إشراقات

الطائع: الشريعة تستوعب التطورات التكنولوجية بشرط الالتزام بالمقاصد

25 سبتمبر 2025
في محاضرة توجهات المستقبل.. دور الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية في التمويل الإسلامي
25 سبتمبر 2025

شهدت قاعة الامام جابر بن زيد في كلية العلوم الشرعية بالخوير محاضرة علمية بعنوان: "توجهات المستقبل: دور الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية في التمويل الإسلامي"، قدّمها السيد رشيد الطائع نائب مدير العمليات والتخطيط الاستراتيجي في المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وأدارها الدكتور سالم الحارثي، وذلك وسط حضور لافت من أساتذة وطلبة الكلية، إلى جانب باحثين ومهتمين بالشأن المالي والمصرفي. وقد جاءت هذه المحاضرة لتضع الحضور أمام واحدة من أكثر القضايا الفكرية والعملية إلحاحًا في الوقت الراهن، وهي العلاقة بين التطور التكنولوجي المتسارع وما يفرضه من تحديات من جهة، والضوابط الشرعية التي تحكم حركة التمويل الإسلامي من جهة أخرى.

استهل المحاضر حديثه بتعريف الذكاء الاصطناعي باعتباره القدرة التي تمتلكها الآلات على أداء المهام التي يتطلب إنجازها ذكاءً بشريًا مثل: التعلم، وحل المشكلات، واتخاذ القرار. وأشار إلى أن هذا المجال لم يعد مجرد نظرية أو فكرة مستقبلية كما كان يُنظر إليه قبل عقود، بل أصبح واقعًا ملموسًا يؤثر في مختلف القطاعات الاقتصادية والإدارية والصناعية، وحتى في تفاصيل الحياة اليومية للإنسان. وانتقل بعد ذلك ليستعرض المسار التاريخي لتطور الذكاء الاصطناعي منذ خمسينيات القرن الماضي، حين انطلقت أولى الأبحاث النظرية في هذا المجال، وصولًا إلى الموجة الحديثة التي نشهدها اليوم مع بروز ما يُعرف بـ "الذكاء التوليدي" القادر على إنتاج النصوص والصور والمحتوى بشكل متكامل، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام فرص اقتصادية هائلة، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات عميقة حول القيم والضوابط التي ينبغي أن تؤطر استخدامه.

ولم يقتصر المحاضر في عرضه على الجانب التقني البحت، بل عمد إلى الربط بين منهجية الذكاء الاصطناعي وآلية عمل الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية، موضحًا أن هناك عناصر متوازية تجمع بين الحقلين مثل: الأهداف، والمدخلات، والنماذج، والاستدلالات، والمخرجات. ففي حين ينطلق الفقيه من النصوص الشرعية لفهم الواقع وتنزيل الأحكام المناسبة، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تعتمد على البيانات الضخمة لتوليد حلول وقرارات. وهذا التشبيه – كما أكد الطائع – يعكس الحاجة إلى النظر إلى الذكاء الاصطناعي ليس فقط كأداة تقنية، وإنما كمنظومة فكرية ومعرفية ينبغي أن يتم التعامل معها بوعي وفق رؤية شرعية وأخلاقية واضحة.

انتقل المحاضر بعد ذلك إلى الحديث عن انعكاسات الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي، مبينًا أن ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور تقني محدود، بل هو تحول جذري يعيد تشكيل طبيعة العمل والإنتاج والخدمات. وأوضح أن المؤسسات المالية أصبحت من أكثر القطاعات تأثرًا بهذه الموجة، حيث باتت تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة، وتوقّع اتجاهات السوق، وإدارة المخاطر، وتخصيص المنتجات المالية بما يتلاءم مع احتياجات العملاء. وأشار إلى أن هذه الأدوات التكنولوجية قادرة على رفع كفاءة المؤسسات المصرفية الإسلامية، وتمكينها من منافسة البنوك التقليدية على المستوى العالمي، إذا ما أحسنت توظيفها ضمن إطار شرعي وأخلاقي واضح.

