No Image
إشراقات

الخلق في كتاب الله

04 مايو 2023
تأملات قرآنية
04 مايو 2023

المتأمل في كتاب الله يجده حافلا بموضوع الخلق، فلو تتبعنا هذا الفعل الإلهي لوجدنا أنه ورد في صيغة الماضي أكثر من 200 مرة، وهذه الخصيصة الإلهية هي سبب وجودنا من العدم، ولذلك كان اسم الخالق، هو اسم من أسماء الله الحسنى، المتفرد بصفات الكمال والجلال، ولكن إن بحثنا عن ذكر هذا الفعل في صيغة المضارع، لوجدنا أنه ذكر في 19 موضعا تقريبا، ولكن يرد هذا الفعل في صيغة الماضي ويراد منه الاستمرارية لأن هذا الفعل دائم ومتكرر، ولذلك سيقتصر تأملنا في الآيات التي ورد فيها هذا الفعل في صيغته المضارعة، واستظهار دلالاته من خلال السياقات التي ورد فيها.

فنجد أن القرآن اهتم بمسألة خلق الإنسان، وضرب حججا عقلية للجاحدين والمنكرين للخلق والبعث، فبين ربنا تبارك وتعالى مراحل خلق الإنسان وتكونه منذ أن كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا كاملا يخرج إلى هذا الوجود، كما بين الأطوار التي يمر بها الإنسان من الضعف إلى القوة إلى الضعف فقال تعالى في سورة الروم: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ».

وفي موضع آخر من كتاب الله نجد أنه يقرر حقيقة أن البشر هم أولاد آدم عليه السلام وان الله خلق حواء من آدم، فقال تعالى في سورة الزمر: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» وأنه يخلقكم في بطون أمهاتكم في ظلمات ثلاث وهي، ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة».

وأوضح الله عز وجل أنه هو الذي يختص بأن يهب لمن يشاء الإناث وهو يهب لمن يشاء الذكور، وذلك أنه وحده المتصرف في الخلق فقال تعالى في سورة الشورى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ»، كما وبخ الله عز وجل مشركي قريش عندما قالوا إن الملائكة هم بنات الله فقال تعالى في سورة الزخرف: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ» وذكر الله تعالى بعد هذه الآية أن الكفار إذا بشر أحدهم بأنه ولدت له ابنة أنثى أصبح وجهه مسودا وذلك لجهلهم وضلالتهم التي جعلتهم يئدون البنات، وقال الله تعالى:« وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ».

وقد قرع الله على المشركين فعلهم من عبادة الأوثان، مبينا لهم أن الذي يشركونه مع الله في العبادة من الأوثان والأصنام أنها لا تخلق وإنما هي مخلوقة وهم مخلوقون، فقال تعالى في سورة الفرقان: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا»، وقال في سورة الأعراف: «أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ» وقال تعالى في سورة النحل: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ» وقال:« أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» وقال تعالى في سورة العنكبوت: «إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» فكل هذه الآيات تعطي أدلة عقلية داحضة لفكر المشركين، وتقول لهم كيف يستحق العبادة من لا يخلق وإنما هو مخلوق ولا يجلب لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا.

وضرب الله مثلا بديعا في مسألة الخلق وأحقية العبادة، فقال تعالى في سورة الحج: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» فقال لهم ان الذين تدعون من دون الله وتشركونهم في العبادة وهم الأصنام والأوثان أنهم لم يخلقوا حتى الذباب وهو من المخلوقات الصغيرة التي خلقها الله، وإن اجتمعوا على ذلك فإنهم لن يستطيعوا خلق ذبابة وإيجادها من العدم بكل تلك المواصفات العجيبة التي أخذ العلم الحديث في دراستها ومعرفتها، وإن يأخذ منهم الذباب شيئا عندما يقع على طعامهم وشرابهم لا يستطيعون أن يسترجعوا مأ أخذه منهم، وقد توصل العلم الحديث أن الطعام الذي يأخذه الذباب يحوله مباشرة إلى محاليل فحتى لو أمسكوا بالذبابة وفتحوا معدتها لن يجدوا الطعام لأنها مباشرة تقوم بتحويله إلى مركب مختلف، وهنا تظهر دقة التعبير القرآني، وختم الله الآية بقوله ضعف الطالب والمطلوب، وقد اختلف المفسرون في من هم الطالب والمطلوب، فقال بعضهم يقصد به الكفار والأصنام، وقال آخرون الذباب والأصنام، وقال آخرون المشركون والذباب.

ولأن طريقة خلق النبي عيسى عليه السلام كانت معجزة، فقد خلقه الله من غير أب، فكانت قصة خلقه آية للناس، فقال الله في حق مريم عليها السلام في آل عمران: «قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فهي تقول كيف يكون لها ولد ولم يمسها بشر فقال لها جبريل عليه السلام، «كذلك الله يخلق ما يشاء» فهو القادر المتصرف في الأمور كلها وأمره بين الكاف والنون.

ولأن ولادته خرقت نواميس الكون فقد نسبه المسيحيون إلى رب العزة والجلال فقالوا هو ابن الله، فأجابهم الله عز وجل بأنهم كفروا بقولهم هذا، وقال في سورة المائدة: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وقال في سورة الزمر: «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

وقد اختص الله عز وجل عيسى عليه السلام بصورة من صور الخلق، فلأن الله جعل خلق عيسى عليه السلام معجزة بحد ذاتها، والله يخلق ما يشاء، فقد أجرى على يديه معجزة من المعجزات وهي صور من صور الخلق، وهي أن يصنع من الطين ما يشبه الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وقد أورد الله هذا الأمر في سورة آل عمران فقال تعالى: «وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، كما أنه عز وجل ذكر هذا الأمر في سورة المائدة، وموردا أيضا أن هذا الخلق هو بإذنه تعالى فقال: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».