وقفات في مواجهة زحف الآلة
تطالعنا الأخبار بمستجدات التقدم العلمي في الذكاء الاصطناعي، وظهور أجيال من الآلات فائقة الذكاء، وقادرة على إنجاز مهام بشرية معقدة، وصناعة قرارات حاسمة، فهل سألنا أنفسنا إلى أين سيصل زحف الآلة نحو وظائف البشر؟ على سبيل المثال: عندما تساعد الآلات الذكية في إجراء تشخيص طبي دقيق، فهل يعني ذلك أيضًا أنها يجب أن تلعب الدور نفسه في اتخاذ قرارٍ مصيري في سحب مريضٍ ما من أجهزة دعم الحياة؟ في شهر أكتوبر من عام 2020م، وفي ذروة عمليات الإغلاق التي فرضتها جائحة كوفيد-19، أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي تقرير مستقبل الوظائف، الذي قدم تخطيط مستقبل القوى العاملة على مستوى العالم حتى عام 2025، وذلك حسب توقعات الأكاديميين والباحثين، وكبار رجال الأعمال، والرؤساء التنفيذيين، ومسؤولي الموارد البشرية، وعلماء التخطيط والاستراتيجية، وبالاستناد إلى خبرة مجموعة واسعة من مجتمعات الممارسة، والفرق التنفيذية ذات المعرفة، خلص التقرير إلى أن تسارع الأتمتة، والركود الاقتصادي المحتمل كأحد توابع الجائحة سوف تغير من خريطة العمل بشكل جذري، وستحدث تحولات مهنية على مستوى الوظائف والمهارات، وبأن جائحة كورونا قد سرَّعت في حلول هذه التحولات، وما كان يعتبر سابقا «المستقبل البعيد لسوق العمل» قد صار «الوضع الجديد السائد».
في البدء دعونا نتذكر تطور سوق العمل والوظائف على مدى العقود الطويلة الماضية، تزامنا مع تعاقب الثورات الصناعية، نجد أنه تاريخيا ظهرت مصطلحات «ذوي الياقات الزرقاء» و«ذوي الياقات البيضاء» في أوائل القرن العشرين، وذلك للاستدلال على عمال الوظائف اليدوية الذين يرتدون الزي الأزرق، بينما كان العاملون في المكاتب من ذوي المهارات المهنية الأعلى يرتدون قمصانًا بيضاء، انتشرت هذه المصطلحات خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ثم تغيرت تركيبة وظائف ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء بشكل ملحوظ، وسرعان ما انضمت إليها ألوان أخرى، فظهر في الثمانينيات مصطلح ذوي الياقات الوردية، الذي يصف المهن التي كانت النساء تشغلها تقليديًا، مثل جليسات الأطفال، والسكرتيرات، والممرضات، ومدبرات المنازل، لكن المصطلح لم يصمد في الأوساط المهنية، كما جاءت الياقات الذهبية لتصف الوظائف الهجينة التي تجمع بين المهارات التقنية والعمل اليدوي، أما ذوي الياقات الخضراء فهم العاملون في حقول الاستدامة والبيئة، وأخيرا صاغ الرئيس التنفيذي لشركة IBM مصطلح «الياقات الجديدة» في عام 2016، واصفا بذلك الوظائف التي تجمع بين القدرات الفنية والمهارات الناعمة، مثل الذكاء الاجتماعي، والتي غالبًا ما ترتبط بالتقنيات المتقدمة وعلى رأسها أنظمة الذكاء الاصطناعي.
يبدو للقارئ المتمعن أن هذه التصنيفات قد ساهمت في تعميق التفاوت في الأجور والامتيازات على مدى القرن الماضي، ولكن مع زيادة وتيرة التقدم التكنولوجي، وظهور الحاجة إلى مهارات مهنية وشخصية بالإضافة إلى التحصيل العلمي، بدأت الحدود التي تفصل بين مختلف ألوان الياقات تتلاشى، وظهرت أنماط عمل جديدة كليا، ومع تجربة كورونا، دخل العالم منعطفا تاريخيا في إعادة تعريف الوظائف، ومساراتها المستقبلية، وأصبح تقاسم العمل مع الآلة مصيرا محسوما، وحسب التكهنات فإن الموظفين في جميع أنحاء العالم سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهاراتهم المهنية والإدارية بحلول عام 2025م، وفي ذات الوقت عليهم إعادة صقل مهاراتهم الفكرية والثقافية، وتعلم مهارات أساسية جديدة كليا لم يلتفتوا إليها من قبل.
لكن الأمر ليس هينا كما يبدو، فهناك مسارات متعاكسة في بيئات العمل المعاصرة تجعل من اللحاق بمتطلبات وظائف المستقبل تحديا غير مسبوق، إذ على الرغم من أن التقنيات المتقدمة هي أساس التحولات الراهنة، إلا أن أولويات المهارات الأساسية لوظائف المستقبل تتضمن كذلك العديد من الجوانب الناعمة، مثل التفكر النقدي، والتحليل الاستراتيجي، والقدرة على حل المشكلات، والإبداع، والابتكار، والمرونة، وحسن الإدارة الذاتية، والتكيف الصحي مع ضغوطات العمل دون الوصول للاحتراق الوظيفي والإجهاد، أو الاستنزاف المهني، وجوهر القضية يكمن في الازدواجية الخفية التي تخيم على الأوساط المهنية، فمن جهة تُعد القدرات التقنية هي الفيصل في تحديد البقاء الفعلي في عالم الأعمال، ومن جهةٍ أخرى تفقد بيئات العمل - برحيل ذوي المهارات التقنية الضعيفة - المعرفة الضمنية، والحكمة، والمهارات الناعمة المطلوبة لدعم الجزء التقني، وهنا تنشأ حالة الفاقد المهاري، التي تؤدي مع الوقت إلى اتساع فجوة المهارات الناشئة في بيئة العمل.
