هل تندلع الانتفاضة الثالثة بعد عملية «نفق الحرية»؟
أيا تكن نهاية المطاردة التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلى للقبض على الأسرى الستة الهاربين من سجن جلبوع شديد الحراسة في عملية ناجحة هزت أركان أجهزة الأمن الإسرائيلية، فإن الحدث في حد ذاته يظل محطة فارقة في مسار المواجهة بين قوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، وذلك في اتجاه التصعيد المتبادل بين الطرفين. وبما أن المشهد يتعلق بالتصعيد المتبادل، فمن المنطقي أن يذهب كل منهما إلى استخدام كل ما لديه من عناصر القوة لتسجيل انتصار ما بالنقاط على الطرف الآخر، كأن تتجه قوات الاحتلال إلى شن هجمات مكثفة على قواعد فصائل المقاومة سواء في الضفة أوغزة أو كليهما لاستعادة هيبتها الأمنية التي تدهورت بسبب هذه العملية، وبالمقابل أن تتجه المقاومة إلى تصعيد ردود أفعالها بشتى الطرق وصولا إلى اندلاع انتفاضة ثالثة.
ووسط هذه الأجواء الساخنة،وأخذا في الاعتبار معطيات الصراع القائم بين الطرفين، هناك تساؤل مشروع حول مدى احتمال أن تؤدي واقعة الهروب المعروفة إعلاميا بعملية «نفق الحرية»، إلى اندلاع مثل هذه الانتفاضة. وتستند مشروعية طرح هذا التساؤل إلى 3 مجموعات من المؤشرات المرتبطة بهذه العملية الشجاعة؛ تتعلق الأولى منها بالسوابق التاريخية من حيث تشابه الظروف ومحورية قضية الأسرى في مسار الصراع بين المقاومة وقوات الاحتلال، والثانية بحالة الهلع والاستنفار الشديد على الجانب الإسرائيلي مما ينذر بتصعيد أمني كبير من جانبه يفضى إلى صدام جديد مع المقاومة الفلسطينية، والثالثة بالموقف الفلسطيني ذاته الذي جسد المؤازرة لدلالات العملية من ناحية، والمهدد برد قاس عند القبض على الأسرى أو تصفية البعض منهم من ناحية أخرى.
فمن متابعة مسار المواجهة بين قوات الاحتلال والشعب الفلسطيني يلحظ المتابع للشأن الفلسطيني أن قضية الأسرى تعد أحد محاور الصراع القائم برغم كل محاولات الحل السلمي للقضية الفلسطينية، وأنها وراء استمرار أساليب المواجهة بما فيها الانتفاضتان الأولى والثانية. ولعل استرجاعا سريعا لذاكرة التاريخ القريب نسبيا يلفت النظر إلى أن قضية الأسرى كانت لها صلة باندلاع الانتفاضة الأولى. ومن الصحيح أن اندلاعها في 28 ديسمبر 1987 في غزة يعود إلى قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين عند حاجز أريز الذي يفصل الضفة عن غزة، إلا أنه لا يمكن إغفال دور حدث آخر وقع قبل ذلك بنحو 7 أشهر وتحديدا في 17 مايو عندما نجحت مجموعة من أسرى حركة الجهاد الإسلامي في الهروب من سجن غزة المركزي وقاموا عقب هروبهم بعمليات نوعية أوقعت خسائر في قيادات من قوات الاحتلال الإسرائيلي، ترتب عليه تصعيد المواجهة على الساحة الفلسطينية وصولا إلى واقعة الدهس ومن ثم اندلاع ما تمت تسميته آنذاك بانتفاضة الحجارة ومشاركة الأطفال فيها الذين أطلق عليهم أيضا لقب أطفال الحجارة، إشارة إلى أن أداة المواجهة آنذاك ضد الاحتلال كانت الحجارة. ولم تهدأ تلك الانتفاضة إلا عام 1991 (استمرت نحو 4 سنوات) مما مهد إلى توقيع اتفاقيات «أوسلو» الشهيرة عام 1993. ومن الصحيح أيضا أن الانتفاضة الثانية التي اندلعت في 28 سبتمبر 2000 كانت شرارتها الأولى هي اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى محاطا بجنوده مما دفع جموع المصلين للتصدي لهم جميعا ووقوع أعمال عنف متبادل سرعان ما شملت كل الأراضي