هل حان الوقت لاستنساخ سبارك؟

17 يناير 2023
17 يناير 2023

في نوفمبر من عام 2015 أصدرت الوقفية الوطنية للعلوم والتكنولوجيا والآداب بالمملكة المتحدة «أمانة نيستا» وثيقة تعريفية بشأن إطلاق أول حديقة لأبحاث العلوم الاجتماعية، التي سميت فيما بعد «سبارك»، وهي تتكون من حرف وكلمة منحوتة من اللغة الإنجليزية، لاختصار الاسم الكامل من Social Science Research Park فأخذت حرف S ومعها كلمة Park، وسبارك هي مؤسسة داعمة لبحوث العلوم الاجتماعية متعددة التخصصات، مماثلةً بذلك لحدائق العلوم والتكنولوجيا التي انتشرت بشكل واسع منذ ستينيات القرن الماضي.

جاء إطلاق حديقة أبحاث العلوم الاجتماعية تتويجاً للمحاولات الحثيثة، التي قام بها الباحثون والعلماء في جامعة كارديف على مدى العقد الماضي، من أجل توظيف البحوث متعددة التخصصات في معالجة «التحديات الكبرى» الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بربط الباحثين والمبتكرين في العلوم الاجتماعية التطبيقية جنبًا إلى جنب مع باحثين من تخصصات علمية أخرى، وتشجيع التفاعل الإبداعي المنبثق عن الذكاء الجماعي، ووضع رؤى جديدة سعياً لتأسيس قيادة استثنائية للابتكار الاقتصادي والاجتماعي المستدام.

وبذلك يعتبر سبارك هو أول نموذج عملي لحديقة أبحاث العلوم الاجتماعية، الذي ظهر من خلال تكييف وتطوير نموذج الحدائق العلمية التقليدية، ففي عالمنا المتشابك بالروابط والتعقيدات العالمية، لا يمكننا أن نتوقع من مؤسسة بحثية واحدة، أو موضوع أكاديمي واحد أن يضع معالجات مستدامة للجذور العميقة لتحدياتنا الاجتماعية، التي قد تبدو أحياناً مستعصية على الحل، مما يفرض على منتجي المعرفة ضرورة النظر إلى التحديات بشكل مختلف، وخلق مساحة لجيل جديد من الأفكار المولدة لابتكار مؤسسي جذري، فالجوانب الاجتماعية محورية في دعم التنمية.

فإذا نظرنا إلى واقع العمل الاجتماعي في سلطنة عُمان نجدها في قلب الجهود التنموية، ها هي مسيرة البناء الوطني تواصل تعزيز روح التضامن، والتأكيد على أن لكل يدٍ في التنمية الوطنية، وتتجلى في أعمق مجالات التكامل والشراكة المجتمعية، فجاءت اللفتة الكريمة من حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أيَّده الله - بدعم الجهود الخيرية للمؤسسات والمتطوعين في العمل الاجتماعي، وترسيخ الأطر العملية لتمكين المؤسسات الخيرية في سعيها الجاد نحو الإسهام بفاعلية في صناعة واقع مجتمعي أكثر شمولاً وإنتاجاً ومرونة، وتدعيم التماسك البنيوي، وغرس القيم والاتجاهات الاجتماعية الإيجابية. ومع وجود هذا الاهتمام السامي ماذا يمكن أن تحمل المعرفة والابتكار من مفاتيح استراتيجية للدفع بالإمكانيات الذاتية للبناء المجتمعي نحو تلبية الطموحات التنموية؟ وإلى أي مدى سينجح الابتكار المجتمعي في إرساء النموذج التكاملي وتحقيق التنسيق الكامل بين الجهود الرسمية الحكومية المخططة والجهود الخيرية والتطوعية؟

إن الرعاية السامية للعمل الاجتماعي بكافة أشكاله المؤسسي منها والخيري والتطوعي، تعكس الإدراك العميق لأهمية الشراكة الفعالة بين شركاء التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهذا يضع مسؤوليةً كبيرة على جميع الفاعلين في المنظومة، فالمؤسسات الخيرية والجهود التطوعية تمارس دورها الاستراتيجي وسط النسيج المؤسسي للقطاعات المعرفية والخدمية الأخرى، وهنا يأتي دور المعرفة في إكساب المؤسسات الخيرية والتطوعية الترابط والتكامل مع الأولويات الوطنية، وصولاً إلى الابتكار الاجتماعي.

دعونا نعود للتجربة البريطانية، إذ أنشأت سبارك بغرض إنتاج معرفة علمية موجهة للقضايا المجتمعية، وهي تضم مختبرات بحثية ومرافق علمية، تحوي العديد من الممكنات التكنولوجية التي تسمح بإدماج التقدم التقني مع تلك المجالات المعرفية البشرية التي تركز على المجتمع وحياة الإنسان، إذ يترجم سبارك مفهوم تلاقح الأفكار من مبدأ أن التحديات المعاصرة أنماط جديدة من الإبداع الاندماجي الذي يدعم الفهم النظري بالخبرة، فلطالما سيطرت العلوم الطبيعية التجريدية على مفهومنا للابتكار، وإنما واقع الحال يؤكد أن الابتكار التكنولوجي كان له دائما نظير اجتماعي، وتحتوي الأدبيات على مفاهيم مماثلة كالتكنولوجيا الاجتماعية، والاختراع الاجتماعي، والهندسة الاجتماعية.

