هل تستطيع الصين التكيف مع اقتصاد أقل تركيزا على الصناعة؟

02 سبتمبر 2025
02 سبتمبر 2025

الإيكونومست 

ترجمة: قاسم مكي 

وسط كل المتاعب التي واجهت وتواجه الصين من حرب تجارية وجائحة وتدهور عقاري ظل قادتها متمسكين بثقتهم في مصدر نموها الاقتصادي في المستقبل. ففي رأيهم المصير الواضح للصين يتموضع في الصناعة عالية التقنية. 

لقد هدفت خطتهم «صنع في الصين-2025» التي طُرِحَت قبل 10 سنوات إلى تحويل الصين لمركز صناعي رائد بحلول منتصف القرن. وتتطلع الحكومة إلى ما تدعوه نظاما صناعيا «كاملا» يقلل اعتماد بلدهم على الأجانب، ويزيد اعتمادهم عليها. 

يريد زعيم الصين شي جينبينج تطوير « قوى إنتاجية جديدة» بتطبيق أحدث التقنيات في الصناعات الصاعدة، وبعض الصناعات التقليدية أيضا. 

حققت هذه الاستراتيجية نجاحا كبيرا؛ ففي فبراير ذكرت الحكومة أن الصناعة التحويلية عالية التقنية سجلت نموا بنسبة 8.9% في العام الماضي، وأسرع بقدر كبير من نمو الاقتصاد ككل. 

اختراقات الصين في الذكاء الاصطناعي، وصناعة البطاريات، والمسيرات والروبوتات أرعبت أمريكا. وعلى الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي للصين عندما يُحوَّل إلى الدولار بأسعار الصرف السائدة في السوق لا يزال متخلفا عن الناتج الإجمالي الأمريكي إلا أن إنتاجها من السلع المحسوسة تجاوز منذ فترة طويلة إنتاج منافستها. 

لكن انشغال الصين بالصناعة عالية التقنية يصل إلى نهايته؛ فالتوسع السريع في الصناعة التحويلية أغرق الأسواق في الخارج، وقاد إلى حروب أسعار شرسة في الداخل. لقد انتقد قادة الصين بشدة المنافسة المعطِّلة للنمو (على الحصص السوقية) والتي تقود إلى خسارة المتنافسين. وربما بدأت هذه الحملة تُحدث أثرا؛ ففي يوليو تراجع استثمار الأصول الثابتة في الصناعة التحويلية مقارنة بالعام السابق. 

أيضا بدأ قادة الصين في التأكيد على مصدر بديل ومعهودٍ بقدر أقل للنمو وهو الخدمات؛ ففي يوليو نادى المكتب السياسي للحزب الشيوعي بوجوب تعزيز «مجالات نمو جديدة لاستهلاك الخدمات.» وفي الشهر الماضي ذكرت الحكومة أنها ستدعم قروضا للشركات التي تقدم خدمات بشكل مباشر للمستهلكين كالترفيه والسياحة والرياضة والعناية بالأطفال وكبار السن والرعاية الصحية. 

ينفق أناس عديدون الآن على الصحة أكثر من إنفاقهم على السلع كما يشير وانغ بو المسؤول بوزارة التجارة، وهو يعتقد أن هذا التحول سيتسارع مع ارتفاع الدخول وسيوجد بذلك «إمكانية كبيرة للنمو». حاليا تسهم الخدمات والتي تسمى أحيانا القطاع الثالث بنسبة 57% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، ووظفت 49% من مواطنيها منهم حاصلون على تعليم جيد؛ فحسب تشينغ سونغ أستاذ الاقتصاد بجامعة هونج كونج الصينية؛ تلقى أكثر من 36% منهم بعض التعليم الجامعي. لكن الخدمات لا تظهر (لا تتجسَّد) بقدر كبير في أيديولوجية ورموز الحزب الشيوعي؛ فعَلَم الجمهورية الشعبية يحمل مطرقة ومنجلا (وهما رمزان للصناعة والزراعة)، لكن ليس قلم ريشة أو صندوق نقود لتمثيل باقي الاقتصاد. 

في عقودها الأولى لم تشغل الدولة نفسها بتضمين هذه المساهمات في الناتج الإجمالي؛ فنظامها الإحصائي المبكر والذي ارتكز على النموذج السوفييتي كان يرصد أداء الخدمات «المادية» فقط والتي شملت خدمات الإعاشة (تقديم الطعام) والنقل والبريد والاتصالات السلكية وغير السلكية، وهذا يستبعد 60% من الاقتصاد الخدمي الحالي. 

حتى الآن لا تنتبه الحكومة إلى مساهمات بعض الخدمات؛ فالسلطات تجد صعوبة في تسعير الخدمات المنزلية التي يتمتع بها ملاك الشقق الذين هم أيضا ساكنوها. وحسب الباحث نك لاردي بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي؛ مساهمة الخدمات المنزلية في الناتج الإجمالي ربما ما زالت تسجل بنسبة أقل من نسبتها الفعلية بِعدِّة نقاط مئوية. ولا تتفق المصادر الرسمية مع بعضها البعض دائما؛ فأحدث إحصاء اقتصادي نشر أوائل هذا العام وجد 411 مليون صينيا يعملون في قطاع الخدمات في عام 2023 بمن فيهم من يعملون لحسابهم الخاص. وهذا العدد يزيد بحوالي 55 مليون عاملا عن الرقم الذي سبق تقديره بواسطة المسوحات الرسمية. 

