هنا لندن.. وداعًا

02 أكتوبر 2022
02 أكتوبر 2022

سؤال مطروح غير مرة وفي أكثر من مناسبة: مع التغيرات الكبيرة في عالم الاتصالات والتواصل، هل ما زال للإذاعة والصحافة الورقية قيمة؟ وإذا كانت القيمة ما زالت كما كانت حتى الآن فهل هناك مستقبلا خطر عليهما؟

تجدّدت مثل هذه التساؤلات يوم الخميس التاسع والعشرين من أكتوبر 2022، بعد أن أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، أنها قررت وقف البث الإذاعي بعشر لغات، من بينها العربية والفارسية والصينية والبنغالية، إلى جانب إلغاء مئات الوظائف عبر الخدمة العالمية، وذلك بسبب أزمة مالية، ممّا أثار تفاعلًا واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعي، وعبّر كثيرون عن مدى صدمتهم لتوديع صوت لندن الذي رافقهم لسنوات طويلة، إذ تُعد "بي بي سي العربية" أقدم خدمة إعلامية تطلقها الشبكة بلغة غير إنجليزية، وذلك في الثالث من يناير 1938، وكان المذيع كمال سرور هو أول من قرأ نشرة الأخبار عند تأسيس القسم العربي، مستهلا النشرة بقوله: "هنا لندن، سيداتي سادتي، نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية للمرة الأولى في التاريخ"، وقد تربى جيلان من الجيل العربي على تلك الإذاعة على مدى 84 عامًا.

وإذا كانت اللغة العربية هي الأولى في البث بعد اللغة الإنجليزية، فإنّ دلالة ذلك واضحة، وهي التوجه البريطاني لمخاطبة العرب مباشرة، إذ كانت كثير من الأوطان العربية تحت الاستعمار البريطاني المباشر وغير المباشر، والهدف أن تستمر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. ويرى كثير من متابعي الإذاعة أنّ سياسة تناول وتقديم الأخبار في الهيئة اتسمت بالشفافية والحياد إلى حدّ بعيد، ويرى كثيرون أنها كانت تدس العسل في السم. فيما تقول البي بي سي "إنّ حيادها كمؤسسة إعلامية هو نتيجة لعدم تلقيها أيّ دعم حكومي لا من الحكومة البريطانية ولا من أيّ حكومة أخرى، بل إنّ تمويلها الضخم بشبكة قنواتها التلفزيونية الفضائية والمحلية والإذاعات التي تديرها يأتي بشكل مباشر من المواطن البريطاني، ومن خلال الضرائب التي تضعها الدولة على كلّ جهاز تلفاز في بريطانيا الذي في حال امتلاكه فإنّ على مالكه أن يدفع ضريبة سنوية تجمعها الحكومة البريطانية لتشكّل ميزانية عتيدة تذهب لتمويل البي بي سي بفروعها المختلفة". ولكن مسألة دفع الضرائب هذه تنقلنا إلى نقطة أخرى - على صحة أنّ الدعم هو من الضرائب فقط - هل دافعو الضرائب ليس لهم تأثير على سياسات الإذاعة؟ هناك ما يشير إلى أنّ حياد هيئة الإذاعة البريطانية كان في المحك عام 2009، عندما رفضت البي بي سي بث "مناشدة إنسانية لصالح قطاع غزة"، بعد الحرب الإسرائيلية على القطاع؛ الأمر الذي فسره البعض على أنه انحياز لصالح إسرائيل، فيما نفت البي بي سي تهمة الانحياز، معللة الأمر بكون المناشدة التي وجهتها لجنة الطوارئ الخاصة بالكوارث "ستُقَوض الحياد الذي يميز تغطية الإذاعة" حسب قولها.

مع المتغيرات السياسية العالمية وتراجع النفوذ البريطاني، جاءت خطوة إغلاق بعض الأقسام حفاظًا على المال من الهدر كما ذكر البيان، وستعيدنا هذه الخطوة إلى التساؤل الوارد في بداية المقال: هل فعلا كانت البي بي سي مؤثرة مع وجود التحديات؟