هذا الإدماج بين المجموعات العلمية والمعرفية هي الأساس في تحفيز الابتكار المجتمعي، فقد تعلمت البشرية من بعد جائحة كورونا أهمية الفروع المعرفية المختلفة، فالآثار السلبية للجائحة لم تتوقف بعد أن اخترع العلماء في المختبرات الطبية والإكلينكية اللقاح، لا يزال العالم بحاجة إلى العلماء والمفكرين من العلوم الاجتماعية والإنسانية والتربوية والفلسفية، من أجل التعاطي مع تداعيات الجائحة، مثل ارتفاع عدد الباحثين عن عمل، وغلاء المعيشة، ومستجدات التعليم، وتغيير الأنماط الحياتية، وتحديات الصحة النفسية والعقلية.

ومع الأهمية الكبيرة لتبني الابتكار الاجتماعي في تعزيز الجهود التنموية، هنا سؤال يطرح نفسه: هل تختلف حديقة العلوم الاجتماعية عن المدن العلمية التقليدية؟ إن جميع الحدائق العلمية متشابهة، من حيث عناصرها، فهي تتكون من البنى الأساسية، التي تمثل «مساحات للابتكار»، وتتطلب رأس المال الاجتماعي وكذلك النظام البيئي الداعم لتتجير المعرفة وريادة الأعمال، وهي تعكس بشكل مباشر تفاعل مستخدمي المعرفة مع فرص الابتكار، ومدى قدرتها على تسويق هذه المعارف والمنتجات العلمية والابتكارية.

إذن يمكن تأسيس حديقة العلوم الاجتماعية داخل الحدائق العلمية والتكنولوجية، فكل ما تحتاجه هو ذلك «الفضاء التمكيني» للأفكار والمعرفة المركبة، فالابتكار الاجتماعي ركيزة أساسية في دعم منظومات الابتكار الوطنية، ويظهر ذلك بوضوح في التطور التصاعدي لنظرية الحلزون الثلاثي للتعاون بين الجامعة والصناعة والحكومة، حيث أضاف البعد الاجتماعي وساهم في ظهور ما أطلق عليه «اقتصاد المعرفة الاجتماعية»، الذي يعكس المنظور الشبكي وغير الخطي لإنتاج المعرفة، كما هو حال سبارك كمفهوم وممارسة انتهجت فكرة الإبداع المشترك، عن طريق تمكين الباحثين والمفكرين للعمل معًا عبر التخصصات وعبر الحدود المهنية.

دعونا نسأل أنفسنا إذن: هل «سبارك» هي الفكرة التي حان الوقت لها؟ وهل من الحكمة استنساخ هذه التجربة التي لا تزال تعتبر حديثة؟ يتوقع الباحثون والمهتمون بقضايا إدماج البعد الاجتماعي في الحدائق العلمية والتكنولوجية بأن نموذج «سبارك» قد غير ملامح إنتاج المعرفة الاجتماعية، وألهم الابتكار المجتمعي المعاصر، وهذا يبشر بانتقال موازٍ في أهمية حدائق العلوم الاجتماعية مع الحدائق العلمية والتكنولوجية، إذ نجح في تقريب المسافة المعرفية بين العلوم الأساسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وتمكن من ترسيخ محفزات توليد التدفق المعرفي والاتصالات الإبداعية بين المجالات المعرفية، وتوجيه الأنشطة التطويرية والابتكارية للمواضيع المجتمعية الأكثر إلحاحًا، وبذلك يمكن خلق قيمة لهذا التواجد المشترك، وإلا يصبح وجود الجهات المرتبطة بالابتكار المجتمعي داخل الحدائق العلمية أشبه بوضع مساحات فارغة ومعزولة داخل ذلك المشهد المعرفي.

تجربة سبارك ملهمة بجميع أبعادها الاستراتيجية والتنفيذية، فقد صُممت لإنشاء مجتمع جديد من الباحثين وصانعي السياسات، والممارسين والقطاعات الإنتاجية، والمؤسسات غير الحكومية، والجمعيات الخيرية والمبادرين والمتطوعين، ونجحت سبارك في تأصيل الابتكار المجتمعي عن طريق الشراكة والتعاون عبر الحدود التخصصية، ولذلك فإن استنساخ سبارك لا يعني مطلقاً أن «نبدأ من الصفر»، وإنما تبني طريقة جديدة للعمل بانسجام وتآزر، والنظر للتحديات بعدسة مختلفة تشجع الأدوار المشتركة، مع وضع الأهمية المركزية في تعزيز الشراكات، وبناء مجتمعات الممارسة التخصصية التي يمكنها أن تكون مسرعات الابتكار الاجتماعي.

د. جميلة الهنائية كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.