وقفات في وداع عام 2023م

12 ديسمبر 2023
12 ديسمبر 2023

لو سألنا مختلف الشرائح المهنية والوظيفية عن أهم إنجازاتهم في عام 2023م الذي شارف على الانتهاء، ترى كيف ستبدو استجاباتهم؟ من الواضح أن ثقافتنا المعاصرة - التي تقودها وسائل التواصل الاجتماعي - لا تمنح الموظفين المساحة التي يحتاجون إليها للانتظار حتى نهاية العام والتفكير في مسارات حياتهم المهنية والشخصية، أصبح البشر يشاركون تفاصيل ما يحدث لهم في وقت وقوعها على منصات التواصل الاجتماعي، وهي جميعها تدور حول الموضوعات نفسها؛ وهي إما تحقيق نجاحات باهرة في الأعمال، أو إكمال درجات علمية ونيل الألقاب الفاخرة، أو الحصول على التكريم والشهادات التقديرية، وهي جميعها تعكس الاجتهاد الذي بذله الشخص للوصول لهذه النتائج، ولكنها لا تعكس الطموح الذي هو بالأساس أبعد مدى وأعمق تأثيرًا من هذه المؤشرات، والسؤال الأكبر هنا هو هل نمتلك حقًا مهارة المراجعة الانعكاسية الموضوعية؟ وكيف يمكن إعادة توجيه ثقافتنا من تضخيم الإنجازات إلى فهم الفارق الكبير بين نتائج توجيه الإمكانات المتاحة لتحقيق أهداف محددة، وبين الوصول إلى التطور والنمو الحقيقين للشخصية المهنية المتوازنة؟ تعالوا نبدأ من بناء الشخصية المهنية التي هي محور العمل والإنجاز والنجاح، هناك العديد من الجوانب المهمشة التي لا يسلط عليها الضوء مما يخلق الكثير من اللبس في فهم المعادلة الصعبة بين توظيف الإمكانات والسمات وبين الطموح المهني، وفي مقدمتها الاعتقاد السائد بأن الشخصية هي قدر الإنسان، وأن تكوينه البيولوجي يأتي ومعه مجموعة السمات الشخصية التي تلازمه طوال حياته، فالشخصيات الخجولة والانطوائية مثلًا تنقل هذه السمات إلى محيط العمل والوظيفة دون أية محاولات للتطوير والتغيير، فتجدهم يتحاشون العمل ضمن الفرق، وكذلك يبتعدون عن الأنشطة الاجتماعية، ويبحثون عن دائرة الراحة للاحتماء فيها بعيدًا عن التغيير، وليس لديهم التركيز في إعطاء الأولوية لتطوير مهارات الاتصال، وقدرات العمل الجماعي، والتحدث للجمهور وغيرها، وقس على ذلك مختلف أنماط الشخصيات، ولكن في الواقع الشخصية ليست قدرًا مفروضًا على الإنسان، ولكنه الاستعداد الفطري الذي قد يوافق الميل الشخصي في اللاوعي للبقاء بنفس السمات، مما يسهم في عدم تطوير مهارات جديدة، ولولا ذلك فإن توجيه الشخصية نحو التكيف والتطوير ليس مستحيلًا، وعليه فإن الأشخاص الذين يتمكنون من تجاوز مثل هذه التحديات يستحقون الإشادة لأنهم حققوا إنجازًا واقعيًا ملموسًا.