وهذا يقودنا إلى النقطة المركزية، وهي أن القدرات التقنية مهما بلغت ذروتها من التقدم، إلا أنها بحاجة إلى التعزيز المستدام من المهارات الناعمة، وهناك مسارات عديدة لتحقيق ذلك، من أبرزها النهج ثلاثي المستويات؛ ففي العمق تأتي أهمية تحسين أنظمة التعليم والتدريب ونقل المعرفة، ثم يليها محور معادلة الاحتياجات التقنية بالمهارات الأخرى، مما يستوجب الالتزام بإعادة تشكيل مهارات الخريجين والموظفين وصقلها، وطرح خيارات غير تقليدية في المسارات المهنية، وأخيرا إيجاد حوافز معنوية للاستثمار في تطوير مهارات وظائف للمستقبل، بإنشاء ثقافة التعلم مدى الحياة، كجزء حيوي من الأهداف الاستراتيجية لأي مؤسسة، ومع نمو الرقمنة بشكل متزايد، أصبح من الضروري توجيه وقت الموظفين نحو التعلم الذاتي المستمر، كعملٍ ذي قيمة أعلى من الالتزام بالمهام الروتينية المعتادة دون تطوير، ومع دخول الآلة إلى المشهد المهني والوظيفي، لم يعد عالم الأعمال مقتصرا على الأنواع النمطية لموظفي المؤسسات الحكومية والخاصة، هناك مساحة يجب إتاحتها لهذه الآلات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي، من أجل التكيف المتزن، ومن مبدأ حسن الجوار يجب على بيئات العمل فتح نوافذ المعرفة للموظفين، وتمكين العقول البشرية من أداء مهامها التي لا تزاحمها فيها الآلات.
لعلنا إذن نلحظ أن العلاقة بين التقدم التقني وتحولات مهارات وظائف المستقبل هي بمثابة طريق ذي اتجاهين؛ وعلى المؤسسات أن تركز جهودها على مستوى التخطيط المستقبلي في تصميم نماذج عمل قائمة على الأتمتة الانتقائية، إن وجود خيارات التحول الرقمي لا يعني بالضرورة وجوب تبنيها جميعها دون دراسة متأنية وعميقة، تحتاج المؤسسات في عالم اليوم إلى اتباع تقاليد عمل جديدة ومعاصرة تتناسب مع ديناميكية بيئات العمل وتغييراتها المستمرة في عصر ثورة المعلومات، دعونا نأخذ مثالين لممارسات عالمية: أنشأت الشركات اليابانية ثقافةً قيَّمة لتضمين برامج التدريب أثناء العمل لتحسين مهارات موظفيها، وإعادة تأهيلهم وظيفيًا في مهامهم الأصلية، وإكسابهم مهارات أخرى تنفعهم مدى الحياة، وبالتالي تكتسب قرارات الرقمنة وإعادة توزيع الوظائف طابعا تشاركيا أكثر منها قرارا إلزاميا من الإدارة العليا، أما المثال الثاني فهو عن تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير مهارات الاختصاصين والممارسين، حيث انتهجت مسار إعادة الاعتماد المنتظم للمهارات المهنية، لضمان مواكبة أولئك الذين يعملون في مهنة معينة للتكنولوجيا المتقدمة، وأفضل الممارسات الحالية في مجال اختصاصهم، وضمان الحفاظ على أماكنهم بتحقيق المتطلبات التقنية المتزايدة للوظائف الجديدة.
ويظل القوس مفتوحًا؛ ففي عصر صعود الآلة تحتاج البشرية إلى قيادة حوار فكري عالمي يهدف إلى فهم قوة الذكاء البشري، وتوظيفها بشكل أفضل، وليس لمناقشة عواقب الذكاء الاصطناعي في إحلال الوظائف التي كانت يوما من نصيب البشر، يجب أن يتحول التركيز من الإغراق في التوقعات عن تأثير الأتمتة، إلى التفكير بجدية حول التعاون الذكي بين البشر والآلات، باعتبارها ممكنا لتقدم ورفاهية البشر، وليس خصمًا لهم، على هذا النحو، ما من حاجةٍ إلى التفكير في أن أحد الذكاءين يتفوق على الآخر، وإنما هناك مهام متكررة، أو ذات خطورة عالية يمكن إسنادها للآلة، وتوجيه الذكاء البشري نحو المهام الإبداعية أو التطويرية، وقبل التخطيط لمستقبل الوظائف هناك وقفة لا بد منها لإعادة صياغة فلسفة التعليم والتدريب والتعلم مدى الحياة، على جيل الغد أن يفهم الحكمة من بناء الكفاءات والمهارات القادرة على نقل التطورات التكنولوجية إلى المستوى الذي يتسق مع متغيرات المستقبل، مع تحسين مهاراتهم البشرية التي ستصبح في ذلك العالم مهارات فريدة، إن الإمعان في رسم التكهنات والسيناريوهات عن تنافس الإنسان والآلة هو بمثابة النظر إلى الموضوع من خلال العدسة الخاطئة، إذ كيف يتنبأ البشر بتأثيرات زحف الآلة على مستقبل الوظائف، في الوقت الذي يقومون هم فيه بتطوير هذه الآلات، وتعزيز محاكاتها وتقدمها على الذكاء البشري؟
