وقفة على المؤشر العالمي للابتكار

24 ديسمبر 2022
24 ديسمبر 2022

أصبح الابتكار ركنا أساسياً في السياسات التنموية في أكثر دول العالم، وضرورة ملحة للتقدم وتطوير التقانة وزيادة الإنتاجية وتحسين مستوى الخدمات في شتى مجالات الحياة. والابتكار من الأمور التي تجد استحسانا بين الناس عامة، لما له من آثار إيجابية في تسهيل متطلبات الحياة وسد حاجات الإنسان، وهو كذلك يلقى حماسا وشغفا بين الطامحين والمتطلعين إلى مزيد من البحث والتعلم. وقد أنشأت كثير من الدول المؤسسات المختصة ووضعت السياسات والخطط اللازمة لرعاية الابتكار والنهوض به. ففي سلطنة عمان مثلا، جاء تأسيس "وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار" ليؤكد ذلك التوجه وليعطي أملا وحافزا للباحثين في مختلف المجالات بأن الدولة تحتضن ابتكاراتهم وترعاها من أجل أن تجد طريقها للتطبيق. وكذلك الحال في دول أخرى، ومنها الصين التي جعلت الابتكار في أعلى سلّم أولوياتها، وذلك كما يتضح مما قاله رئيسها، شي جين بينغ، في كتابه واسع الانتشار والذي عنوانه "حول الحكم والإدارة". حيث أكد الرئيس الصيني على أهمية الابتكار، سواء على مستوى خطط وسياسات الدولة الصينية أو على مستوى مبادئ وبرامج الحزب الشيوعي الصيني.

وعلى المستوى العالمي تقوم المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO بدور مهم في تشجيع الابتكارات وإصدار القوانين ووضع الاتفاقيات الدولية اللازمة لحماية حقوق المبتكرين. وفي إطار جهودها لتشجيع الابتكار ورسم معالم طريقه تصدر المنظمة تقريرا سنويا عن الابتكار حول العالم. وقد صدرت آخر نسخة من التقرير المذكور في شهر سبتمبر الماضي، بعنوان "مؤشر الابتكار العالمي 2022" أو GLOBAL INNOVATION INDEX 2022. و وضعت المنظمة في هذا المؤشر 80 معيارا لقياس أداء الدول في مجال الابتكار، من بينها البيئة السياسية والتعليم والبنية الأساسية وغيرها. وقد شمل المؤشر هذا العام 132 دولة، تم ترتيبها حسب أدائها الابتكاري ومدى تطبيقها للمعايير المذكورة.

وبإلقاء نظرة على ما جاء في التقرير المذكور، فإن الملاحظ أن سويسرا احتلت المركز الأول، وذلك للعام الثاني عشر على التوالي، محققة 64.9 نقطة على مقياس المؤشر، وتلتها في ذلك أمريكا ثم السويد. أما الصين فقد تجاوزت فرنسا هذا العام لتصبح قاب قوسين أو أدنى من المراكز العشرة الأولى بين الدول التي شملها المؤشر، بينما احتلت كوريا الجنوبية المركز السادس وجاءت الدنمارك في المركز العاشر. ومن الملاحظ في التقرير كذلك أن تركيا قد تقدمت في المؤشر بدرجة كبيرة وكذلك الهند. وقد أشار التقرير أيضًا إلى أن أداء مؤشر الابتكار قد تقدم على أداء مؤشر التنمية في بعض الدول، ومنها اندونيسيا وأزبكستان وباكستان، الأمر الذي يستدعي الوقوف عند هذه الملاحظة لمعرفة الآثار المترتبة على ذلك، وما إذا كانت هناك حاجة لإعادة توجيه جهود الابتكار نحو تقانات أو خدمات معينة أكثر نفعا للإنسان والبيئة. المؤسف أن جميع الدول العربية تقريبا لا تزال في مراتب متأخرة من المؤشر.

