هل هي النهاية للحرية الأكاديمية؟

06 أبريل 2024
06 أبريل 2024

باولا تشاكرافارتي وفاسوكي نسياه -

ترجمة: أحمد شافعي -

بدأ فصل الربيع في جامعة نيويورك بقراءة شعرية، إذ اجتمع الطلبة وأعضاء هيئة التدريس في ردهة مكتبة بوبست.

وفي ذلك الوقت، كان قرابة ستة وعشرين ألف فلسطيني قد لقوا مصرعهم في حرب إسرائيل المروعة على غزة، فجاءت القراءة أشبه بشهادة جماعية.

كانت آخر قصيدة مما قرئ يومها بعنوان «إذا كان يجب أن أموت». ومن المؤلم أن كاتبها شاعر وأكاديمي فلسطيني يُدعى رفعت العرير، كان قد لقي مصرعه قبل أسابيع في غارة جوية إسرائيلية. وتنتهي القصيدة بقوله «إذا كان يجب أن أموت، فليكن هذا أملا - وليكن موتي حكاية».

وما كادت تلك الأبيات تُلقى، حتى أوقفت إدارة الجامعة القراءة. وعلمنا بعد ذلك أنه تم استدعاء الطلاب وأعضاء هيئة التدريس إلى اجتماعات تأديبية لمشاركتهم في هذا العمل «التخريبي» على ما يبدو، وصدرت تحذيرات كتابية.

لقد قام كلانا بالتدريس في جامعة نيويورك لأكثر من عقد، ونعتقد أننا نمر بلحظة قمع غير مسبوقة. فعلى مدى الأشهر الستة الماضية، منذ بدء حرب إسرائيل على غزة، شهدنا إدارة الجامعة تعجز عن توفير الحماية الكافية للمعارضة داخل الحرم الجامعي، بل وتنشط في قمعها. وإننا نعتقد أن ما نشهده من رد على معارضة الطلاب والموظفين وأعضاء هيئة التدريس للحرب يمثل انتهاكا لأسس الحرية الأكاديمية.

وفي حين تقول جامعة نيويورك إنها تبقى ملتزمة بحرية التعبير في الحرم الجامعي وأن قواعدها ونهجها الخاصَّيْن بالنشاط الاحتجاجي لم تتغيّر، فقد تبيّن للطلاب وأعضاء هيئة التدريس المتضامنين مع الشعب الفلسطيني أن بيئة الحرم الجامعي باتت مقيَّدة بشكل يدعو للقلق.

بعد قرابة أسبوع من هجمات حماس في أكتوبر، تم إغلاق (الدرج الكبير) في مركز كيميل الطلابي، وهو موقع معروف للاحتجاجات الطلابية، إلى أجل غير مسمى، ولم يُفتح بعد بالكامل. وتم توبيخ طالب يعمل في إدارة الدراسات العليا لوضعه منشورات لدعم الفلسطينيين على باب مكتبه، وفي النهاية قام بإزالتها، وليس هؤلاء هم الطلبة الوحيدون في جامعة نيويورك الذين واجهوا شكلا من أشكال العواقب التأديبية بسبب خطاب أو عمل مؤيد للفلسطينيين. وثمة قرار أقره مجلس الحكومة الطلابية المنتخب في ديسمبر يدعو الجامعة إلى إعادة تأكيد حماية الخطاب المؤيد للفلسطينيين والنشاط المدني في الحرم الجامعي، ولكنه عالق في ثقب إجرائي أسود منذ ذلك الحين.

لقد بات لإدارة شرطة نيويورك حضور طاغ في الحرم الجامعي، إذ أضيف أكثر من ستة آلاف ساعة من وجود الضباط بعد اندلاع الحرب. وقد وقّع مئات من أعضاء هيئة التدريس على رسالة مفتوحة تدين «ثقافة الخوف في الجامعة بشأن الخطاب والنشاط داخل الحرم الجامعي».

وتمثّل هذه التدخلات القاسية تهديدات مباشرة للحرية الأكاديمية.

وفي الجامعات بشتى أنحاء البلد، بات أي انتقاد لسياسات إسرائيل، أو تعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، أو دعوات منظمة لوقف إطلاق النار، أو حتى لطرق تدريس تاريخ الأرض الحديث يُعَدُّ خطابا خطيرا.