في الماضي وعدت الخطة الخمسية للحزب برفع حصة الخدمات في الاقتصاد وذلك كخطوة نحو «إعادة التوازن»، لكنها تخلت عن ذلك التعهد في الخطة الأخيرة التي غطت الفترة من 2021 الى 2025؛ بحسب آدم ولف خبير الأسواق الناشئة بشركة «آبسليوت استراتيجي ريسيرش» الاستشارية. وبدلا عن ذلك وعد الحزب بالإبقاء على حصة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي. 

ربما يخشى الرئيس شي من ظاهرة أسماها الاقتصادي ويليام باومول «مرض التكلفة». ذكر باومول أن العديد من الخدمات كثيفة العمالة لديها مجال محدود لتحقيق مكاسب في الإنتاجية. وأفضل مثال له على ذلك عازفو الموسيقى. فإذا احتاج أربعة أشخاص إلى نصف ساعة لعزف رباعية وترية للموسيقار الإيطالي بوشيريني في عام 1800 ستحتاج نفس الرباعية إلى نفس العمالة اليوم (أي أربعة عازفين لمدة نصف ساعة- المترجم)، لكن الخدمات بما في ذلك المعزوفات الموسيقية تلزمها المنافسة على العمال مع قطاعات أخرى كالصناعة التحويلية التي ارتفعت فيها الإنتاجية بشدة. 

بفضل هذه التحسينات في الإنتاجية يمكن للصناعيين دفع أجور أعلى بدون زيادة الأسعار. أما الصناعات الخدمية فيلزمها رفع الأسعار إذا رغبت في زيادة الأجور، ويجب عليها أن تفعل ذلك إذا أرادت مجاراة الأجور المرتفعة في قطاعات الاقتصاد الأخرى. لقد وجد باومول في إحدى تقديراته أن سلعة مصنَّعة افتراضية كلف شراؤها نفس قيمة تذكرة حفل موسيقِي في عام 1800صارت تكلف 5% من قيمة نفس التذكرة في ثمانينيات القرن الماضي. 

في الصين سجلت أسعار الخدمات أيضا ارتفاعا أسرع من أسعار السلع المصنَّعة. وإذا كان الناس كما يظن وانغ ينفقون حصة متزايدة من دخلهم على الخدمات ستواجه الصين حينها كما يبدو مرض التكلفة؛ فحصة الخدمات الأكثر تكلفة في الاقتصاد ستزداد، وستقلص بذلك متوسط معدل نمو الصين. 

القوى التي وصفها باومول تنطبق على كل الاقتصادات، لكن هنالك قيود أخرى على الصناعات الخدمية خاصة بالصين؛ فالدولة مثلا تملك كل البنوك الكبرى، وتسيطر الشركات الحكومية على قطاع الاتصالات، وتحصل على 78% من الإيرادات. كما تُخضِع الصين مهنَ المحاسبة والقانون وتجارة التجزئة بل حتى الوكالات العقارية إلى قواعد تنظيمية أكثر تشددا من بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في المتوسط. والتمدد الحضري في الصين يجعل من الصعب الاستفادة من «اقتصاديات الكثافة» التي تتيحها المدن الكبيرة في العادة. 

فإذا سمحت الحكومة بكثافة سكانية أكبر في كبرى مدن الصين يمكن أن تزيد الناتج المحلي الإجمالي للفرد في هذه المدن بنسبة 9%. 

التخفيف من هذه القيود يمكن أن يحسِّن أداء خدمات الصين، ويجعلها تزيد الأجور دون رفع الأسعار بسرعة. وحتى إذا اتضحت صعوبة ذلك يجب ألا يفرِط قادة الصين في القلق من «مرض التكلفة»؛ فهو -إذا تحدثنا بِدِقَّة- ليس داء على الإطلاق. ارتفاع أسعار الخدمات وراءه ارتفاع الأجور، وهذا شيء يجب الاحتفاء به؛ فالنمو في الصناعات الأخرى هو ما يحفز ارتفاع الأسعار في الخدمات. تكلفة تذكرة الحفل الموسيقي ترتفع من تكلفة سلعة صناعية واحدة إلى عشرين سلعة، لكن ذلك يحدث فقط؛ لأن أجزاء الاقتصاد الأخرى زادت إنتاجيتها عشرين ضعفا. 

إلى ذلك؛ في حالة الصين تجلب هذه القوى نوعا من العزاء. فالسبب الوحيد وراء استمرار ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة قياسا بالناتج الصيني هو أن الخدمات الأمريكية تحقق أسعارا أعلى. من الممكن تضييق الفجوة إذا استمرت الصين في إنفاق المزيد على القطاع «الثالث» لاقتصادها. لا ينبغي الخشية من «مرض التكلفة» الذي يقول به باومول، بل يمكن أن يكون القوة التي تجعل اقتصاد الصين رقم واحد في نهاية المطاف.