هل تخلى التلفزيون عن مكانته؟

28 مارس 2023
28 مارس 2023

حتى وقت قريب كنا ننظر إلى جهاز التلفزيون باعتباره فردا لا غنى عنه من أفراد الأسرة، له مكان ثابت أو شبه ثابت في المنزل، يستقبل العائدين من أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم ويجمعهم حوله لمعرفة ما يجري في العالم من أحداث أو للترويح عن النفس بمباراة رياضية أو برنامج أو مسلسل أو فيلم سينمائي.

وكانت مكانة التلفزيون تزداد في كل الدول العربية في المناسبات الخاصة، مثل شهر رمضان المبارك الذي تعلن فيه قنوات التلفزيون الطوارئ، وتنتج له خصيصا العشرات من البرامج والأعمال الدرامية والمسابقات التي تجمع الأسرة من جانب، وتحقق أرباحا طائلة لهذه القنوات من عائدات الإعلانات التجارية من جانب آخر.

رغم أنه ما زالت هناك بقايا من هذه المكانة الفريدة التي يتمتع بها التلفزيون في جمع الناس حول الشاشة الصغيرة، التي لم تعد صغيرة كما كانت وأصبحت أحجامها ودقة وضوحها ونقاء صورتها تنافس شاشات السينما بل وتتفوق عليها، فإن هناك تغيرات ملموسة شملت جميع مناحي الحياة، وأدت إلى تغيير علاقة البشر بهذه الوسيلة الإعلامية التي جمعت على مدار تاريخها مميزات ووسائط الوسائل السابقة عليها، لدرجة أن الكثيرين منا أصبحوا ينصرفون حتى في شهر رمضان عن هذا الكم الهائل من المسلسلات والبرامج التلفزيونية، وبالتالي لم تعد الشاشة الكبيرة الملونة تجمع أفراد الأسرة الذين ما إن ينتهوا من تناول إفطارهم حتى يعود كل منهم إلى جهاز الهاتف الذكي الذي يحمله، متجاهلين تماما وجود التلفزيون الذي يبقى مغلقا أو في أفضل الأحوال يعمل دون صوت ودون أن يجذب انتباه أحد!!

لقد أصبح الناس أسرى للشاشات الصغيرة سهلة الحمل والمصممة خصيصا لهم التي لا يستخدمها سواهم، كشاشات الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية والكمبيوتر الشخصي التي يمكن من خلالها متابعة الأعمال التلفزيونية ومشاهدتها بوضوح، وفي الأوقات التي يريدونها دون الحاجة إلى جهاز التلفزيون التقليدي، ودون التقيد بمواعيد البث التي تضعها القنوات التلفزيونية. لم يعد مشاهد اليوم المحاط بكم هائل من البث الإعلامي المباشر عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي يستطيع الجلوس لمدة ساعة أو أكثر لمشاهدة حلقة من مسلسل أو نشرة إخبارية مفصلة، ويفضّل على ذلك أن يتابع عناوين الأخبار في حسابات وسائل الإعلام على منصات التواصل الاجتماعي، ومتابعة لقطات من المسلسلات والأفلام على منصات الفيديو ومواقع المحطات التلفزيونية. لذلك يمكن القول: إن صناعة التلفزيون خسرت الملايين من جمهورها في السنوات الأخيرة لصالح تلك الشبكات التي أجبرت القنوات التلفزيونية على تعديل إنتاجها، وبث نسخ مختصرة منه عبر المنصات الرقمية حتى تستطيع البقاء والاستمرار في السوق.

انتهى تقريبا الزمن الذي كان يجمع التلفزيون حوله كل أفراد الأسرة لمتابعة عمل درامي أو برنامج معين، وخلال سنوات قليلة قادمة قد تختفي صورة مشاهد التلفزيون التقليدي الذي يجلس دون حراك ممسكا بجهاز التحكم عن بعد (الريموت كونترول) ويتنقل من قناة إلى قناة بحثا عن شيء يشاهده. وقد يتحول جهاز التلفزيون مثل الراديو إلى جهاز يعمل فقط في الخلفية وفي منطقة هامش الشعور لغالبية الناس، ولعل ما يؤكد ذلك اختفاء المسلسلات والبرامج التي كان يستمر بثها سنوات طويلة من جداول البث التلفزيونية مثل حلقات المسلسل الأمريكي الكوميدي «الجميع في العائلة» الذي تم بثه على شبكة «سي بي إس» لمدة ثمانية مواسم من عام 1971 إلى 1979 خلال العصر الذهبي للتلفزيون، وقبل تحول الإنترنت إلى وسيلة اتصال جماهيرية، وكان من أنجح المسلسلات الكوميدية، وظل هو البرنامج الأعلى تصنيفا في الولايات المتحدة لمدة خمس سنوات متتالية، وفاز بأربع جوائز «إيمي» على التوالي عن المسلسلات الكوميدية المتميزة للأعمال التلفزيونية، وهي مثل جوائز الأوسكار بالنسبة لصناعة السينما.