وفي رسالة إلى رؤساء الجامعات في شهر نوفمبر الماضي، أعرب الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية عن قلقه بشأن «القمع غير المسموح به لحرية التعبير وتكوين الجمعيات في الحرم الجامعي» في ما يتعلق بالمجموعات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين ووجهات نظرهم، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأجواء في الكليات كارثية صريحة.

يبدو أن المانحين والأمناء والإداريين والأطراف الثالثة المعارضين للخطاب المؤيد للفلسطينيين يساوون بين أي انتقاد لإسرائيل -وهي قوة احتلال بموجب القانون الدولي ومتهمة بارتكاب جرائم حرب- بمعاداة السامية. وبالنسبة لهم، تعتبر معايير حرية التعبير إشكالية بطبيعتها، والتعريف الواسع لمعاداة السامية يمثل لهم أداة رقابية. لقد تدفق التمويل الخارجي لحملات الاستقصاء والتحرش المرعبة. وبلا هوادة تقوم مجموعات المراقبة المؤيدة لإسرائيل، من قبيل كناري ميشن وكاميرا، باستهداف الأفراد والجماعات التي تعد معادية للسامية أو منتقدة لإسرائيل. والتهديدات المشؤومة تلاحق أعضاء هيئة التدريس والطلاب لمحض التعبير عن آرائهم أو التصرف وفق ما تمليه عليهم قيمهم.

ونقولها واضحة، نحن نمقت جميع أشكال معاداة السامية ونرفض بشدة أي دور لمعاداة السامية في جامعاتنا. وبالمثل، نعتقد أن خلط انتقاد إسرائيل أو الصهيونية بمعاداة السامية أمر خطير. والمساواة بين انتقاد أي دولة وبين العنصرية المتأصلة تعرّض الحريات الديمقراطية الأساسية للخطر داخل الحرم الجامعي وخارجه. ومثلما كتب الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية في بيانه الصادر في نوفمبر، فإن الجامعة «لا يمكنها الوفاء بمهمتها بوصفها منتدى نشطا للجدال» في حال قيامها بمراقبة آراء أعضاء هيئة التدريس والطلاب، مهما اختلف أي منا معها أو وجد فيها إساءة.

في موجة من القمع ضد الخطاب المؤيد للفلسطينيين في جميع أنحاء البلد، ألغيت منح دراسية لطلاب، وسحبت عروض عمل وعُلِّقت مجموعات طلابية. وفي جامعة كولومبيا، أفاد المتظاهرون بتعرضهم لرش ما قالوا: إنه «الظربان»، وهو سلاح كيميائي يستخدمه الجيش الإسرائيلي، وفي جامعة نورثويسترن، واجه طالبان أسودان تهما جنائية، تم إسقاطها لاحقا، لنشرهما محاكاة ساخرة لصحيفة مؤيدة للفلسطينيين، وفي جامعة كورنيل، تم اعتقال طلاب خلال احتجاج سلمي. وفي واقعة عنف مروعة في الخريف الماضي، تعرّض ثلاثة طلاب فلسطينيين، اثنان منهم كانا يرتديان الكوفية، لإطلاق نار بينما كانوا يسيرون بالقرب من جامعة فيرمونت.

ويجري العديد من حالات القمع الطلابي في الجامعات بينما نكتب هذه السطور.

توفر الحرية الأكاديمية، كما حددتها الجمعية الأمريكية لأساتذة الجامعات في منتصف القرن العشرين، حماية السعي إلى المعرفة من قبل أعضاء هيئة التدريس الذين تتمثل وظيفتهم في التعليم والتعلم والبحث داخل الأكاديمية وخارجها. ولا يتوافق هذا فقط مع حماية حرية التعبير التي ينص عليها الدستور، وإنما يؤكد القانون الدولي لحقوق الإنسان أيضا مركزية الحرية الأكاديمية في الحق في التعليم، والاستقلال المؤسسي للمؤسسات التعليمية.

في جميع أنحاء الولايات المتحدة، تتزايد الهجمات على حرية التعبير. ففي السنوات الأخيرة، حاولت جماعات يمينية معارضة لتدريس نظرية العرق النقدية تقويض هذه المبادئ من خلال إجراءات منها فرض قيود على مناقشة التاريخ والعنصرية البنيوية في المناهج الدراسية، وزيادة التدقيق في المحاضرات والمناهج التي تعد مشجعة للمعارضة، والإجراءات التأديبية ضد الأكاديميين الذين يعملون في هذه المواضيع.