لا أحد يستطيع أن يقلل من قيمة الإذاعة البريطانية وما قدّمته طول 84 عامًا، لكن الواقع على الأرض تغيّر، وربما وجود قناة مثل "الجزيرة" كان إنذارًا مبكرًا للبي بي سي على أنّ أيامها زائلة، فقد شكلت القناة - كأول قناة إخبارية عربية - قفزة كبيرة في الفضاء العربي، وأتيح للمشاهد العربي أن يشاهد برامج وحوارات لم يعتد عليها، وشاهد نقل الأحداث بالصوت والصورة أولا بأول، وتعرّف على أسماء عربية كبيرة كانت محرومة من الظهور الإعلامي، وظهر إعلاميون عرب على مستوى كبير من القدرة والحوار والثقافة، رغم وجود بعض الهنات بل السقطات كبرامج التهريج والصراخ، وشاهد المشاهد العربي كثيرًا من الوجوه التي كان يسمعها عبر البي بي سي، فقد كان ظهور قناة الجزيرة أحد الأسباب التي قللت من شعبية البي بي سي. ولكن الأخطر من قناة الجزيرة هو تلك النقلة الكبيرة في عالم الاتصالات، التي هدّدت عرش القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف الورقية، فأصبح معظم الناس يصلون إلى الأخبار عبر الهواتف التي بها كلّ ما يحتاجه الإنسان، كما أنّ مواقع التواصل سحبت البساط من وسائل الإعلام هذه، إذ أصبح يتابعها الملايين ويتفاعلون معها، ممّا نبّه بعض القنوات أن تخصص مساحات من برامجها لتناول ما يدور في المجتمعات من نقاشات وحوارات، لأنّ هذه الوسائل من الناس وإلى الناس مباشرة دون المرور على الرقيب. وظهرت بعض المواقع الشخصية أفضل وأسرع بكثير من بعض القنوات الرسمية في نقل وتغطية الأحداث أولا بأول، وكلّ ذلك جعل القائمين على البي بي سي يتخذون القرار الصعب، وبالتأكيد هو قرار مدروس بعناية سياسيًا واقتصاديًا، وفي رأيي الشخصي أنّه يشجّع الآخرين على إعادة الحسابات وتقييم ما يقدمونه في برامجهم طوال 24 ساعة؛ وهي ساعاتٌ طويلةٌ لو أدخلنا ما تبثه هذه القنوات والإذاعات إلى "المشخل" لوجدنا أنّ ما يصلح أن يُبثّ ويذاع لا يزيد عن ساعتين ونصف بالكثير من 24 ساعة؛ فإذا لم تساير وسائل الإعلام، النمط الجديد في حياة الناس، والتغيرات الحاصلة في المجتمع وفي عقليات الناس، فإنها ستظلّ تغرّد خارج السرب ولن يلتفت إليها أحد، لأنّ البدائل من الكثرة بمكان، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يُفسّر كلامي أنّ زمن الإذاعات قد ولى، لكن المطلوب أن تساير الإذاعات والتلفزيونات وكذلك الصحف المتغيرات وإلا سيكون مصيرها الإغلاق، وهذا ليس ببعيد.

كنا نتغنّى دائمًا أنّ الإذاعة لن تفقد سلطانها لأسباب كثيرة، منها سهولة الحصول عليها، وسرعتُها في تغطية الأحداث، ولكن هذه الميزات اختفت بعد ظهور قنوات تلفزيونية إخبارية، لأنّ هذه القنوات اضطلعت بما كانت تضطلع به الإذاعات، بل أفضل بكثير، إذ ارتبطت التغطيات للأحداث عن طريق نقل الصوت والصورة، ومع ذلك فإنّ هذه القنوات نفسها أصبحت مهددة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تسبق أحيانًا هذه القنوات في التغطية، مثل "اليوتيوب" و"تويتر" و"الفيسبوك" و"التيك توك" و"الانستغرام"، و"التلغرام" وغيرها مما نعرف ولا نعرف. والحل بسيط جدًا، إذ يجب أن تعرف العقليات التي تدير هذه الوسائل أنّ هناك تحديات عديدة أمامها، وأنّ عليها أن تتماشى مع عقليات ومتغيرات العصر، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نستمع من بعض الإذاعات إلى برامج هي صورة طبق الأصل من البرامج التي أذيعت في الثمانينيات من القرن الماضي دون تغيير، رغم مرور أربعين عامًا عليها، تغيّر فيها العالم تغيرًا كبيرًا في كلّ مناحي الحياة. ويُفترض من القائمين على هذه الوسائل أن يستفيدوا من ثورة التكنولوجيا الرقمية إلى حد كبير "إذ جعلت تلك التكنولوجيا أدوات الإذاعة والتسجيل أصغر، وأخف وزنًا، وأسرع أداء، وأرخص سعرًا. كما خلقت ثورة في طرق تسجيل الأصوات والموسيقى، والتحكم في نوعيتها وسهولة سبل التعامل معها في المونتاج" كما أشار مقال في موقع البي بي سي عربي.

كان قرار إغلاق القسم العربي من البي بي سي صادمًا لكثيرين، ولكنه قرارٌ صائبٌ جدًا على الأقل من وجهة النظر البريطانية؛ فسياسيًا انحصر الدور البريطاني في العالم ولا حاجة للتحدث إلى الشعوب المستعمَرة، واقتصاديًا فإنّ التكاليف باهظة، وإعلاميًا فإنّ البدائل كثيرة، رغم أنّ البي بي سي حاولت كثيرًا أن تتماشى مع الوضع الجديد، إلا أنّ الاعتراف بالخلل أفضل بكثير من الاستمرار في الخطأ. وإذ نقول وداعًا لندن، نتساءل هل سيأتي الدور على إذاعات ووسائل إعلامية أخرى؟