هذه التحولات البنيوية في صناعة التلفزيون غيرت أيضا استراتيجيات عمل تلك الصناعة الإعلامية المهمة التي كانت حتى وقت قريب تتكون من ثلاثة قطاعات رئيسية، هي قطاع قنوات البث التلفزيوني الأرضي، التي اختفت أو كادت أن تختفي تماما من العالم كله، وقطاع قنوات البث التلفزيوني عبر الكيبل وعبر الأقمار الصناعية، التي تشمل القنوات المدفوعة والقنوات المجانية، بالإضافة إلى قطاع قنوات البث التلفزيوني عبر الإنترنت ومنصات الأجهزة المحمولة والهواتف الذكية التي دانت لها السيطرة على سوق الإنتاج والعرض التلفزيوني في الفترة الأخيرة.

والواقع أن كل قطاع من هذه القطاعات له التكنولوجيا الخاصة به ولاعبوه الرئيسون وبرامجه المتميزة، ومع ذلك فإن الاندماج بينها أصبح قائما وبشدة في السنوات الأخيرة. وعلى سبيل المثال عرفت برامج القنوات التلفزيونية الأرضية طريقها إلى قنوات الكيبل ولم تعد هناك أي قناة أرضية تقريبا لا تمتلك موقعا في البث الفضائي، كما أن تلفزيون الويب والمنصات التلفزيونية الرقمية أصبحت تعتمد على إنتاج القنوات الأرضية والفضائية.

إن علينا أن ندرك الآن وليس غدا إننا مقبلون على تغيرات دراماتيكية في صناعة التلفزيون يجب أن نستعد لها. فمع تزايد عدد المشتركين في خدمات الإنترنت في العالم، وتحسن نوعية الاتصال بالشبكة وزيادة سرعتها أصبح بالإمكان استقبال وتنزيل وتشغيل الفيديو المتدفق على الشبكة. وقد دفعت هذه التطورات سواء على صعيد الشبكة أو صعيد الأجهزة التي أصبح بالإمكان ربطها بالشبكة المحطات والشبكات التلفزيونية وشركات الكيبل والاتصالات والأقمار الصناعية إلى استخدام الإنترنت وتكنولوجيا الهواتف الذكية في توزيع برامجها على الجمهور.

لقد أدركت صناعة التلفزيون أن عملية المشاهدة لم تعد تقتصر على أجهزة التلفزيون التقليدية، وبالتالي سعت إلى الاستفادة من الاندماج الرقمي عن طريق إتاحة برامج التلفزيون المختلفة على المنصات الرقمية المختلفة لتحقيق أرباح من الإعلانات ومن المشاهدين أيضا.

وفي تقديري أن التلفزيونات العربية سواء كانت مملوكة للحكومات أو مملوكة لشركات تدعمها أجهزة الدولة أو شركات مساهمة أو أفراد، يجب أن تبادر من الآن للبحث في مستقبلها، وألا تنتظر كثيرا كما انتظرت الصحافة الورقية التي تحتضر الآن. والحل العاجل هو التحول إلى فكرة الشبكات التلفزيونية المتكاملة والمنصات المتعددة. ويكفي أن نشير هنا إلى أن الغالبية العظمى من محطات التلفزيون في الولايات المتحدة الأمريكية يرتبط بشبكة تلفزيونية كبيرة تؤمن لها المواد التلفزيونية الجاهزة للبث وملء بعض ساعات الإرسال. وتمثل شبكات «ايه بي سي»، و«سي بي اس»، و«فوكس»، و«ان بي سي» الشبكات التلفزيونية التجارية الأكبر في الولايات المتحدة الأمريكية، وتصل إلى أعداد ضخمة من المشاهدين من خلال توزيعها للبرامج التلفزيونية على مئات القنوات المحلية سواء التي تمتلكها وتديرها، أو تلك المتعاونة معها.

ولا يتوقف دور هذه الشبكات على توزيع الإنتاج التلفزيوني فقط، إذ إن لديها قطاعات كبيرة لإنتاج الأخبار والبرامج الإخبارية والرياضية والمسلسلات الكوميدية والدراما وكل أشكال الإنتاج التلفزيوني الأخرى. وتمتلك كل منها وتدير أعدادا من القنوات التلفزيونية المحلية في المدن الكبرى، وتزود القنوات التي لا تمتلكها بالبرامج مقابل مشاركتها في أرباح الإعلانات التي تذاع خلال عرض البرنامج أو مقابل بيع حق إذاعة هذه البرامج إلى المحطات. وقد بدأت في السنوات الأخيرة في إضافة مصادر أخرى للدخل إلى جانب الإعلان، مثل الاشتراكات التلفزيونية في الخدمات المدفوعة، والأقمار الصناعية، وتطبيقات الهواتف الذكية، والأجهزة المحمولة.

يجب أن نفكر في مستقبل تلفزيوناتنا العربية قبل أن يأتي الزمن الذي ينصرف فيه الناس عنها، وهو زمن لا يبدو بعيدا.