وما قد لا يدركه الناس هو أن الخطاب المنتقد للاحتلال الإسرائيلي وسياسات الأبارتيد كان خاضعا للرقابة منذ أمد بعيد، ممثلا تحديات مستمرة لمن يؤيدون منا الحرية الأكاديمية. وقبل السابع من أكتوبر بفترة طويلة، كان دعم الفلسطينيين بالقول أو الفعل في جامعة نيويورك يواجه تدقيقا مكثفا وغير مبرر.

إن طلابنا يستجيبون لدعوة رفعت العرير ليشهدوا على ما يجري. ويقولونها جهيرة: بكتابة البيانات، وتنظيم الاحتجاجات، والاستجابة لتهديد الإبادة الجماعية الواضح بمثالية وقناعة. ونحن نؤمن بوصفنا أعضاء هيئة تدريس أن الكلية يجب أن تكون الفترة التي يتم فيها تشجيع الطلاب على طرح الأسئلة الكبيرة حول العدالة ومستقبل الإنسانية، والبحث عن إجابات مهما تكن مزعجة لذوي السلطة.

يجب أن تكون الجامعات أماكن يتمكن الطلاب فيها من الوصول إلى المعرفة المتخصصة التي تشكل المناقشات المعاصرة، ويتم فيها تشجيع أعضاء هيئة التدريس على الاضطلاع بدور المثقف العام، حتى عندما، أو ربما بصفة خاصة عندما، يعبرون عن آراء معارضة ويجهرون بـ«الحقيقة في وجه السلطة». ويجب أن تسمح الفصول الدراسية بالتعلم السياقي، حيث توضع الأحداث الجارية سريعة التغير في سياق جدول زمني أطول.

إننا نمر بلحظة بالغة الخطورة. فقبل قرن من الزمان، ساعدت الهجمات على المناقشات المفتوحة لمعاداة السامية الأوروبية، وتجريم المعارضة وإنكار التاريخ اليهودي للقمع والسلب، على إيجاد الظروف المواتية لوقوع الهولوكوست. ومن دروس «ما لا ينبغي تكراره» التي نتعلمها من تلك المرحلة درس مفاده أن مراقبة الفكر أمر خطير. لأنها قد تجعل المجتمعات الضعيفة أهدافا للقمع. وقد تقنع العالم بأن بعض الأرواح ليست بمثل قيمة غيرها، فيكون ذلك مسوغا للمذابح الجماعية.

ولا عجب أن يحتج الطلبة في جميع أنحاء البلد على حرب وحشية غير ذات شعبية، لا يمكن أن توقفها -فضلا عن إسرائيل- إلا الولايات المتحدة. ومن غير العادي أن المؤسسات التي ينبغي أن تحمي ممارستها لحرية التعبير هي نفسها التي تعمل على تصعيد المراقبة والتضييق، والعمل على قواعد أكثر تقييدا من أي وقت مضى لسلوك الطلاب، والمخاطرة بشكل أساسي بموت الحرية الأكاديمية.

فمن حرب فيتنام إلى نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، كانت الجامعات أماكن مهمة للنقاش المفتوح والاختلاف حول سياسات الحكومة، والسجل التاريخي، والعنصرية البنيوية، والاستعمار الاستيطاني. وطالما كانت أيضا مواقع للاحتجاج. ففي حال عجز الجامعة عن العمل بوصفها ساحة لمثل هذه الحريات، فإن إمكانيات الحياة الديمقراطية داخل بوابات الجامعة وخارجها لن تصبح فقيرة وحسب، وإنما مهددة بالانقراض.

• باولا تشاكرافارتي أستاذة الإعلام والاتصالات والثقافة في جامعة نيويورك، وفاسوكي نسياه أستاذة لممارسة حقوق الإنسان والقانون الدولي. وكلاهما عضو في اللجنة التنفيذية لقسم جامعة نيويورك في الاتحاد الأمريكي لأساتذة الجامعات وأعضاء كلية الحقوق التابعة لجامعة نيويورك في فلسطين.

خدمة نيويورك تايمز