وهنا تظهر أهمية الإدراك باحتمال وجود تحديات أخرى على صعيد الشخصية المهنية، وهي تأتي عل مختلف درجات وأطياف الازدواجية بين الشخصية المهنية الواقعية ومثيلتها الافتراضية، فالمتأمل لمنصات التواصل الاجتماعي التي تُعنى بالجوانب المهنية على وجه التحديد يمكنه أن يلاحظ التسابق المحموم في عرض شهادات المشاركة في الدورات التدريبية، وكذلك حضور الفعاليات كالمؤتمرات والاجتماعات الرسمية، وهي وإن كانت مهمة من أجل صناعة الزخم وإلهام الآخرين، إلا أنها لا يجب أن تكون الشغل الشاغل للتفاعل على الواقع الافتراضي، ما يهم المتابعون هو ليس مدى اجتهادك في العمل، بل مدى إسهامك في نقل تجربتك ونجاحك للآخرين وإلهامهم على تحقيق نجاح مثله أو أفضل منه، فنحن عندما نمارس الرياضات الصعبة مثل تسلق الجبال والمرتفعات لا نذهب لوحدنا وإنما نحتاج إلى بنية داعمة من المرافقين وأصحاب الهوايات والشغف المتشابه معنا من أجل جعل هذه الهواية تجربة ممتعة لا تنسى وآمنة كذلك، وينطبق ذلك تمامًا على بيئات العمل، فلا يمكن لشخص واحد صناعة التفوق والإنجاز المهني ثم الاحتفاء به لوحده، فالناجحون الحقيقيون هم الذين يتمكنون من ترسيخ القدرة على التكيف الاستراتيجي للتغلب على العقبات التي تهدد بإرباكنا والحد من نمونا وتطورنا الوظيفي بشكل جماعي وعلى مستوى فرق العمل أو التقسيمات الإدارية أو المؤسسة ككل، لأن تحقيق الإنجازات في العمل لا تقبل البطولة الفردية المطلقة، وإنما هي جهود تشاركية وتراكمية من جميع منتسبي هذه المنظومة المهنية والوظيفية.

وهذا يقودنا إلى ماهية الإنجاز، وما هي الحدود الفاصلة بين الإنجاز الفردي والمكاسب التشاركية، ونحن لسنا بحاجة إلى مراجعة أدبيات الإدارة لنتعرف على ما تعنيه هذه المصطلحات، ولكن علينا أن تفكر بعمق في مدى فهمنا الذاتي الذي ينعكس على سلوكياتنا وتطلعاتنا، فنحن نعلم بكل وضوح أن تعلم مهارة لغوية أو التمكن من تشغيل برنامج إلكتروني يُعدّان ضمن الإنجازات الفردية، أما النجاح في مشروع متعدد الشركاء فهو لا يعود لذكاء قائد المشروع وحده وإنما هو نتاج جهود الجميع قلت أو كثرت، فالكل يسهم حسب موقعه، ولكن التحدي هو كيف يمكن دمج الطموح الفردي مع تطلعات المشتركة لتحقيق إنجازات واقعية تستحق الاحتفاء؟ فإذا بحثنا في المقولات الإدارية الشهيرة نجد المقولة التالية: «لا تبحث عن القائد الذي يضع الحلول لجميع تحدياك، ولكن ابحث عن القائد الذي لا يتركك تواجهها لوحدك»، وهناك أيضًا مقولة أخرى تحمل دروسًا عميقة وحكيمة وهي: «أطلق العنان لإمكانياتك لتكون نسخةً أفضل من نفسك، وليس أفضل من الآخرين»، وهناك الكثير من الحكم والدروس التي يمكن قراءتها حول موضوعات الإنجاز والتفوق المهني من منظور تشاركي، ومن منطلق أن التطور والتنمية الذاتية تتضمن دائمًا التعرض لدرجات متفاوتة من الفشل والتعثر والإخفاق وارتكاب الأخطاء، وهو جزء لا يمكن التهرب منه أو بتره من منحنى التعلم الطبيعي، ولكي نتعلم وننجز لا مفر من الوقوع في بعض الأحيان، ثم القيام والإصرار على مواصلة المسيرة بعد أخذ الدروس الضرورية، وفي الجهة المقابلة تفرض علينا ثقافة تضخيم الإنجازات المتواصلة واللامعة في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي ضغوطات الابتعاد عن المسارات العملية التي تحوي احتمالات الإخفاق والتعثر، وهنا يختل التوازن الطبيعي في التعلم من الأخطاء واكتساب مهارات التكيف والتطور التراكمي، لأن النمو الأكثر أهمية ليس بناء حياتنا المهنية الحافلة بالإنجازات، بل بناء العقلية والشخصية المتوازنة والمدركة بأن النجاح هو أكثر بكثير من مجرد تحقيق أهدافنا السنوية، بل هو الالتزام بالقيم الجوهرية في حياتنا المهنية وبعد خروجنا من إطار المهنة والوظيفة، وليس هناك قيمة أعلى من التطلع إلى أن نكون أفضل غدًا مما نحن عليه اليوم في كل التفاصيل وليس فقط في مؤشرات العمل.