الفلسطينية، إلا أنه من المهم الإشارة أيضا إلى أن أمد هذه الانتفاضة طال لمدة 5 سنوات ليس فقط بسبب حجم الضحايا من الشهداء الفلسطينيين على أيدى قوات الاحتلال، وإنما لأن سجون الاحتلال اكتظت بأسرى فلسطينيين ممن شاركوا ببسالة في هذه الانتفاضة وكان اعتقالهم والتنكيل بهم من عوامل استمرار اشتعالها لمدة 5 سنوات. والآن مع نجاح عملية هروب الأسرى من سجن جلبوع تخوفت المصادر الأمنية الإسرائيلية فور وقوع الهروب (وفقا لما نقلته إذاعة الجيش الإسرائيلي) من أن تتدهور الأوضاع الأمنية سريعا في حالة ما إذا كان قرار القيادة الإسرائيلية هو القيام بعمليات لتصفية الأسرى الهاربين، الأمر الذي من شأنه أن يفجر مرحلة جديدة من المواجهات العنيفة من جانب مختلف أبناء الشعب الفلسطيني ردا على تصرف إسرائيلي كهذا. وقالت المصادر صراحة أنها تخشى من تكرار سيناريو ما حدث في غزة عام 1987 أي الانتفاضة الأولى.
وليست السوابق التاريخية وحدها التي ترجح احتمال اندلاع الشرارة لانتفاضة ثالثة، وإنما الموقف الإسرائيلي ذاته في ظل تلقيه لصدمة أو لطمة إن جاز التعبير من وراء وقوع عملية هروب دقيقة وناجحة مائة بالمائة من سجن يوصف بأنه شديد الحراسة افتخرت به السلطات الإسرائيلية وقت إنشائه العام 2004، وكذلك في ظل تعامل الموقف الإسرائيلي مع الحدث بشكل ينذر بتصعيد كبير ضد الأسرى عموما والمقاومة الفلسطينية خصوصا. فما لاشك فيه أصيبت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بضربة موجعة، وهي التي تتحدث عن جدارتها في المجال الأمني، ما يدل على وجود قصور كبير في المنظومة الأمنية. وقد انهالت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالنقد الشديد لهذه المنظومة، وراحت تتحدث عن أنه ما كان لعملية كهذه أن تنجح وأن تتم بالشكل «الهوليوودي» الذي وضع المسؤولين الأمنيين موضع التهكم والسخرية، لولا حدوث اختراق أمني داخل صفوف ضباط وجنود هذا السجن وذلك من جانب الأسرى الهاربين ومن خطط ووفر لهم سبل الهروب من الجانب الفلسطيني، وذلك في إشارة إلى أن الأسرى وجدوا مساعدة من داخل السجن مما يعد قصورا أمنيا شديدا هز بالفعل المنظومة الأمنية الإسرائيلية. لا وتأكيدا لهذا سارعت السلطات الإسرائيلية إلى التحقيق مع عديد القيادات والجنود المسؤولين عن تأمين السجن. وقد ذكرت القناة السابعة العبرية وقت الحادث:»أن جهاز الأمن الإسرائيلي يخشى من ضعضعة الإحساس بالأمن لدى الجمهور في كافة أنحاء البلاد بعد هذه العملية،(المصدر موقع سما الإخبارية 9/9). وفي هذا الإطار أيضا لم يكن مفاجئا أن يدفع الجيش الإسرائيلي بالآلاف من قواته بجانب قوات الشرطة للبحث عن الهاربين. ولم يقف الصدى المدوي للحدث عند الاستنفار الأمني الضخم رغبة في الانتقام ومحاولة استعادة هيبة قوات الاحتلال، وإنما امتد إلى المشهد السياسي ذاته من حيث الصراع القائم على السلطة بين نتانياهو رئيس الوزراء السابق وبينيت رئيس الوزراء الحالي. فقد استغل الأول الحادث للتدليل على ضعف الائتلاف الحاكم الجديد ولتوجيه اللوم للناخب الإسرائيلي على تردده في الانحياز لليمين المتشدد الذي يتزعمه ومنحه الفوز ليمين هش حسب وصفه. وعليه أصبحت هناك أزمة حكم جديدة في إسرائيل تواجهها الحكومة الحالية بالمزيد من القمع مع الأسرى الفلسطينيين من جهة واستعراض القوة أمام المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى (وقع هجوم سريع على مواقع للمقاومة في غزة).