وبالدخول في تفاصيل التقرير يتضح أنه تقرير شامل، ويتضمن معايير مهمة لا بد من الالتزام بها وتحقيقها إذا ما أرادت الدول الصعود على سلم المؤشر والوصول إلى مراكز متقدمة فيه. والملاحظ أن تلك معايير تجمع بين الإرادة السياسية والأطر القانونية والبُنى الأساسية والمعارف والخبرات اللازمة للابتكار. ومما يجدر التأكيد عليه هنا أن مؤشر الابتكار ليس لعبة صفرية zero sum game، أي إن تقدم دولة ما على المؤشر لا يعني خسارة لدولة أخرى، بل إن الجميع فيه مستفيد وكاسب، وذلك وفق قاعدة "في ذلك فليتنافس المتنافسون".

ولما كان الابتكار، كما أشرنا أعلاه، هو في مقدمة أولويات الدول، فإنه حري بكل الجهات المعنية بالابتكار في البلاد، سواء من ناحية تحفيز الابتكار ودعمه أو من حيث حماية حقوق الملكية الفكرية للمبتكرين، أن تعمل على دراسة ما جاء في تقرير مؤشر الابتكار الصادر على المنظمة العالمية للملكية الفكرية، للاستفادة مما جاء فيه ولتدارك ما يكون قد فات عن الأخذ به عند وضع السياسات الوطنية للابتكار. وفي سياق الاهتمام بالتنمية الشاملة، فإنه بالإضافة إلى تقرير مؤشر الابتكار هناك تقارير دولية أخرى ينبغي الاهتمام بها والإطلاع عليها، خاصة من قبل المعنيين بالتعليم والبحوث والمهتمين بالشؤون الاقتصادية وقضايا التنمية. ومن التقارير المهمة للتنمية تقارير التنافسية حول العالم التي تصدر عن عدة جهات ومنظمات دولية، وأشهرها التقرير الذي يصدره معهد التنافسية في سويسرا، وهو مثل تقرير مؤثر الابتكار يرتب الدول حسب أسبقيتها واستيفائها لمعايير التنافسية. وبنفس الأهمية، هناك أيضاً التقارير التي تصدر عن بعض المنظمات الدولية الأخرى، مثل تقارير منظمة العمل الدولية حول قضايا الأجور وعلاقاتها بتضخم الأسعار ومستويات المعيشة، أو التقارير التي يصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. إن مناقشة مثل هذه التقارير ودراستها دراسة نقدية، سواء على مستوى المخططين و صناع السياسات أو على مستوى الباحثين والجمعيات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، تسهم في زيادة الوعي والثقافة بالشؤون الاقتصادية والسياسية، وتساعد على المشاركة بالرأي والمشورة حول القضايا الوطنية المطروحة للنقاش. أما على المستوى التنفيذي فيمكن الاستفادة من هذه التقارير بصور مختلفة، ومن ذلك مثلا المساعدة في إعداد أدلة manuals وأوراق عمل لتنفيذ برامج أو سياسات معينة. لذلك ينبغي أن تقوم الجهات المعنية، كل جهة فيما يخصها، بمتابعة الإصدارات السنوية من تلك التقارير ودراستها ومراجعة ما بها من مؤشرات من أجل تكييف أو تعديل السياسات والإجراءات المتبعة، لتناسب المتطلبات اللازمة للصعود على سلم المؤشرات وللوصول إلى مراتب متقدمة فيها خلال فترات محددة. غير أنه مما لا جدال فيه أن الابتكارات والاختراعات نادراً ما تأتي صدفة أو دون جهد علمي، وإنما تنشأ وتأسس على علوم ومعارف وتجارب وخبرات، وذلك لا يمكن أن يتم إلا في ظل وجود نظام تعليمي متقدم وعالي الجودة، سواء على المستويات التأسيسية أو على مستويات الدراسات العليا ومراكز البحوث و التطوير. وإذا كانت الحكمة المعروفة قد قالت إن "الحاجة أمّ الاختراع"، فإن المنطق المعاصر يقول إن "العلم هو أبو الابتكار".

• د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية