يدًا بيد.. لن يبقى أحدٌ خلف الركب

18 أكتوبر 2023
18 أكتوبر 2023

احتفل العالم في السادس عشر من أكتوبر الجاري باليوم العالمي للغذاء، جاء شعار هذا العام كالتالي: «الماء حياة.. الماء غذاء»، وتضمن الاحتفال تنفيذ الكثير من الفعاليات، والأنشطة بجانب الحدث الرئيسي، والمتأمل في أحداث هذا العام سيلاحظ بوضوح التركيز الكبير على إدماج شريحة الشباب في العمل الدولي من أجل إيجاد مستقبل أفضل للغذاء، ولن يستغرب أحد إذا نقلت وسائل الإعلام عن مساهمة الشباب في الفعاليات العلمية مثل تنفيذ المعرض العلمي عن فطر المشروم في حدائق روما النباتية، وكذلك فعالية غرس (90) نوعًا من الأشجار التي تمثل سبعة أقاليم جغرافية من جميع أنحاء العالم، وافتتاح المكتبة العالمية للأشجار والأزهار في متنزه مبنى منظمة الأغذية والزراعة، ولكن احتفائية هذا العام تضمنت كذلك العديد من المحاور الأدبية والفنية، فما علاقة الخيوط الثقافية المتمثلة في النتاجات الأدبية، وصناعات الأفلام، وأشكال الفنون المختلفة، والموسيقى، وفنون الطهي بملف الغذاء؟ وكيف تسهم في التعاطي مع أزمات أنظمة الغذاء المتطلبة؟ وفي المجمل أين وكيف يتم إبراز وتمكين دور الشباب علميًا أو ثقافيًا في دعم ملف الغذاء؟ دعونا نبدأ من الجهود العالمية لتسخير شغف الشباب، وقوتهم الفكرية في التجديد، والتطوير، والتميز في وضع الحلول، والحث على العمل الإيجابي لأنظمة الغذاء المستدامة، نجد أن الحراك الدولي قد تزايد في منتصف جائحة كورونا «كوفيد-19»، حيث ساهمت الابتكارات الرقمية، والتقنية في مواجهة التداعيات التي خلّفتها الجائحة، وأبرزت دور الشباب في قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية الذي عقد افتراضيا في عام 2021م، وانبثق عنه منتدى الأغذية العالمي، وهو عبارة عن شبكة عالمية مستقلة من الشركاء، ويقودها الشباب، وتشرف عليها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، وإن كانت كلمة منتدى قابلة لإحداث اللبس في أنها فعالية، إلا أن الهدف من تسميتها هو روح عملها القائم على تضمين ومشاركة جميع الفاعلين، والمختصين، والمؤثرين في ملف الغذاء، أي أنه برنامج عالمي ويهدف في الأساس إلى إطلاق المجال لتمكين صوت، وفكر الشباب في كل مكان في العالم من المساهمة لتشكيل أنظمة الغذاء المستدامة بفكر جديد ومبتكر، وبعيدًا عن النمطية السائدة منذ عقود للعمل المؤسسي. وفي السياق ذاته يعمل المنتدى كمركز أبحاث عالمي يعزز الحلول التي يقودها الشباب في العلوم والابتكار والتكنولوجيا، مع إيلاء الاهتمام والتركيز الاستراتيجي على دعم وتنمية مبادرات الشباب في قطاع الصناعات الغذائية، ونظم إنتاج الأغذية الزراعية، وذلك بما يتماشى مع توصيات السياسات العالمية للشباب، وانصب التركيز في هذا العام (2023م) على محور تحويل أنظمة الأغذية الزراعية للتسريع في جهود العمل المناخي الدولي.استيحاءً من هذا الحراك الدولي، تعالوا نُسقط هذه التوجهات على واقعنا المحلي، نجد أن الفرص كثيرة لمواكبة المستجدات العالمية، والاستفادة من الممارسات الجارية، والوعي العالمي بشأن التعاطي مع التحديات التي تعترض ملف الغذاء إقليميًا، وعالميًا، ومواجهتها بأدوات الابتكار الجريء التي تستهدف التحول العميق، والمنهجي لأنظمة الغذاء، بما في ذلك سلاسل الإمدادات الغذائية، والبيئات الإنتاجية، وسلوك المستهلك، والإدراك بتعدد أوجه أهمية الغذاء كمحرك للنمو الاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي، ومن هذا المنطلق يأتي دور الشباب في قيادة هذا التحول واسع المدى، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة المعقدة، والمترابطة لأنظمة الغذاء، وفهم أهمية تقليل المقايضات في تحقيق الأهداف القطاعية طويلة الأجل على حساب المكاسب الصغيرة الرنانة.

