هل حقًا نضبت الأفكار العظيمة وأمهات الابتكار؟

23 يناير 2024
23 يناير 2024

في منتصف شهر مايو من عام 2020م ومع تصاعد وتيرة جائحة كوفيد-19 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رسميًا عن إطلاق عملية الالتفات السريع (Operation Warp Speed OWS)، كانت هذه العملية في الأساس عبارة عن شراكة استراتيجية بين القطاعين العام والخاص لتسهيل وتسريع الاستجابة للوباء عبر تعزيز مسارات مبتكرة للتشخيص، ووضع بروتوكولات العلاج، وفي الوقت ذاته تطوير وتصنيع وتوزيع لقاحات فيروس كورونا، حقق البرنامج نجاحات بارزة على المستوى البحثي والعلمي والميداني، وفي نهاية شهر فبراير من عام 2021م تم نقل مهام عملية الالتفات السريع إلى مسؤوليات فريق إدارة الطوارئ والاستجابة لجائحة كوفيد-19 بالبيت الأبيض، وتُعد تجربة الولايات المتحدة الأمريكية هذه ضمن الممارسات الرائدة في إدارة الوباء، وكذلك لنجاحها في لفت انتباه واضعي السياسات إلى أهمية رفع الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي من منظور أن الجائحة قدمت حافزًا استثنائيًا لتمويل البحوث ذات الأولوية الاستراتيجية، وذلك بعد التباطؤ الكبير في تمويل البحث العلمي والتطوير التكنولوجي على مستوى العالم، فهل من الممكن استعادة شرارة الإبداع والابتكار والاختراع مثل تلك التي قادت في الماضي إديسون أو الأخوين رايت؟ أم هل نضبت أمهات الابتكار والاستكشافات العلمية المِفْصَلية في حياة الإنسان؟ في البدء تعالوا نتوقف عند محور استشراف مستقبل الابتكار في واحدة من أكثر الجلسات النقاشية جدلًا في المحيط الأكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدًا في عام 2016م، وفيها تحاور اثنان من الأكاديميين البارزين في جامعة نورث وسترن وهما البروفيسور روبرت جوردون من كلية العلوم الاجتماعية، والبروفيسور جويل موكير أستاذ الاقتصاد والتاريخ، وكان النقاش حول السؤال الاستراتيجي التالي: «هل تجاوزت أمريكا أفضل سنوات النمو الاقتصادي القائم على المعرفة والابتكار؟»، أشار البروفيسور جوردون بأن الابتكارات الجذرية الفارقة مثل الكهرباء والطاقة النووية والسيارات والمضادات الحيوية ولقاح شلل الأطفال أحدثت تغييرات هائلة في حياة البشر، ولكن منذ عام 1970م لم تتغير حياة الإنسان بشكل ملحوظ، وجميع الابتكارات في المجمل هي بمثابة بناء وتطوير على ما هو في الأساس تكنولوجيا قديمة، بعكس ما كان عليه الوضع في عام 1900م حيث بدا كل تطوير حينها ممكنًا، ولم تكن هناك تحديات بعيدة عن متناول العلوم والتكنولوجيا والابتكار، فتربعت الولايات المتحدة على طليعة الابتكار، وحافظت على الصدارة طوال القرن الماضي، وأبهرت العالم بالتقدم العلمي المطرد بدءًا من الصناعات الحربية المتقدمة وانتهاء بالتكنولوجيا الطبية، وأجهزة الحاسوب الرقمية، والإنترنت، والهواتف الذكية، ويبقى السؤال الذي لا يزال يحيّر المفكرين والمؤرخين وصانعي السياسات حاضرًا وهو: كم مرة نسمع عن الاختراعات المذهلة اليوم؟ وهل تبقى مجال ما لم تصله حدود العلم والاستكشاف بعد، أو أن التقنيات المتقدمة قد وصلت إلى قمة حدودها المادية مع الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ يتصدر موضوع مستقبل الابتكار وأثره على حياة البشر أجندات التخطيط الدولي، إذ تشير الأبحاث الاستطلاعية بأن معدل إنتاج الابتكارات الخارقة التي يمكنها تغيير حياة البشر بشكل جذري قد تباطأ فعليًا وبشكل كبير خلال العقدين الماضيين، ويؤثر هذا التباطؤ في معدل التطوير التكنولوجي الداعم للعديد من الصناعات، بما في ذلك تقنية الاتصالات، والذكاء الاصطناعي، كما أن واقع أداء المؤسسات الرائدة في الابتكار يعكس حقيقة أن الذكاء البشري قد حقق بالفعل معظم الإنجازات الأساسية في العلوم والتكنولوجيا، ففي السابق كان الباحثون والمبتكرون يحققون جزءًا من اختراعاتهم العلمية عن طريق «التجربة والخطأ» ولكن مع هذا التراكم العظيم للمعارف والمعلومات فإن الابتكارات الفارقة تتطلب الكثير من الوقت والتركيز الدقيق، والعقبة الكبرى أمام الابتكار تكمن في حقيقة أن الباحثين في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية يقعون بشكل لاإرادي تحت ضغوطاتٍ لإكمال ونشر أعمالهم البحثية حسب المدة الزمنية المحددة في العقود البحثية، مما يقلل من فرص تمويل إجراء الدراسات البحثية طويلة المدى لاستكشاف آفاق علمية جديدة كليًا، وفي الوقت نفسه، انخفضت مخصصات البحث والتطوير في الشركات الابتكارية في جميع دول العالم لأسباب مالية من تداعيات الركود الاقتصادي، مما أسهم في انحسار جهود البحث والتطوير في معظم التخصصات والمجالات المعقدة، وأسهم ذلك في صعود الشركات الناشئة الأكثر ذكاءً؛ تلك التي تعتمد على تقنية الاتصالات والمعلومات، والتي لم تتأثر بخفض التمويل والدعم والاهتمام.

