وجهٌ مريمي في مسقط وأحاديث عن درب الآلام

28 يناير 2023
28 يناير 2023

بدت خفيفة ونشيطة حين دخلت من الباب الخارجي للجمعية العُمانية للسينما والمسرح، ولم تظهر عليها إمارات التعب أو مشقة الوصول من رحلة سفر. حيّت الجميعَ بعباراتٍ سريعةٍ وبسيطةٍ، العفويةُ والتلقائيةُ تغلُبُ على حركاتها وطريقتها في التكلم، والاندفاعُ والحماسُ يَجُرُها إلى الأمام بقوة، لحدٍ كادت أن تقعَ وتتعثرَ. قلتُ في نفسي: يا ساتر، ستُطيحُ بكلِ شيءٍ من أولِ خطوة.

شعرتُ بارتياحٍ لأسلوبها المباشر والخالي من التكلف، إن ساورني حيالها بعض الشك. تساءلتُ في خاطري: ماذا ستقول لنا؟ بالأحرى، ماذا يمكنها أن تقول؟ ربما بعض الأحاديث والقصص!!

جلسنا في قاعة السينما، ورحبّ بها أعضاء الجمعية بحفاوةٍ هي نفحٌ من طيبِ العُمانيين وطبيعتهم الطيبة، ونذرٌ يسيرٌ من محبتهم لفلسطين، انتماءً وقضية.

ابتدأ عرض فيلم "لقمة عيش" بمشاهد صورت في جنح الظلام لرجال تداخلت أصواتهم وهم يستقلون سيارة دفع رباعية، مضت تنهب التلال والأوهدة الوعرة، فيما انصبّ حوارهم وتركيزهم على تفادي دوريات الجيش والشرطة الإسرائيلية في طريقهم نحو العمل .. مشاهد أخرى لأعداد غفيرة من الشبان والرجال، اكتظت بها الممرات الإجبارية لمن يحملون تصاريح العبور، وآخرون يجوبون القفار سيرا على الأقدام، ويتسلقون الجدران والأسلاك الشائكة.

إنها رحلةُ عذابٍ يومية لمن يَنفذون بتصاريحهم من البوابات، ورحلة عذابٍ أشقى وأمر لمن يدخلون خلسة من غير أذون عمل .. وهي صورة حقيقية ومؤلمة من واقع الاحتلال، لكنها هنا في هذا الفيلم لُبُّهُ وموضوعهُ وقصتهُ الأساسية.

تواصلت أحداث الفيلم، مترابطة ومتحركة وتلقائية، وكلها مشاهد تقع كل يوم، وأحاديث وحوارات تدور في كل زاوية. لا شيء هنا متكلف أو مصطنع، بل طبيعي وواضح يكاد يشبه مخرجة العمل من هذه الناحية.

شاهدنا وتابعنا مقاطع طويلة لرحلة العبور ذهابا وإيابا، وما يحفها ويعترضها من صعاب ومخاطر، وما يتخللها من مواقف وأفعال أظهرت تقسيما فريدا للعمل، لكنه تقسيمٌ من نوعٍ آخر: هناك من يقود حافلات تهريب الشبان ونقلهم، وهناك من يجلبهم إلى نقاط الانطلاق، وهناك من يستطلع الطرق والأرجاء ويبلغ بالهاتف عن المسارات السالكة والآمنة نسبيا وتلك غير المؤاتية، وهنالك من يرصد عن بعد بالمناظير. أما في مواقع العمل، فهنالك العمال في الورش وعلى سقالات المباني، وهنالك من يعد الطعام، وهكذا .. وللمرأة دورٌ مهمٌ في تلك التراجيديا، كتلك العجوز التي تراقب الأنحاء بالمنظار وتميز عن بعد سيارات الشرطة والجيش الإسرائيلي، حتى لو بدت سيارات مدنية ومموهة. وتلك الزوجة في البيت، التي ترعى الأبناء في غياب الأب وتعمل في الحقل وتربي الأغنام لتستفيد من عائدات بيع ألبانها ولحومها.

الحياةُ قاسيةٌ بكلِ مضاميرها وتفاصيلها، تماما مثل الجبال والتلالْ والمسالك وعرة وقاسية بتضاريسها، لكن الروح والعزيمة هي ذاتها في كل شخص، والكل يمارس بعناد واحتراف طرائق العيش العصية على الكسر، وفنون الصمود والتحمل، ويزرع في كل فجٍ نسغَ المقاومة.

لأول مرة شعرت وأنا أتابع هذا الفيلم، أن هناك جانبا بطوليا وعنادا وتحديا، لم أراه من قبل بهذا الوضوح الشديد،لا يقل تضحية وعطاءً عن الاستبسال في ساحات المواجهة والمقاومة، هنا تدور ملحمة مستمرة ويومية وبالغة المرارة والقسوة من أجل البقاء ومن أجل لقمة العيش.

انتهى الفيلم بمشهد مشابه للمشهد الذي بدأ به، شبان يركبون الحافلات بعجالة، وقلق وحذر، ويمارسون لعبتهم، اليومية، لعبة الحرامية والشرطة مع الدوريات الإسرائيلية، لكن السطو والسرقة هنا هي صنعة من سرقوا البلاد من أهلها وحولوهم إلى أجراء وعمال مياومة ومطاردين وملاحقين في أرضهم.

