهر معانيه، وما هي المعاني الأخرى التي وردت في كتاب الله.

فلو تأملنا الخسارة في الأشياء المادية التي يمتلكها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فهي أهون الخسارات في المنظور الإلهي، فكل الأموال هي عوار مستردة، فأنت في نهاية المطاف -إن لم تخسرها- بالفقدان وأنت حي، ستخسرها رغما عنك بمفارقتك إياها بوفاتك وانتقالك إلى عالم البرزخ، لكن الخسارة التي تتعلق بخسران النفس، وهو الخسران الأبدي الذي أكد عليه الكتاب الكريم، وهو أن يخسر الإنسان نفسه، ويكون مصيره الأبدي الدخول إلى نار جهنم، فذلك هو الخسران المبين فنجد ربنا عز وجل يقول في سورة المؤمنون: «وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ» أي من خفت موازين حسناته وثقلت موازين سيئاته فتلك هي الخسارة الحقيقية في أن تكسب نفسك سيئات ترجح عن أعمال الخير والسيئات التي قدمتها، فذلك خسران للنفس، يؤدي بك إلى التخليد في جهنم والعياذ بالله، ويؤكد ربنا عز وجل هذا الأمر بآية في سورة الأعراف بقوله: «وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ».

وقد نفى الله عز وجل صفة الإيمان عن الذين خسروا أنفسهم، وهما صفتان مقترنتان، فمن لا يؤمن بالله قد خسر نفسه، فهي نفس أمارة بالسوء، فقال تعالى في سورة الأنعام: «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، فالله تعالى في هذه الآية يأمر نبيه أن يخاطب المشركين بالحجة والإخبار، فهم يعلمون أن ما في السموات والأرض لله، وهو كما بدأ الخلق قادر على أن يعيده، ويجمعكم ليوم القيامة، وقد كتب على نفسه الرحمة، فهو رحيم على عباده الذين استجابوا له، ولكن الخاسرين الذين لا يؤمنون.

كما بيّن القرآن الكريم خسران أهل الكتاب، وذلك بتكذيبهم للنبي -صلى الله عليه وسلـم- الذي يعرفونه وذكر تفصيلا في كتبهم ويعرفونه بالعلامات الواضحة كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم سبق عليهم الشقاء بتكذيبهم إياه، ولذلك أنكروا الحق بعد أن أيقنوا به، وقد خسروا أنفسهم بهذا الأمر فهم لا يؤمنون، ومصير من خسر نفسه بنكرانه الحق نار جهنم خالدا فيها، فقال تعالى في سورة الأنعام: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ».

وأكد الله خسران أهل الكتاب من اليهود والنصارى بذكرهم في سورة الكهف حيث يقول ربنا جل وعلا: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)» فهم في ضلال بعيد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا بجدالهم لرسول الله وعدم تصديقهم له.

ونجد أن المشركين يوقنون بخسارتهم يوم القيامة فيتمنون أن لو آمنوا أو أنهم يعودون إلى الدنيا فيعملون غير الذي كانوا يعملون، ولكن هيهات لهم ذلك، فقال تعالى في سورة الأعراف: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ» فهم كذبوا بما جاء به المرسلون، فهم ينتظرون حتى يأتي يوم الحق، يوم يظهر تحذير الأنبياء لهم على حقيقته فيوقنون بأنه الحق من ربهم، فيقسمون أن رسلهم جاءتهم بالحق، ولكن أيقنوا بعد فوات الأوان فهنالك خسروا أنفسهم بافترائهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.

بل ويتعدى هذا الخسران ليكون خسرانا للنفس وللأهل يوم القيامة فهو خسران مبين، فقال تعالى في سورة الزمر: «فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» فالكتاب العزيز يخبرهم بأن من يعبد من دون الله سيخسر خسرانا مبينا يوم القيامة، ويصور لنا الكتاب العزيز مشهد الظالمين يوم القيامة، وهم يعرضون على النار منكسرين خاشعين من الذل حتى خافضي أبصارهم ينظرون من طرف خفي، قد خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخسروا أهلهم، فكل يبحث عن نجاته في ذلك اليوم العظيم، فقال تعالى في سورة الشورى: «وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ».

وكذلك الذين يكذبون بيوم الحشر والبعث والحساب فهم يدخلون في فئة الخاسرين الذين أخبرنا الله عن أحوالهم في كتابه العزيز، قال في سورة الأنعام: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ»، وقال في سورة يونس: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».

هنالك نوع آخر من الخاسرين، وهم الذين يقتلون أولادهم من المشركين من ربيعة ومضر، فقد كانوا يئدون البنات، فهم أصحاب ضلالة وفعلوا هذا الأمر عن سفاهة، وما كانوا على هدى، فقال تعالى عنهم في سورة الأنعام: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».

وتناول الله عز وجل المشركين الذين يفترون على الله الكذب، ويصدون عن سبيل الله، أنهم خسروا أنفسهم وهم الأخسرون في الآخرة، فقال في سورة هود:«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)».

كما تحدث الله عن الذين يتخذون من الشيطان وليا لهم فيأمرهم بما نهاهم عنه ربهم ويطيعونه في الضلالة والفساد، فهم في خسران مبين، فقال ربنا تبارك وتعالى في سورة النساء: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا».

هنالك نوع آخر من الخسران، وهو المعنى المادي له، فقد حذر الله من أن يخسر الناس الكيل في البيع والشراء، فقال ربنا في سورة الشعراء: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ»، وقال في سورة المطففين: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» فقد توعدهم الله بالويل والوعيد الشديد، والويل هو وادي في جهنم.