وهذا يقودونا إلى سلسلة التكهنات السائدة في الأوساط العلمية والتكنولوجية والتي تتوقع سيناريو «غدًا أكثر إشراقًا»، حيث ستنشأ ثورة صناعية جديدة بصرف النظر عن ترتيبها الزمني، فقد تكون الخامسة من بعد الثورة الصناعية الرابعة التي يعيشها العالم، وقد لا تحمل رابطًا تسلسليًا لما قبلها من الثورات التكنولوجية، ولكنها سوف تكتسب مزايا وإمكانات الثورة الصناعية الحالية مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد والتقنيات المصاحبة للذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن يزداد في المقابل الذكاء البشري أكثر من أي وقت مضى، فالتطور التكنولوجي في المجالات الطبية سيفتح مجالات أوسع للوصول لفهمٍ أعمق للدماغ، والتركيز على معالجة أفضل لكل من مواضيع الصحة العقلية من جهة، ومشاكل الشيخوخة من جهة أخرى، مما سيتيح للإنسان حياة أطول وأكثر إنتاجية، وبذلك فإن سيناريوهات التفاعل بين الذكاء الفطري والذكاء الاصطناعي ستأخذ أبعادًا متباينة ومختلفة عن العلاقة التنافسية المتوقعة بناءً على معطيات الحاضر.

وإذا عدنا للوراء قليلًا نجد بأن نهايات القرن الماضي قد شهدت العديد من الجهود الفكرية والتحليلية لاستقراء مستقبل الابتكار، ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أدى وصول التكنولوجيا الرقمية الجديدة والإنترنت إلى تغيير طريقة إدارة الأعمال، والنهج الريادي القائم على الابتكار، وظهرت العديد من المدارس الفكرية الرامية إلى إعداد الشركات والمؤسسات ورواد الأعمال لمواجهة التحديات الجديدة لعصر المعلومات، وفي مقدمتهم بيل جيتس؛ المؤسس الشريك لشركة مايكروسوفت، الذي لخّص عصارة تجاربه وآرائه في كتابه «الأعمال في سرعة الفكر» كنافذة تاريخية فريدة لصناعة المستقبل عبر التحليل الاستراتيجي للدور الحاسم الذي ستلعبه الابتكارات التكنولوجية، وتوقع جيتس في كتابه هذا الكثير من الملامح الحالية لعالم الأعمال من حيث الديناميكية العالية التي فرضت على الشركات التكييف السريع والمرن، ومركزية الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية لمواكبة التدفق الهائل للمعلومات والبيانات، وبالفعل بدأت الشركات العملاقة في تمكين الاستثمار في العناصر الأساسية، مثل أجهزة الحواسيب والشبكات واتصالات البريد الإلكتروني، ولكن في الواقع لم تحصل الشركات إلا على ما نسبته 20% من الفوائد المتوقعة، مما يعني أنها لم تنجح في توظيف التكنولوجيا المتاحة لها حينذاك بالطريقة الأكثر فعالية، وهذا يعطينا درسًا مهما في أهمية اقتناص فرص النمو مع تحقيق أقصى درجات الاستفادة من الممكنات الحالية، وعدم التريث لحين اكتمال التطور التكنولوجي، لا يوجد أمد معروف لاكتمال التطور العلمي والتكنولوجي، وإنما يجب فهم الاتجاهات العامة ثم تحديد الخطوات الذهبية التي يمكنها أن تحقق الطموحات بأقصر الطرق وأقل الموارد، وهنا جاءت فكرة «النظام العصبي الرقمي» الذي كان السبب الرئيس وراء قدرة شركة ميكروسوفت (Microsoft) على التكيف مع التغييرات الخارجية في عالم الأعمال بالمرونة الكافية والسرعة المطلوبة، ولم يكن بيل جيتس أو حتى أي من كبار المسؤولين التنفيذيين الآخرين هم الذين اكتشفوا إمكانات الإنترنت والبيانات في ربط أداء الشركة عبر التدفق السلس للبيانات مثل وظائف الجهاز العصبي في جسم الإنسان، بل يعود الفضل إلى مجموعة صغيرة من الموظفين المتفانين الذين حددوا هذا الاتجاه كأفضل الحلول الرقمية للتكييف وأثبتوا نجاحهم، وهذا النهج ينطبق على جميع مجالات الابتكار، فالبشرية لا تعاني من العجز الابتكاري ولا حاجة للبحث عن أفكار عظيمة للابتكارات التكنولوجية الجذرية، فإن أعظم ابتكاراتنا على هذه الأرض ماثلة في تفاصيل الحياة اليومية، وفي إدراكنا لواقعنا الحقيقي، والواقع الافتراضي الذي يمكننا خلقه عبر التقنيات المتاحة، ولكن ما ينقص هذه المعادلة هو توظيف هذه الابتكارات التي أنتجها العقل البشري، وتسخير قوة التكنولوجيا في معالجة التحديات العميقة على هذا الكوكب، فكل ما يمكن اختراعه قد تم اختراعه.