No Image
إشراقات

الشهادة في القرآن الكريم

18 أغسطس 2022
تأملات قرآنية
18 أغسطس 2022

المتأمل في كتاب الله يجد فيه من الألفاظ المترادفة التي تشترك في اللفظ وتختلف في المعنى، ومن هذه الألفاظ التي تكررت في آيات الكتاب الحكيم هي لفظة «الشهادة»، واشتقاقاتها من أمثال كلمة «شهيد، وشاهد»، فهذا المصطلح يؤدي إلى أكثر من معنى، فهو يدل على الشهيد وهو من مات في سبيل الله، وقد سمي بذلك كما يذكر الطبري في تفسيره لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل، كما أن معنى الشهيد هو الذي يدلي بالشهادة التي تطلب منه لتأكيد أمر أو خبر كان قد حضره.

ومما اختص به الله هذه الأمة أن جعلها خير الأمم، وبذلك جعلهم شهداء على الأمم السابقة، ويكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا على أتباعه من أمته، فقال تعالى في سورة البقرة: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»، وأكد الله هذا الأمر على أن هذه الأمة تكون شاهدة على الناس من الأمم الأخرى، وذلك قوله في سورة الحج: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ».

وكان من تكريم الله لنبيه أن أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا للناس، فعندما خاطبه الله بذلك في سورة الأحزاب قال له: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرسَلناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذيرًا» أعلى شأنه ولم يخاطبه كما يخاطب الأنبياء بأسمائهم في آيات الكتاب الحكيم بل قال له يا أيها النبي، وهو النبي الوحيد الذي خاطبه الله تعالى بهذا اللفظ تعظيما وتكريما وتقديرا لمكانته عند خالقه، وأخبره بأنه أرسله شاهدا على قومه بأن أبلغهم رسالة ربهم، وكذلك شاهدا على الأمم بأن أنبيائهم أبلغوا رسالة ربهم إلى الناس، وأكد الله هذا الوصف بأنه أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا في آية أخرى في سورة الفتح حيث يقول تعالى: «إِنّا أَرسَلناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذيرًا»، وبين الله أنه أرسله إلى الناس شاهدا عليهم كما أرسل الله موسى إلى فرعون، فقال تعالى في سورة المزمل: «إِنّا أَرسَلنا إِلَيكُم رَسولًا شاهِدًا عَلَيكُم كَما أَرسَلنا إِلى فِرعَونَ رَسولًا».

في حين نجد في سورة آل عمران ذكر للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فقال تعالى: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» وهي آية فيها مواساة للمسلمين بعد معركة أحد، فنجد الله عز وجل، يخفف عن المسلمين بقوله، إن كان المشركون قد قتلوا منكم يوم أُحد فإنكم قد قتلتم منهم يوم بدر، وكذلك ليتخذ منكم شهداء، ومنزلة الشهداء عظيمة عند الله فنجد الله قرنهم مع الأنبياء والصديقين، فقال الله تعالى في سورة النساء: «وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً» وقال عز وجل في سورة الزمر: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»، وقال ربنا في سورة الحديد: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

وقد فند الله ادعاءات بني إسرائيل من أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا، فقال لهم مستنكرا عليهم ادعاءهم، بأنه هل كنتم حاضرين شاهدين حوار الأب مع أبنائه، فقد كانوا حنفاء لله يعبدونه وحده لا يشركون به أحدا، فقال الله تعالى في سورة البقرة: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

وخاطب الله تعالى بني إسرائيل بأنهم يصدون عن سبيل الله على الرغم من أنهم شهداء على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال وجود اسمه ووصفه في كتبهم، فقال تعالى في سورة آل عمران: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

ولفساد فطرة أهل الكتاب وضلالهم فقد كذبوا بأكثر من ذلك، فقد طلبوا من عيسى عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء ليأكلوا منها وتطمئن بها قلوبهم ويكونون بها من الشاهدين على قدرة الله وعلى صدق نبوة عيسى عليه السلام، ولكنهم مع هذه المائدة التي أنزلها الله عليهم من السماء فقد كفروا بالله وقالوا بأن عيسى ابن الله، وقد ذكر الله تعالى ذلك في سورة المائدة فقال: «قالوا نُريدُ أَن نَأكُلَ مِنها وَتَطمَئِنَّ قُلوبُنا وَنَعلَمَ أَن قَد صَدَقتَنا وَنَكونَ عَلَيها مِنَ الشّاهِدينَ».

وقد طلب الله من المؤمنين أن يعدلوا في الشهادة وأن يقيموا الحق فيها ولو كانت هذه الشهادة على أنفسهم، أو على والديهم أو أقربائهم، فلا يحابوا غنيا على غناه أو فقيرا على فقره فقال تعالى في سورة النساء: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً».

وقد اشترط الله الشهادة على كتابة الدين، وذلك لتثبيت حقوق الناس وتوثيقها، فيشهد على ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، فقال تعالى في آية الدين في سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».

وفي حكم شرعي آخر في إثبات الحدود أو درئها فقد اشترط الله على الذين يتهمون المتزوجات بالزنا أن يأتوا بأربعة شهداء، والأزواج الذين لا يوجد عندهم شهود، فيقومون بحكم الملاعنة، ويقع الطلاق من بعده، وقد بينت الآيات الكريمات في سورة النور هذه الأحكام في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)».