أما المؤشرات من الجانب الفلسطيني، فقد صبت في اتجاه التعبير عن الفرحة والانتصار من جهة، والتأكيد على حق الأسير في اتخاذ كل ما يمكنه لانتزاع حريته من جهة ثانية، والتهديد بالرد القاسي على قوات الاحتلال في حال ما اختارت التصعيد وتحديدا تصفية الهاربين أو حتى إعادة اعتقالهم من جهة ثالثة. وقد جاء رد الفعل الفلسطيني الرسمي على لسان رئيس الوزراء محمد أشتيه في تصريحات للصحفيين في مكتبه برام الله معبرا عن تأييده لعملية الهروب بوصفها انتزاعا للحرية، وتأكيده أنه من حق كل أسير أن يبحث عن حريته وأن يلجأ لأي طريقة للخروج من السجن وحمل إسرائيل مسؤولية أرواح الأسرى الستة. وأما حماس فقد أثنت على العملية، ووصفتها بالعمل البطولي الشجاع واعتبرتها انتصارا لإرادة وعزيمة الأسرى، وأكدت أن انتصارا كهذا يثبت أن الاحتلال لم ولن ينتصر مهما كانت له من إمكانيات. ولكن ما هو أكثر أهمية أن كلا من حماس والجهاد الإسلامي حذرتا من التصعيد الإسرائيلي مع الأسرى بعد هذه العملية، وشددت الجهاد (خمسة من الستة من عناصرها) على أن أي مساس بالأسرى الهاربين لن يتم السكوت عنه وأنهم خط أحمر، وطالبت الاحتلال بإمعان النظر جيدا فيما تقول وأن خياراتها مفتوحة ومتعددة، والمعنى أنها سترد بقسوة إذا ما تعرض الأسرى الهاربون للضرر من قوات الاحتلال. وقد لوحظ أن المقاومة ردت بإطلاق الصواريخ فور إعلان قوات الاحتلال القبض على بعض الهاربين.
كل هذه المؤشرات ترسم مشهدا يعبر عن أجواء مواجهة جديدة بين المقاومة والاحتلال من الممكن أن تقود إلى اندلاع انتفاضة ثالثة، وبطل المشهد هذه المرة بوضوح هو الأسير الفلسطيني الذي كان وراء انتفاضات سابقة ولو بشكل غير مباشر، ومرشح الآن ليكون وراء هذه الانتفاضة المفترضة، لأنه أعطى دفعة للروح المعنوية وقدم أنموذجا على إمكانية هزيمة الاحتلال برغم كل ما يمتلكه من عوامل القوة في المنظومة الأمنية، هذا فضلا عن أنه مثلما هناك مؤشرات على أن الاحتلال عازم على القيام بعمليات انتقامية لاستعادة الثقة في منظومته الأمنية، هناك بالمقابل جهوزية فلسطينية لتعميق هزيمة الاحتلال، وربما تحمل الانتفاضة هذه المرة لقب انتفاضة الأسير. وربما تكون الحاجة ماسة ليس فقط لوحدة الصف الفلسطيني والتخلص من عملاء الاحتلال، وإنما لتوفير ظهير عربي وإسلامي فعلا لا قولا فقط.
هكذا في مثل هذه الأجواء من التصعيد المتبادل تصبح كل الاحتمالات قائمة، ولذلك لا يبدو التساؤل عن إمكانية اندلاع الانتفاضة الثالثة دربا من الخيال أو مبالغة في تقدير الواقع، وإنما هو تساؤل مشروع لاحتمال ممكن، قد يحدث اليوم أو في الأجل المنظور، استنادا إلى أنه يجد عناصر تحققه على أرض الواقع بالفعل، وينتظر الشرارة تماما مثلما حدث في الانتفاضتين السابقتين، ولنا أن ننتظر ونرى كيف تتجه الأحداث.