إن الحاجة إلى المراجعة الذاتية الانعكاسية هي ضرورة ملحة في كل وقت، ولكن تُعد فترة نهاية العام بأنها فرصة مناسبة للنظر إلى شهور السنة التي مضت، وقراءة مستوى أدائنا وهل كنا على قدر العطاء، وعلى قدر المسؤولية، وهل حققنا أهدافًا على الصعيد القيمي والإنساني بعيدًا عن الأهداف الرسمية التي يتم تقييمها، وهل أضفنا قيمة للآخرين بطريقة لا يكافئنا عليه نظام التقييم، وهل تركنا أثراً يمكن أن يسهم إيجابيًا في خدمة مستقبل العمل حين لا نكون موجودين في المحيط المهني، وهل وضعنا حجر الأساس لإنجازات لن نذكر فيها، وهل قمنا بأداء الأمانة على وجهها الصحيح حتى لو لم نكن طرفًا بارزًا في التكريم والإشادة، والأهم من هذا كله؛ هل سننظر بعد سنوات إلى هذا العام بالفخر والرضا؟ هذه الأسئلة يمكن أن ترشدنا لاكتشاف ومعرفة الذات، والولوج على الجوانب الخافية عن دوافعنا العميقة في المهنة والعمل، وهل نحن نعمل بشكل تلقائي واعتيادي، أم أننا نحمل رسالة التطوير للأحسن، ولن نقف عند هذا الحد إنما نسعى إلى التحسن في التحسن، ووضع البصمات الفارقة لليوم وغدًا وفي المستقبل البعيد، وعلينا أن نتذكر أنه في المرة القادمة وعندما نفكر في إطلاق العنان لإمكاناتنا لنصبح نسخًا أفضل لأنفسنا، فإنه من الواجب علينا أن نسخر هذه الإمكانات ذاتها لتمكين ولمساعدة الآخرين على فعل الشيء نفسه، وتحقيق النجاح والتطلعات المشتركة، وبذلك يمكن إعادة توجيه ثقافتنا من التباهي المنفرد إلى ثقافة تعكس النضوج المهني، وتحتفي بالجودة في التفكير، والسمو في الهدف، وتقييم الذات قبل منظومات التقييم الرسمية، ورسم ملامح وحدود العطاء الإيجابي الذي يمثل الهدف والغاية العليا من وجودنا على رأس العمل، فالتطورات التكنولوجية تكتسح جميع معالم حياتنا، والثورات التقنية ستحل محل العامل البشري في عدد لا يستهان به من الوظائف والمهن والحرف، وهذا بحد ذاتيه يضع علينا عبء التفكير العميق في الإضافة الحقيقية التي نمثلها في أعمالنا ووظائفنا، والاختبار الحقيقي هنا يكمن في الفارق الوحيد بيننا وبين الآلة والذي يكمن في مجموعة القيم الإنسانية والمبادئ التي توجهنا، وهي أدوات استراتيجية لا تمتلكها الآلة، ولا بد من الوقوف عند هذا البعد في تقييمنا الذاتي، ولنسأل أنفسنا بكل جديَّة: هل نحن صادقون مع قيمنا المهنية، ومبادئ وأخلاقيات العمل بشكل يجعلنا قيمة مضافة إيجابية في أدوارنا الوظيفية والمهنية، وبشكل يجعلنا نتفوق على الآلة بكل اقتدار، أو أن ما نقوم به لا يحدث فرقًا ويمكن أن تتكفل به التقنيات الحديثة المتقدمة؟