هل ترجع أمريكا إلى الانعزالية؟

05 سبتمبر 2023
05 سبتمبر 2023

لقد كشفت المناظرة الأولى بين مرشحي الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام المقبل عن انقسامات كبيرة بشأن السياسة الخارجية، وبينما دافع نائب الرئيس الأمريكي السابق مايك بنس والسفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي عن دعم أمريكا لأوكرانيا فيما يتعلق بالحرب التي تشنها روسيا، أعرب حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي عن شكوكهما. لقد غاب الرئيس السابق دونالد ترامب ــ المرشح الأوفر حظا بلا منازع ــ عن هذا الحدث، لكن هو أيضا اعترض على مشاركة الولايات المتحدة في ذلك الصراع.

تظهر استطلاعات الرأي أن قواعد الحزب الجمهوري منقسمة مثل المرشحين حيث يثير هذا مخاوف من أنه إذا فاز جمهوري انعزالي في عام 2024، فقد يمثل ذلك نقطة تحول للنظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية والذي تأسس في نهاية الحرب العالمية الثانية.

تاريخيا، كان الرأي العام الأميركي يتأرجح بين الانفتاح والانغلاق، وبعد أن أدرك الرئيس فرانكلين روزفلت العواقب المأساوية للانعزالية في ثلاثينيات القرن العشرين، أطلق العملية التي بلغت ذروتها بإنشاء مؤسسات بريتون وودز في عام 1944 والأمم المتحدة في عام 1945، ثم أدت قرارات الرئيس هاري ترومان بعد الحرب إلى إنشاء تحالفات دائمة واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في الخارج حيث استثمرت الولايات المتحدة بكثافة في إعادة إعمار أوروبا من خلال خطة مارشال في عام 1948وأنشأت منظمة حلف شمال الأطلسي الناتو في عام 1949 كما قادت تحالف الأمم المتحدة الذي قاتل في كوريا في عام 1950. لقد كانت هذه الإجراءات جزءا من استراتيجية واقعية لاحتواء القوة السوفييتية، ولكن تم تفسير الاحتواء بطرق مختلفة حيث انخرط الأمريكيون لاحقا لذلك في مناقشات مريرة وأكثرها على أساس حزبي حول التدخلات في البلدان النامية مثل فيتنام والعراق، ومع ذلك وعلى الرغم من التساؤلات المطروحة بشأن أخلاقيات التدخل، فإن قيمة الحفاظ على النظام المؤسسي الليبرالي كانت أقل إثارة للجدل بكثير، وكما لاحظ الأمريكي رينهولد نيبور فإن «الغموض المحظوظ» الذي تتسم به الأممية الليبرالية أنقذها من الاستسلام للجمود الأيديولوجي. وهكذا تمتع النظام العالمي الليبرالي بدعم واسع النطاق في دوائر السياسة الخارجية الأميركية لعقود من الزمن بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وجد طرح ترامب بأن تحالفات ومؤسسات ما بعد عام 1945 قد أفادت الآخرين على حساب أمريكا صدى قويا بين العديد من الناخبين، وفي واقع الأمر فإن جاذبية ترامب الشعبوية استندت إلى أكثر من مجرد الهجوم على السياسة الخارجية للولايات المتحدة حيث استغل الغضب الواسع النطاق إزاء الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن العولمة والركود العظيم بعد عام 2008 كما استغل التغيرات الثقافية المرتبطة بالعرق، ودور المرأة، والهوية المتعلقة بنوع الجنس والتي أدت لحدوث استقطاب، ولكن من خلال إلقاء اللوم فيما يتعلق بالمشاكل الاقتصادية على «اتفاقيات التجارة السيئة مع دول مثل المكسيك والصين وعلى المهاجرين الذين ينافسون على الوظائف»، نجح ترامب في ربط الاستياء المحلي بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. وبطبيعة الحال، لم يكن ترامب أول من طبق هذه الصيغة حيث كان للاستجابة الشعبوية الحالية سوابق في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. لقد وصل أكثر من 15 مليون مهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين الأولين من ذلك القرن مما أدى إلى إثارة مخاوف العديد من الأمريكيين البيض من أن هؤلاء سوف يستحوذون على البلاد، وفي أوائل العشرينيات من القرن نفسه، ساعدت جماعة كو كلوكس كلان التي عادت إلى الظهور مجددا في الدفع قدما بقانون الأصول الوطنية «لمنع السيطرة على العرق الشمالي»، وللحفاظ على أمريكا الأقدم والأكثر تجانسا. وعلى نحو مماثل، عكس انتخاب ترامب في عام 2016 الخلافات العرقية والإيديولوجية والثقافية العميقة التي زادت منذ ستينيات القرن العشرين ولم يكن هو الذي تسبب بها.