انتهى عرض الفيلم بتصفيق حار من الحاضرين، وابتدأت الجلسة الحوارية مع مروة جبارة طيبي، المخرجة الفلسطينية لفيلم «لقمة عيش».

تكلم المحاور العماني الشاعر سالم الرحبي باستفاضة ووعي وحس مرهف وقراءة ذكية للفيلم ومعانيه وخلفياته، وطرح العديد من الأسئلة الوجيهة والذكية، وانسالت الأجوبة من المخرجة، على غير ما ساورني، قبل الأمسية من شك، سهلة وسلسة وحادة الذكاء وبليغة. الآن لم يعد لدي أي قلق، أزاح الفيلم من نفسي كل وجَل، وملأتني أجوبة المخرجة وشروحها وتفاسيرها، بهجة و نشوة، وشعور تدفق في الأوردة بقوة، إنه شعبٌ جدير بالحياة وجديرٌ بهذا الوطن.

في تعليقه على صفحته، فيما بعد، كتب المحاور العُماني الشاب والفطن والمتمرس الذي أدار النقاش والجلسة:

«منذ النكبة حتى سنوات متأخرة من عمر القضية الفلسطينية، كان الإنسان الفلسطيني يصدر عبر الإعلام والأدب بوصفه شخصية ملحمية، وظل المتلقي العربي يطالبه دائما بنوع من البطولة، ودائما ما كان ينظر للفلسطيني من زاوية جمعية، أي أننا اعتدنا على التعامل معه كجماعة، لكن في أعمال مروة جبارة يحضر الفلسطيني بوصفه فردا لا جماعة، لديه همومه الشخصية وآماله ومخاوفه وهواجسه العادية، هناك نوع من الانحياز للمأساة الفردية على حساب الشعارات الجمعية».

إنها عبارة محكمة وبارعة، اختصرت جوهر المسألة. ومما قالته مروة جبارة طيبي ويستحق أن نتوقف عنده:

إن عملها وخبرتها من خلال الوكالات الإعلامية والإخبارية الأجنبية، جعلها على قناعة تامة، أننا نحن، وليس المحتل، أو الأجنبي، من يجب أن يكتب عن أحوالنا ومشاكلنا وقضايانا، ونحن من يجب أن يختار المصطلحات والمسميات والتعاريف المناسبة عند صياغة كل خبر وصياغة كل حكاية وصناعة كل فيلم، وألّا نقع في لعبة الألفاظ البديلة والمدسوسة والروايات المُحرّفة التي يحاولون زرعها في عقولنا وعلى ألسنتنا.

وأيضا، أننا لسنا مساكين ولا بؤساء، بل نحن أصحّاء وأقوياء ونوابغ وبلغاء، ولن تكون قضيتنا محض أحزان وفواجع وآلام، بل ستكون دائما قصص بطولة وعطاء ونجاح وتفوق، وهذا هو دربنا الذي يسير بثقة واستقامة إلى الأمام.

وإن مصيرنا، نحن من نَبُتُّ فيه، ونأخذ الزمام، ولا نركن لأحد أن ينوب عنّا أو يملي علينا كيف يُصنع أو يُصور أو يُحكى عنه. وأن المطلوب دائما هو الحفاظ على التراث، من الضياع، بحفظ ما نقله لنا الأجداد وتدوينه وتوثيقه قبل أن يتبدد، وكذلك صنع الجديد والفريد، فما نحتاجه أفلام تطرق موضوعات جديدة، وذات مغزى ومعنى، عميق وملهم.

وحكت عن تجاربها في أفلامها العديدة وكلها عنونات وقصص لافتة وقضايا لها قيمة كبيرة. وإن الآتي سيكون بإذن الله أفضل.

أجابت عن كل الأسئلة بسلاسة وسهولة ودون أن تستغرق أي وقت للتفكير والتدبير، الأجوبة حاضرة على لسانها، مُحكمة وصافية، تنفذ للعقول دون عناء، وتستقر في الأفئدة. وهي أيضا أجوبة مُحيرة، فمن سيصدق أن التي تتكلم بهذا الوعي الثاقب والإحساس العالي بالهوية، نشأت وترعرعت في رحم «دولة إسرائيل» في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م ورغم كل برامج الترويض وغسل الأدمغة الجبارة، لم يعلق بشخصيتها ولا رؤيتها شيء من آثر الأسرة.

حظيت بتصفيق الحضور، في ختام الأمسية وختام الأيام السينمائية الفلسطينية التي أقامتها بكل نجاح وحب الجمعية العمانية للسينما والمسرح بالتعاون مع السفارة الفلسطينية، وكان بالفعل ختامها مسك، ونالت التكريم وهي تستحقه.

إنها ابنة الأرض المباركة، أرض القداسة، جاءت هنا كمريم البتول، وجهها يضيء، بسيطة وصافية كصفحة السماء في يوم مشرق، وأنا انتهيت كما بدأت، لكن على ضفةٍ أخرى، نعم هي سردت من ضمن ما سردت حكايا وقصص، لكنها في كل كلمة سحرتنا وألهمتنا، وكما ساورني شك في البداية، غلبني يقين في النهاية: هي بالفعل أطاحت بكل شيء، ولكنها أطاحت بالرواية الإسرائيلية كلها، من أول خطوة.

* محمود التميمي كاتب فلسطيني