فإذا نظرنا لإطار العمل الحالي عالميًا، الذي يضم صورًا تنظيمية قائمة على الشراكة المتعددة نجد أن المنتديات الوطنية قد تكون فاعلة إلى حد كبير، بحيث يضم المنتدى تمثيلًا واسعًا لأبعاد الغذاء العلمية، والتقنية، والثقافية، والمعرفية، على أن تكون نقطة الانطلاقة هي سد الفجوة بين هذه الأبعاد المتداخلة، وإيجاد الديناميكية بتفعيل مسارات متوازية ومتقاطعة، بحيث تنصهر الحدود بين الابتكارات التكنولوجية من جهة، وقوة الأدب، والفن، والموسيقى، والمعرفة التقليدية من جهة أخرى، وبذلك يصبح المنتدى بمثابة البوتقة العلمية، والثقافية التي تنبثق منها أدوات التمكين لملف الغذاء بنهج شمولي يعبر الحدود والقطاعات، ويحمل قيما مشتركة لفكر الشباب، وتطلعاته الحيوية، وابتكاراته الطموحة في اقتراح الحلول ذات الإمكانات العالية، ثم دعمها، وتوسيع نطاقها إلى نماذج أعمال قابلة للتطبيق على أرض الواقع، ودفع التغيير الذي نحتاجه لتحقيق مستقبل غذائي أفضل.

إن تعزيز الابتكار من أجل صناعة مستقبل مستدام لملف الغذاء لا يقف عند تنظيم فعاليات وأنشطة موسمية مثل المسابقات الابتكارية، والمعارض العلمية وحسب، ولكن يجب الاستفادة من فكرة المنتدى الوطني للغذاء كإطار دعم وتعزيز الجهود المؤسسية الرسمية، والجهات الأخرى ذات العلاقة بالغذاء من القطاعات الإنتاجية والتصنيعية، ويتطلب التركيز على أربعة أذرع تنفيذية هي؛ أولًا: استهداف التحديات البحثية، والابتكارية بمنهجية تستقطب العقول الخلَّاقة، وثانيًا: التجسير مع المحور الأول بتنفيذ تحديات الشركات الناشئة العلمية والابتكارية، ومبادرات احتضان الأفكار الريادية، والتسريع في تأطيرها وتنفيذها، ثم تسخير الخيوط الثقافية والفنية، والاستفادة من الخبرات الوطنية السابقة بإطلاق البرامج التدريبية والتعليمية الموجهة، وفعاليات التواصل الاستراتيجي، والملهم لبناء الكتلة الحرجة من قادة الشباب الناشئين في تخصصات الغذاء، وبهدف إنتاج ابتكارات، ومدارس فكرية، وصناعات ثقافية، وفنية، وحلول عملية خارجة عن المألوف السائد، لكنها في الوقت نفسه قابلة للتنفيذ، وإحداث التغيير الإيجابي.