وفي سياق الحديث عن القطاع المصرفي الإسلامي، لفت رشيد الطائع إلى أن التمويل الإسلامي يتميز بخصوصية لا تتوافر في الأنظمة التقليدية، فهو قائم على مبادئ الشريعة التي ترفض الربا وتمنع الغرر والمقامرة، وتشجع في المقابل على الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي والتنمية المستدامة. ومن هنا فإن إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية في هذا القطاع يتطلب دراسة متأنية تأخذ في الاعتبار المقاصد الكبرى للشريعة مثل: حفظ المال، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية المستهلك. وأكد أن التحدي الحقيقي لا يكمن في الجانب التقني، بل في القدرة على وضع أطر رقابية وتشريعية تضمن أن تظل هذه التقنيات في خدمة الإنسان لا في استغلاله.

ثم تناول المحاضر بالتفصيل بعض التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي في المجال المالي، مشيرًا إلى أن من أبرزها أنظمة التقييم الائتماني الذكية التي تعتمد على تحليل سلوك العملاء وليس فقط على سجلاتهم السابقة، وهو ما يتيح فرصًا أكبر للشمول المالي، لكنه في الوقت نفسه يثير إشكالات أخلاقية تتعلق بالخصوصية والعدالة. كما تطرّق إلى استخدام الخوارزميات في إدارة المحافظ الاستثمارية، حيث تستطيع هذه الأنظمة معالجة آلاف المؤشرات في وقت قياسي لاتخاذ قرارات استثمارية دقيقة، إلا أن الاعتماد المفرط عليها قد يؤدي إلى تقليل دور العنصر البشري في المراقبة والتوجيه.

ولم يغفل رشيد الطائع في هذا السياق الحديث عن جانب المخاطر، فقد شدّد على أن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى القطاع المالي لا يخلو من تحديات أمنية وتنظيمية، خاصة في ظل احتمالية تعرض هذه الأنظمة للاختراق أو التلاعب، وهو ما قد يترتب عليه آثار جسيمة على أموال المستثمرين وعلى استقرار السوق ككل. ولذلك دعا إلى ضرورة بناء منظومة تشريعية متكاملة قادرة على استيعاب هذه المستجدات التقنية، دون أن تُفرّط في مبادئ الشريعة الإسلامية أو في حماية حقوق المتعاملين.

وفي جانب آخر من المحاضرة، توقّف رشيد الطائع عند العلاقة بين الذكاء الاصطناعي ومقاصد الشريعة الإسلامية، مبينًا أن هذه العلاقة هي جوهر النقاش في أي محاولة لتكييف التقنيات الحديثة مع التمويل الإسلامي. وأوضح أن الشريعة حين وضعت أحكامها لم تغفل مصلحة الإنسان وكرامته، بل جعلت حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال مقاصد عليا. ومن هنا فإن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المجال المالي لا بد أن يُقرأ من خلال هذه المقاصد حتى لا يتحول إلى وسيلة لإهدار الحقوق أو تكريس الفوارق أو استغلال حاجة الناس.

وأشار إلى أن من أبرز التحديات التي تطرحها هذه التقنيات مسألة العدالة، إذ إن الخوارزميات بطبيعتها تعتمد على البيانات المتاحة لها، وهذه البيانات قد تكون مشوبة بالتحيز أو النقص، فإذا لم يُعالج هذا الخلل فقد تنتج عن الأنظمة الذكية قرارات غير عادلة تُميّز بين فئات العملاء أو تحرم بعضهم من فرص التمويل دون وجه حق. ومن هنا تأتي ضرورة أن تكون هناك رقابة شرعية وتقنية تضمن التوازن بين الكفاءة العالية التي تقدمها هذه الأنظمة وبين العدالة التي تقتضيها مبادئ الإسلام.

كما تحدث عن قضية الشفافية باعتبارها من القيم التي تتفق فيها الشريعة الإسلامية مع متطلبات الحوكمة الحديثة، موضحًا أن الكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي تعمل بما يُسمى "الصندوق الأسود"، أي أنها تنتج قرارات يصعب تفسير كيفية الوصول إليها. وهذا يتعارض مع مبدأ الوضوح والإفصاح الذي يُعد شرطًا أساسيًا في المعاملات المالية الإسلامية. ومن ثم فإن التحدي أمام المؤسسات الإسلامية يكمن في البحث عن آليات تضمن تفسير قرارات هذه الأنظمة وتوضيحها للمتعاملين، بحيث لا يبقى العميل أسيرًا لنتائج غير مفهومة أو غير قابلة للنقاش.

