هي إبادة جماعية بالإجماع.. فهل يموت القانون الدولي أيضا في غزة؟
راجي الصوراني
ترجمة: أحمد شافعي
لقد ارتكبت إسرائيل ولا تزال ترتكب إبادة جماعية في غزة. وهذا هو ما انتهى إليه تقرير لجنة الأمم المتحدة. ومنذ إصدار هذا التقرير في الأسبوع الماضي اعترفت بريطانيا وعدد من بلاد العالم أخيرا بفلسطين بوصفها دولة مستقلة. وفي إعلانه عن ذلك في إجازة نهاية الأسبوع قال كير ستارمر: إنه «لا يمكن التسامح مطلقا» مع ما يجري في غزة من الموت والدمار. وفضلا عن أن الاعتراف يأتي متأخرا للغاية؛ فإنه يأتي مشروطا. فهل توقفت حكومة المملكة المتحدة حقا عن التسامح مع تدمير إسرائيل لغزة؟ وهل تغير شيء بالنسبة للناس في غزة المعرضين للتجويع والقصف؟ الأمر أبعد ما يكون عن ذلك.
وحتى مع نشر الأمم المتحدة نتائج لجنتها المستقلة، ورفع العلم على مقر البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في لندن؛ لا يزال التشريد والقتل الجماعيان يجريان في مدينة غزة في ظل استمرار الهجمات الإسرائيلية. وبوصفي محاميا قضيت حياتي مؤمنا بسيادة القانون يحملني هذا على التساؤل عما لو أن دمار غزة يجلب معه أيضا موت القانون الدولي.
منذ البداية الأولى لم يكن على المرء إلا أن ينظر إلى كلمات قادة إسرائيل ليرى أن نية ارتكاب الإبادة الجماعية متوفرة؛ فقد تعهد وزراء وساسة إسرائيليون بتسوية غزة بالأرض، ووضعها تحت الحصار، وتعريضها للتجويع. وكان القصف بلا رحمة وواسع النطاق، فاستهدف مدارس وبيوتا ومستشفيات، وأغلبية الذين وقعوا ضحايا لإسرائيل كانوا من الأطفال والنساء. وكان التشويه والتجويع ونقص الرعاية الطبية والموت تجارب يومية عاشها أهل غزة، ولا يزال كذلك، ولم يتحرك أحد لإيقاف هذا.
وقد أذيعت معاناة الفلسطينيين على الهواء ليراها العالم، وأظهرت إسرائيل ما تقوم به في حق الفلسطينيين المحاصرين. وبرغم قتل الكثير من الصحفيين الشجعان واصل صحفيون غيرهم إظهار الواقع، فعُرضت الإبادة الجماعية مباشرة على شاشات الناس في البيوت. ومع ذلك لم توقفها حكومات العالم.
وقد استهدفت غارات إسرائيل الجوية وعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية الجماعة الفلسطينية التي توثق الأعمال الوحشية -ومنها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان (PCHR) الذي أعمل مديرا له، وكذلك مركز الميزان لحقوق الإنسان، ومنظمة الحق الفلسطينية الحقوقية-؛ بسبب توثيقها للأدلة القانونية على الجرائم المقترفة. بل إن المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز، ومسؤولي المحكمة الجنائية الدولية -ومنهم المدعي العام كريم خان- يتعرضون للتهديد والعقوبات؛ بسبب جهرهم بما يتوصلون إليه من نتائج. وتتطابق هذه النتائج مع نتائج أحدث تقارير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وهي أن نية ارتكاب إبادة جماعية كانت متوفرة منذ أكتوبر 2023 وما بعدها، والأدلة متوافرة على ذلك في شهادة الناجين والضحايا أنفسهم ممن كان ينبغي علينا أن نحميهم.
وتأتي لجنة الأمم المتحدة الآن لتنضم إلى إجماع واسع النطاق على أن الفلسطينيين في غزة يتعرضون لإبادة جماعية. وهذا تدخل محمود، ولكن من الضروري أيضا أن نتذكر الغرض من اتفاقية الإبادة الجماعية، واسمها بالكامل هو (اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها). فقد كانت فلسفة تلك الاتفاقية هي المنع والمعاقبة، وذلك يعني أننا واقفون أمام تقاطع طرق؛ إذ لم يجر منع وقوع هذه الإبادة الجماعية، ولكن لا يزال من الممكن إيقافها. فهل هذا كاف لكي يتحرك الناس، أم أن قصف غزة سوف يقوض أيضا مبادئ القانون الدولي، ويحيلها إلى ركام؟
ولست أقول ما أقوله الآن بوصفي فلسطينيا، وإنما بوصفي محاميا قضيت السنين الثماني والأربعين الماضية في ممارسة المهنة، والإيمان بقدسية القانون. وقد أفنيت عمري في هذا العمل؛ لأنني شعرت في قرارة نفسي بأن هناك ما لا بد من حمايته، وأن القانون يجب أن يكون في خدمة أضعف الناس. لكن ما شهدناه من تقاعس الحكومات وتواطؤها يمثل واقعا قبيحا، فلعلنا ننظر إلى عالم جديد بات قانونه الدولي انتقائيا ومسيَّسا.
إن وقوع إبادة جماعية في عصرنا بهذا المستوى من القتل الجماعي والتدمير والألم والمعاناة ليكشف مدى هشاشة سيادة القانون؛ فأوامر الاعتقال الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية لم تمنع وقوع الإبادة الجماعية. وها هي مؤسسة أخرى تصل إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، فلا يوقف ذلك الإبادة. ولا يمكن لقانون أن يوجد ما لم ينطبق على الجميع؛ فالمعلومات موجودة، والقانون موجود، وليس بوسع أحد الزعم بأنه لم يكن على علم، وليس بوسع مجتمعنا أن يسمح بموت القانون الدولي في غزة بأن يسمح لإسرائيل بحصانة منه.
ومع توصل المزيد من المؤسسات إلى النتيجة نفسها لا يمكنني إلا أن أرجو أن يُفرض مزيد من الضغط على الحكومات التي لا تزال تساعد إسرائيل، وتمدها بالسلاح. ولكي يكون في هذه الإعلانات والاعترافات أي أمل ملموس لأهل غزة؛ فلا بد أن تكون مشفوعة بعمل شامل. وعلى الدول المترددة أن تمضي على خطى إسبانيا في اتخاذ موقف واضح بالحث على حظر الأسلحة. ولا بد من توقف بريطانيا والولايات المتحدة عن تغطية إسرائيل ومشاركتها في إبادتها الجماعية.
لا تجعلوا من هذا التقرير محض ورقة أخرى تضاف إلى مثيلاتها، واعملوا على أن توجد فلسطين يمكن الاعتراف بها، وعلى أن يوجد شعب فلسطيني. اجعلوا كل الكلمات والبيانات والإعلانات تذكرنا جميعًا بما يوجد على المحك، لا بالنسبة لغزة وحدها، وإنما بالنسبة للقيم التي يشترك العالم في الإيمان بها، أي قيم سيادة القانون، والديمقراطية، وحقوق الإنسان وكرامته. وأرجوكم؛ أوقدوا شرارة عمل عالمي يوقف هذه الإبادة الجماعية.
راجي الصوراني مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومنسق الفريق القانوني الفلسطيني في المحكمة الجنائية الدولية، وعضو الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
عن الجارديان البريطانية