وفي حين يخشى العديد من المحللين أن يؤدي الانغلاق الأمريكي إلى شكل من أشكال الفوضى الدولية وهي تلك الفوضى التي ابتلي بها العالم في ثلاثينيات القرن العشرين، يرى أنصار ترامب أن موقف إدارته الأقل سخاء والأكثر صرامة نتج عنه استقرار أكبر في الخارج بالإضافة إلى الدعم الداخلي، وعلى أي حال فإن انتخاب ترامب مثل تحولا واضحا عن التقاليد الليبرالية.

يعتقد البعض أن صعود ترامب يعود إلى فشل النخب الليبرالية في أن تعكس الاختيارات الأساسية للشعب الأمريكي، ولكن هذا تفسير سطحي، بالطبع هناك اتجاهات عديدة ضمن الرأي العام الأميركي، والمجموعات النخبوية بشكل عام أكثر اهتماما بالسياسة الخارجية من عامة الناس، ومع ذلك، لدينا فكرة جيدة عن مواقف الناس في الأزمان المختلفة. يجري مجلس شيكاغو للشؤون العالمية منذ عام 1974 استطلاعات الرأي للأميركيين حول ما إذا كان من الأفضل لعب دور عالمي نشط أو البقاء بعيدا عن الشؤون العالمية. وخلال تلك الفترة، كان ما يقرب من ثلث عامة الناس وبشكل يعكس الإيمان بتقاليد القرن التاسع عشر، انعزاليين على نحو ثابت. لقد وصل هذا الرقم إلى 41% في عام 2014، ولكن بعكس الاعتقاد الخاطئ السائد لم يكن عام 2016 ذروة الانعزالية في مرحلة ما بعد عام 1945، وفي وقت الانتخابات ذكر 64% من الأمريكيين أنهم يفضلون المشاركة النشطة في الشؤون العالمية، وارتفع هذا العدد إلى 70% في عام 2018 ــ وهو أعلى رقم مسجل منذ عام 2002. وعلى الرغم من أن الانعزالية واسعة النطاق على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين غير مرجحة إلى حد كبير، فإن العديد من المحللين ما زالوا يشعرون بالقلق من أن الفشل في دعم أوكرانيا قد يؤشر لعودة الانغلاق الأمريكي مما قد يضعف النظام الدولي بشكل خطير. إن الحرب على أوكرانيا تعد انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة، وإذا انتصرت روسيا واستمرت في احتلالها للأراضي الأوكرانية، فسيكون ذلك تقويضا للمبدأ الليبرالي الذي يحظر استخدام القوة لتغيير حدود أي بلد، وبالتالي فإن التضامن بين دول حلف شمال الأطلسي في فرض العقوبات وتزويد أوكرانيا بالمعدات العسكرية ليس أخلاقيا فحسب، بل إنه أيضا عملي وواقعي.

إن النتيجة في أوكرانيا سيكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل أوروبا والعالم ككل، وعلى الرغم من أن بوتين والرئيس الصيني شي جين بينج دخلا في شراكة «بلا حدود» قبل الحرب مباشرة، إلا أن الصين كانت حذرة، حتى الآن، في تقديم الدعم المادي لروسيا. إن مما لا شك فيه أن القادة الصينيين يشعرون بالقلق من مجازفة بوتين ومن أن هذا التحالف قد أصبح مكلفا للغاية بالنسبة للقوة الناعمة الصينية، ولكن إذا انتصر بوتين فقد تستنتج الصين أن خوض مثل هذه المجازفات يؤتي بثماره ــ وهو الدرس الذي سوف تتعلمه بقية دول العالم كذلك. إن هؤلاء الذين يزعمون أن أميركا ليس لديها مصلحة وطنية مهمة في مساعدة أوكرانيا يتجاهلون دروس التاريخ. إن سذاجتهم (إن لم تكن سوء نيتهم) ينبغي أن تجعلهم غير مؤهلين للترشح للرئاسة.