وتطرّق المحاضر أيضًا إلى مبدأ حماية المال، مذكّرًا بأن الذكاء الاصطناعي – رغم إمكاناته الكبيرة – قد يُستغل لأغراض مضرة، كالتلاعب في الأسواق أو تضليل المستثمرين عبر روبوتات التداول السريع. مثل هذه الممارسات، وإن كانت ممكنة تقنيًا، فإنها تناقض روح الشريعة التي تحرص على حماية أموال الناس من العبث والاستغلال. ولذلك فإن استخدام هذه الأدوات يجب أن يكون مضبوطًا برقابة صارمة، بحيث يتحقق المقصد الشرعي في التنمية والعدالة دون الإضرار بمصالح الأفراد أو المجتمعات.

وختم هذه المحطة بالتأكيد على أن الشريعة الإسلامية لا تقف موقف الرفض المطلق من المستجدات، بل تقوم على مبدأ الاجتهاد القادر على استيعاب التطور، لكن بشرط أن يظل هذا الاجتهاد مرتبطًا بجوهر المقاصد ومصلحة الأمة. وفي هذا الإطار دعا الباحثين والفقهاء إلى الانخراط بجدية في دراسة آثار الذكاء الاصطناعي على المعاملات المالية، حتى لا يُترك المجال للشركات التقنية الكبرى لتفرض رؤيتها على الواقع دون ضوابط أو اعتبارات أخلاقية.

وفي سياق متصل، شدّد رشيد الطائع على أن القضايا الأخلاقية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لا تقل أهمية عن التحديات التقنية، بل إنها في المجال الإسلامي أكثر إلحاحًا، فالمعاملات المالية الشرعية تقوم على مبادئ أساسية مثل: تجنّب الغرر، والربا، والاحتكار. وهذه المبادئ قد تتعرض لاختبارات جديدة مع صعود أدوات الذكاء الاصطناعي في الأسواق. وأوضح أن هذه الأدوات قد تُستخدم لابتكار منتجات مالية تحمل في ظاهرها ملامح شرعية، لكنها في حقيقتها قد تنطوي على ممارسات تتعارض مع الضوابط الإسلامية إذا لم يكن هناك وعي ورقابة.

وأشار كذلك إلى أن الذكاء الاصطناعي يفتح الباب أمام إشكالات متعلقة بالمسؤولية؛ فحينما يتخذ النظام الذكي قرارًا خاطئًا يؤدي إلى خسائر أو معاملات غير سليمة، يُطرح السؤال: من يتحمل تبعات هذا الخطأ؟ هل هو المصمم؟ أم المؤسسة التي اعتمدت النظام؟ أم الجهة الرقابية التي سمحت باستخدامه؟ هذه الإشكالية لا تزال موضع نقاش عالمي، لكنها تكتسب بعدًا خاصًا في التمويل الإسلامي، حيث لا يكفي تحميل المسؤولية قانونيًا، بل ينبغي أن تكون هناك محاسبة أخلاقية وشرعية تراعي حقوق الأفراد والمجتمعات.

وفي ختام المحاضرة، قدّم الطائع مجموعة من التوصيات العملية التي من شأنها أن تعزز حضور الذكاء الاصطناعي في التمويل الإسلامي دون الإخلال بالمقاصد الشرعية. فقد دعا إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قابلة للتفسير، بحيث يمكن فهم منطقها وآلياتها قبل اعتماد نتائجها. كما شدّد على أهمية تدريب العلماء وأعضاء الهيئات الشرعية على أساسيات هذه التقنيات، حتى يكونوا قادرين على تقييمها وضبطها في ضوء مقاصد الشريعة. وأوصى أيضًا بضرورة إنشاء قواعد بيانات شرعية متخصصة يمكن أن تعتمد عليها هذه الأنظمة عند معالجة العقود والمعاملات المالية، بما يضمن أن تكون مخرجاتها منسجمة مع القيم الإسلامية.

وأكد أن نجاح هذه الرؤية يتطلب تكوين فرق عمل مشتركة تجمع بين خبراء الشريعة والمهندسين المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، حتى يكون الناتج مزيجًا من الأصالة والمعاصرة، ومن الانضباط الشرعي والابتكار التقني. واختتم بالقول إن المستقبل الذي ينتظر التمويل الإسلامي في ظل الثورة الرقمية لن يكون مجرد تقليد للنماذج الغربية، وإنما فرصة لإبراز نموذج متميز يجمع بين الكفاءة التقنية والعدالة الشرعية.

Image