وهذا يقودنا إلى المسارات الاستراتيجية التي يمكن تعلمها من الخبرات الدولية في توجيه مخرجات عمل منتديات الغذاء، ففي العمق الاستراتيجي يجب على المنتدى أن يصب عمله في صميم جهود بناء الشراكات الفاعلة لاكتساب القيمة الاقتصادية، والاجتماعية المباشرة، بحيث يعمل كمرصد لتعريف طرق توظيف المخرجات الابتكارية، وعلى رأسها تقديم فرص الاستثمار في سلسلة القيمة الغذائية، مع وضع الأهمية القصوى في مراعاة خصوصية قطاع الغذاء بما يُمكَّن هياكل وآليات التمويل من الوعي الكامل بمكامن المخاطر، ومقومات النجاح، وهذا يستدعي حشد وتوحيد شغف الشباب، وحكمة ذوي الخبرة بقطاع الغذاء، ووضع أهداف محددة وقصيرة الأمد، ومع استقرار العمل في هذا المسار بالوصول لمرحلة تحقيق مكاسب تراكمية دون تراجع أو حدوث انتكاسات، يبدأ المسار التعزيزي لمخرجات المنتدى وهو التموضع المركزي لملف الغذاء باعتباره محور تعزيز الوعي، والمشاركة، وتعبئة الموارد، واستقطاب الكفاءات، والمهارات التقنية، والفكرية، والأدبية، وقيادة فكر تشاركي يتيح مجالات رحبة لدمج مجالات معرفية متعددة في ابتكار حلول لتحديات الغذاء، وبناء تقنيات متقدمة قائمة على المعارف التقليدية الأصيلة، من مبدأ أن المعرفة لا تندثر وإنما تتطور، وبذلك يتم توظيف مخرجات عمل المنتدى بإعادة إنتاجها في المنظومات الأكاديمية، والبحثية، والصناعية، وإيصالها للتنفيذ، والاستثمار، مما يضمن عدم هدر الأفكار الابتكارية، وضمان تدفقها المستمر لتغذية الحراك العلمي.

وتعلمنا التجارب العالمية بأن الهدف الأكبر لوجود وتفعيل منتدى للغذاء على المستوى الوطني هو تحقيق الميزة التنافسية في التعاطي مع التحديات المحلية، والإقليمية، والخروج برؤى على مستوى الابتكارات العلمية، والمدارس الفكرية، والصناعات الثقافية المميزة كونها نتاج العقول الشابة الوطنية، وخبرات وحكمة ذوي التجارب العميقة في ملف الغذاء، وتعد هذه الرؤى إسهامًا أصيلًا للمعارف الدولية، والجهود العالمية الأخرى، وهي تعكس ذلك التفرد في إسهام الفكر البشري الخلاق الذي لا يمكن استنساخه، وإنما يمكن إتاحته للتعلم والاستفادة، وهذا يعكس أهمية البحث عن برامج وطنية مستحدثة، وغير نمطية بحيث تكمل الأدوار المؤسساتية، والمجتمعية القائمة، وتوجد زخمًا يقوده الشباب، وتدعمه الخبرات، وتضع بصمات عمل غير مسبوقة في هذا الملف الحيوي الذي يرتبط بكل هدف من أهداف التنمية المستدامة.

الغذاء متطلبٌ حيوي لبقاء الإنسان، وهو من أهم الموارد المتعلقة بالتصنيع، ودعم الاقتصاد، وله أبعاده الثقافية، ويُعد ممكنًا للاستدامة البيئية على الأرض، ومع ذلك، فإن ملف الغذاء لا يزال بحاجة لتعزيز منهج الشمولية وتضمين الشباب في قيادة التحولات، وإدماج الابتكار التكنولوجي، والمجتمعي، إن ما نحتاج إليه حقًا هو العمل يدًا بيد من أجل تسريع عملية نقل وتوطين التقنيات الحديثة في الإنتاج الغذائي، وفي جميع نقاط سلاسل القيمة والتوريد، فالتكنولوجيا والعلم وحدهما يمتلكان مفاتيح تحويل أنظمة الغذاء لإنتاج المزيد بموارد أقل، وتقليل الهدر، والوصول للاستدامة عبر تعزيز إمكانية الوصول إلى الابتكارات القائمة على فكر وطاقة الشباب، والتكنولوجيات الأكثر ملاءمة، والممارسات المبتكرة، والخيوط الثقافية الممكنة للجهود العلمية، والمعرفة التقليدية الداعمة للأنظمة الحيوية تحقيقًا لمرونة التكيف الاستباقي، ورفع القدرة على الصمود، وتمكين العلوم والابتكارات من الإسهام في تشكيل أنظمة الغذاء المحلية، والإقليمية بشكل فعال، ودون ترك أحد يتخلف عن الركب.